ثورة ماركس في نظرية المعرفة |
كتبه: عبد السلام الموذن |
1- تأثير ابن رشد على الفلسفة الأوربية في معرض حديثه عن أبطال عصر النهضة الأوربي، ترك إنجلز العنان لقلمه لكي ينساب مع هذا الوصف الملحمي: لقد كان ذلك العصر في حاجة إلى عمالقة، ولقد أنجب عمالقته عمالقة في الفكر، وعمالقة في العواطف المتأججة وقوة الشخصية، وعمالقة في الاطلاع الواسع والشمول الثقافي. إن الرجال الذين أسسوا السيطرة الحديثة للبورجوازية، كانوا كل شيء باستثناء أنهم لم يكونوا سجناء للأفق البورجوازي الضيق. بالعكس، إن روح المغامرة للعصر، قد مستهم جميعا، إلى هذا القدر أو ذاك، برياحها. ومن الصعب أن نجد في ذلك الوقت، رجلا ذا أهمية، لم يقم بأسفار كثيرة، ويتكلم أربع أو خمس لغات، ويلمع في عدة اختصاصات. إن ليونارد دوفانشي، لم يكن رساما كبيرا وحسب، ولكن أيضا عالما رياضيا، وميكانيكيا ومهندسا عظيما، تدين له عدة فروع متنوعة في العلوم الفيزيائية، بالعديد من الاختراعات الهامة. (...). كما أن ماكيافيلي، كان في نفس الوقت، رجل دولة، ومؤرخا، وشاعرا، وأول كاتب عسكري في العصور الحديثة يستحق الاستشهاد بمؤلفاته. ولوثر لم يعمل فقط على تنظيف اسطبلات "الاوجياس" من مزبلة الكنيسة، بل وأيضا إسطبلات اللغة الألمانية، ذلك أنه هو الذي يرجع إليه الفضل في خلق النثر الألماني الحديث، وهو الذي أباع نص ولحن ذلك النشيد، المليء بالايمان بحتمية النصر، والذي أصبح بمثابة نشيد « المارساييز » للقرن السادس عشر. (يبدأ ذلك النشيد الكفاحي بهذا البيت:
Ein feste Burg ist unser Goot إن أبطال ذلك العصر، لم يصبحوا بعد عبيدا لقسمة العمل، وكلنا يدرك مدى قصور الفكر وضيق الأفق، الذي أحدثته قسمة العمل في أولئك الذين جاؤوا بعد الأبطال الأوائل. أما ما كان يميز هؤلاء الأبطال بصفة خاصة، فهو أنهم جيعا تقريبا، كانوا منخرطين بكل جوارحهم في حركة عصرهم، وفي الصراع العملي المباشر. فقد كانت لهم مواقف، وكانوا متحزبين ويشاركون في المعارك: فمن منهم من كان يتصارع بلسانه وقلمه، ومن كان يتصارع بسيفه، وهناك في الغالب من كان يتصارع بهما معا. إن هذا الغنى في قوة الشخصية، قد جعل منهم رجالا كاملين. أما علماء المكاتب فكانوا يمثلون حالة استثنائية: إما أنهم كانوا أشخاصا من الدرجة الثانية أو الثالثة، وإما أنهم كانوا ضيقي الأفق وحذرين، لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم للهلاك. (إنجلز - "جدل الطبيعة" - المطبوعات الاجتماعية - باريس - ص: 30-31) بيد أن إنجلز الذي عودنا دائما على شمولية الفكر النقدي، واحتقاره للايديولوجيات المحافظة وللأحكام المسبقة، لم يفته هذه المرة أيضا أن يضع تلك اللوحة الملحمية في إطارها التاريخي الصحيح إذ أن أبطال عضر النهضة لم ينطلقوا من العدم، بل كان وراءهم تاريخ. وهذا التاريخ هو تاريخ المفكرين والفلاسفة العرب. ولذلك كثيرا ما أشاد إنجلز (شأنه شأن ماركس) بإعجاب، بدور علماء العرب في النهضة الأوربية. فهو يقول عنهم هنا في سياق حديثه عن أبطال عصر النهضة: « لقد ورث المفكرون الأوربيون حرية الفكر المشرق، عن المفكرين العرب... » (المصار السابق - ص: 30). إن ابن رشد الفيلسوف المغربي الفذ، كان أبرز أولائك المفكرين العرب، الذين تركوا بصمات عميقة على الفكر الأوربي الحديث. لذلك نرى ضرورة الانطلاق منه، لرسم الصيرورة الفكرية التارخية التي مهدت لفكر ماركس، لكي نتمكن من خلالها من اكتشاف، بشكل ملموس، الثورة الجذرية والشاملة التي أحدثها ماركس في نظرية المعرفة البشرية.
1- تأثير ابن رشد على الفلسفة الأوربية من الوجهة التاريخية الأصلية، يمكن القول، بأن الانسان بدأ يفكر تفكيرا منطقيا، عندما بدأ يفكر تفكيرا فلسفيا. ولقد بدأ الانسان يفكر تفكيرا فلسفيا، حينما أخذ يبتعد ويتخلى عن التفكير الأسطوري القديم. فالفلسفة إذن، تعارض الشكل الخيالي للأسطورة، بالشكل المنطقي للعقل والمفهوم. لكن العقل يستند في تفكيره، على مجموعة من المقولات والقواعد والصور الذهنية (des catégories logiques)، مثل: العام والخاص، الوحدة والتنوع، الصدفة والضرورة، التماثل والاختلاف، إلى غير ذلك. فالتفكير المنطقي يبدأ إذن لدى الانسان، عندما تصبح تلك القواعد المنطقية تتحكم في حركة عقله، أي عندما يصبح قادرا على تمييز ما هو ثابت من خلال المتغير، والعام في إطار الخاص، والصدفة في الضرورة... إلخ. غير أنه لكي تظهر وتترسخ في الذهن مقولات: الثابت، المتماثل، العام، الضروري، فهذا يفترض مسبقا حصول وترسخ نوع من النظام والاستقرار داخل المجتمع البشري. وهذا بالضبط ما تحقق في المجتمع الطبقي القديم، وذلك عبر: ثبات الأعمال الحرفية، وانتظام التبادل في السوق، وتأطير العلاقات الاجتماعية في مؤسسات سياسية، وتنظيم التعليم... إلخ. إن المقولات المنطقية من نوع: المتماثل، والعام، والضروري، تنتمي إلى مقولة منطقية أشمل، هي الجوهر أو الماهية. والمقولات الأخرى من نوع: المتغير، والخاص، والصدفة، تنتمي إلى مقولة منطقية أشمل، هي الظاهرة. وحينما تصبح الفلسفة هي النقيض التاريخي للأسطورة، ويصبح الشكل المنطقي للعقل هو النقيض التاريخي للشكل الخرافي للأساطير القديمة، حينئذ تصبح الاشكالية التالية: استخراج ماهية الشيء من ظواهره، هي المهمة المركزية للمعرفة الفلسفية. ومن أجل استخراج تلك الماهية (أو الجوهر)، وضبطها وعزلها، لجأت الفلسفة إلى تجريدها من الظواهر الحسية للشيء، أي فصل الماهية (التي يفترض أنها ثابتة)، عن كل ارتباطاتها العابرة وغير الضرورية والموجودة بالصدفة. إن دفع ذلك التجريد إلى حده الأقصى (الذي تعتبره الفلسفة، الطريقة الوحيدة الممكنة لتخليص جوهر الأشياء من الارتباطات الحسية، المعيقة للامساك بذلك الجوهر ومن ثم اكتشافه)، سيؤدي إلى جعل نقطة الانطلاق للبحث الفلسفي هي: الوجود الخالص، أي الوجود العام بوصفه كائنا خالصا، متجردا من كل ما هو زائل وحسي. وإذن فإن الأساس المنهجي الذي أقامت عليه الفلسفة تأملاتها، يتحدد في التساؤل التالي: ما هي الطبيعة النهائية لكل الكائن ؟ بمعنى أن جميع الكائنات لها جوهر واحد مشترك، وبالتالي يجب اكتشافه لادراك كنه وسر الوجود. إن البحث في المطلق.. إن علم الوجود الخالص (الأنتولوجيا) هو إذن الموضوع المركزي لفلسفة الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة). وهذه الاشكالية الميتافيزيقية، قد استغرقت ألفي سنة من النقاش الفلسفي، بدون أن يتمخض ذلك عن جواب يشفي الغليل. والسبب أن الاشكالية هي في أصلها إشكالية مغلوطة، ولذلك لا حل لها في الاطار الذي وضعت فيه، وبالطريقة التي طرحت بها. إن الميتافيزيقا إذن، لم تستطع طرح العلاقة بين ماهية الشيء وظاهره، طرحا سليما.. لم تستطع حل التناقض بين الماهي القابل للادراك بواسطة العقل، وبين الظاهرة القابلة للاحساس بواسطة الحواس. إن هذا الاشكال الفلسفي المستعصي عن الحل، قد دفع الميتافيزيقا إلى إقامة فصل تام وقاطع، بين جوهر الشي، وظاهره.. بين عالم الادراك العقلي، وعالم الاحساس الحواسي. والخلاصة التي انتهى إليها ذلك المنطق، هي أن جوهر الأشياء لا ينتمي إلى الأشياء ذاتها، أي إلى الظواهر الحسية نفسها، بل إلى عالم خارجها ومستقل عنها. وهذا العالم هو عالم الفكر أو الروح. وهكذا إذن نشأ الاتجاه المثالي داخل الفلسفة. فالفلسفة المثالية، بالتالي، لا تعني شيئا آخر، غير انتماء ماهية الأشياء وجوهرها إلى عالم الفكر والروح، لا إلى عالم تلك الأشياء الحسية نفسها. لكن البنيان النظري الذي شيدته الفلسفة المثالية، لم يكن بذلك التماسك المنطقي الذي اعتقدته تلك الفلسفة. فالفلسفة المثالية كانت تخترقها تناقضات مدمرة يصعب احتواؤها. إن أبرز تلك التناقضات، التناقضان التاليان: 1) إذا كاذ الجوهر لا ينتمي إلى العالم الحسي، فكيف يعقل أن يكون إذن ذلك الجوهر في نفس الوقت جوهرا للعالم الحسي ؟ 2) إذا كان الجوهر متميزا، وثابتا، وضروريا، فكيف يعقل أن يكون في نفس الوقت، هو حقيقة العالم الحسي، الذي كله حركة، وتغير، وعلاقات عرضية ؟ إن هذه التناقضات ستؤدي إلى بلورة اتجاه فلسفي نقيض للاتجاه المثالي. وهذا الاتجاه الجديد هو الاتجاه المادي (بصيغته الكلاسيكية). وإذن فإذا كان الاتجاه المثالي، يؤكد عل أن الجوهر له وجود فعلي، وأن واقعه واقع فكري. فإن الاتجاه المادي، على العكس، ينكر أي وجود للجوهر. وبالنسبة إليه، فإن مفاهيم الجوهر والماهية، هي مجرد تجريدات ذهنية فارغة، لا أساس لها في الواقع. والأشياء الوحيدة التي يعترف بوجودها، هي الأشياء الحسية الملموسة والعينية. إن الاتجاه المادي أراد إذن، أن يتجاوز تناقضات الاتجاه المثالي، عن طريق إلغاء مفهوم الجوهر من الفكر المنطقي الواقعي. فهل أفلح في ذلك ؟ لم يفلح. إنه هو نفسه اخترقته تناقضات مدمرة، كاذ أبرزها التناقض التالي: فإذا كانت الأشياء الملموسة، هي وحدها تتمتع بصفة الوجود، وإذا كانت العموميات المجردة مجرد كلمات فارغة لا تعكس أي شيء في الواقع المادي، فكيف يمكن إذن فهم البعد الموضوعي للعقلنة وللمفهوم المنطقي ؟ كيف يمكن للفكر أن يكون قادرا على تجاوز الأفق الضيق للمعرفة الحسية المباشرة ؟ (فبعض الفلاسفة مثلا، استطاعوا استنتاج فرضيات غير مرئية عن طريق خاصيات مرئية للأشياء. وهناك العديد من الكواكب الفلكية التي تم اكتشافها فرضيا، بواسطة ذلك الاستنباط المنطقي، قبل أن يتأكد وجودها الواقعي الملموس عن طريق التليسكوب). إن الفلسفة المادية بدورها، قد عجزت إذن عن تجاوز تناقضاتها البنيوية. وهكذا ظل الصراع قائما بين الاتجاه المثالي، الذي كان يتزعمه سقراط وأفلاطون، وبين الاتجاه المادي الذي كان يتزعمه ديمقريط وأبيقور، إلى أن جاء أرسطو. ما هو جوهر فلسفة أرسطو ؟ إن النهج الذي اتبعه أرسطو في بناء منظومته الفلسفية الخاصة، هو التالي: لقد اعتبر أن كلا من الفلسفة المثالية والفلسفة المادية، تتكونان في نفس الوقت من جوانب خاطئة وجوانب صائبة. من هنا فقد حاول إقصاء الجوانب الخاطئة، والاحتفاظ بالجوانب الصائبة، وإقامة تركيب اندماجي بين ما هو صائب في الفلسفتين معا. إن محاولته إذن محاولة توفيقية تصالحية. هكذا انتقد الفلسفة المثالية، لأنها زعمت بأن الجوهر لا ينتمي إلى العالم المحسوس، وانتقد الفلسفة المادية، لأنها أنكرت أصلا وجود الجوهر. وعلى هذه الطريق الوسطى بين النقيضين، قام ببلورة مفاهيمه الفلسفية الخاصة. إن فلسفة أرسطو تقوم برمتها على الأساس التالي: علة العلاقة بين الصورة والمادة. فبالنسبة لأرسطو، إن الجوهر يمثل بالنسبة للكائن، ما تمثله الصورة بالنسبة للمادة. فكما أنه لا يمكن تصور وجود صورة بدون مادة، فكذلك لا يمكن تصور وجود كائن ملموس... واقع محسوس بدون جوهر. إن الصورة تعطي للمادة شكلها المتميز، والجوهر يعطي للكائن الملموس هويته الخاصة. لكن أرسطو حين يؤكد على الوحدة بين الصورة والمادة، فإنه مع ذلك لا يطابق بينهما: فالصورة لها وجود متميز حتى وإن توحدت بالمادة.. حتى ولو منحتها شكلا. والسبب في ذلك أنه من جهة، حين يتم التعميم بين عدة أشياء، فإن جميع المميزات الخاصة لتلك الأشياء، يتم إهمالها لكي تبقى الصورة المجردة عن الكل وفوق الكل. ومن جهة ثانية، فالأشياء المادية تزول وتفنى، بينما الصور التي كانت ملتصقة بها، تبقى بعد ذلك الفناء. إن هذه المنظومة الفلسفية التي بناها أرسطو، والتي حاول من خلالها أن يحل التناقضات التي كانت تعصف بالفلسفتين المثالية والمادية معا، قد استطاعت فعلا آن تهيمن وتصمد عدة قرون، إلى أن جاء ابن رشد. إن عبقرية ابن رشد تكمن في اكتشافه للخطأ النظري العميق، الذي قامت عليه منظومة أرسطو. وهذا الخطأ يتجلى في التمييز الجوهري الذي وضعه أرسطو بين المادة والصورة. إذ في رأي أرسطو، فإن الأشياء المادية معرضة للزوال والفناء، بينما الصورة باقية وغيرفانية. والاسهام الأساسي الذي أتى به ابن رشد، لتطوير الفلسفة البشرية، هو أولا، تأكيده على أن الطرح الأرسطي للعلاقة بين المادة والصورة، بالشكل الذي طرحها به، (أي تمييزهما عن بعضهما البعض تمييزا جوهريا)، يؤدي حتما إلى انفجار المنظومة الأرسطية من الداخل، وانشطارها إلى شطرين متناقضين. بعبارة أخرى، أن ابن رشد اكتشف بأن فلسفة أرسطو قابلة بنيويا لتأويلين متناقضين: تأويل مثالي وتأويل مادي. أما الاسهام الثاني، وهوالحاسم، فهوأن ابن رشد قدعمل على تطوير مفاهيمه الفلسفية انطلاقا من التأويل المادي لفلسفة أرسطو. وهكذا لم تمر على وفاة ابن رشد في مدينة مراكش المغربية سوى سبعا وعشرين سنة، حتى ولد في قصر "روكازيكا" بإيطاليا، طوماس الأكويني الذي سيتزعم حركة التأويل المثالي لفلسفة أرسطو، داخل الفلاسفة السكولاستيكين. إن أفكار أرسطو التي تم تأويلها تأويلا مثاليا، قد تم دمجها في اللاهوت المسيحي. وفلسفة طوماس الأكويني، التي تأسست على التأويل المثالي لفلسفة أرسطو، قد أصبحت هي الفلسفة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية في عصر الاقطاع الأوربي. ولأن فلسفة ابن رشد كانت ذات توجه مادي، وكانت بالتالي تهدد الايديولوجيا المحافظة، السائدة داخل الكنيسة الكاثوليكية، فلذلك وجدت نفسها تتعرض إلى حملة واسعة من التشهير والتضييق في البلدان الأوربية، وخاصة إيطاليا، من طرف فلسفة طوماس الأكويني المثالية. بل إن هذه الأخيرة، لم تظهر في الأصل إلا كرد فعل على فلسفة ابن رشد. فالتأويل المثالي الذي أعطاه طوماس الأكويني لفلسفة أرسطو، كان الغرض منه محاربة التأويل المادي الذي أعطاه إياها ابن رشد. وهكذا فالصراع الفكري والفلسفي العنيف، الذي شهدته أوربا في المرحلة ما قبل عصر النهضة، كان في أساسه بين فلسفة طوماس الأكويني المحافطة، وفلسفة ابن رشد النقدية. ولما بزغ نمط الانتاج الرأسمالي في أوربا، ممهدا بذلك إلى ظهورعصر النهضة، الذي أحست فيه البورجوازية الناشئة بالحاجة إلى مفكريها الطبقيين، الذين يتولون مهمة التبشير والدفاع عن النظام الجديد، الذي وجد نفسه في تعارض مع النظام الاقطاعي الاسائد... فإن الأسلحة النظرية والفلسفية النقدية التي كانت متوفرة في ذلك الوقت، والتي خاض بها مفكروعصر النهضة البورجوازيون، حربهم الطبقية ضد الاقطاع والكنيسة، هي أسلحة فكر ابن رشد. إن جميع مفكري عصر النهضة الطليعيين، سينحازون إلى التأويل الذي أعطاه ابن رشد لفلسفة أرسطو، وسيتبنون منطلقاته وأفكاره في الصراع ضد فلسفة طوماس الأكويني، المعبر الايديولوجي عن مصالح الكنيسة والاقطاع. إن فلسفة ابن رشد إذن، قد مثلت قاعدة الانطلاق للعقلانية الأوربية الحديثة. لكن ما هو التأويل المثالي الذي أعطاه طوماس الأكوني لفلسفة أرسطو، وما هو التأويل المادي الذي أعطاه ابن رشد لنفس الفلسفة ؟ لنبدأ بالنقطة الأولى. لقد قلنا سابقا بأن أرسطو يضع تمييزا جوهريا بين المادة والصورة. فبالنسبة إليه، الأشياء المادية، زائلة وفانية ومعرضة للفساد والانقراض. بينما الصورة التي تلبسها تلك الأشياء، دائمة وغير فانة. من هذه الفجوة إذن التي تركها أرسطو في منظومته الفلسفية، تسرب طوماس الأكويني لتأسيس تأويله المثالي للفلسفة الأرسطية. إن منطق تفكير طوماس الأكويني كان على الشكل التالي: فبما أن هناك انفصالا بين المادة والصورة، بعد فناء الأولى. وبما أن الصورة تبقى مستقلة عن المادة، التي كانت مرتبطة بها، والتي منها تستمد شكلها الملموس. وإذن فإن الصورة التي لها القدرة على الاستمرار في الوجود، حتى بعد فناء مضمونها المادي، هذه الصورة إذن الغير فانية، لا يمكن أن تلتصق وتتحد مع الأجسام المادية الفانية، إلا بواسطة خالق هو نفسه غير فان. في رأي طوماس الأكويني إذن، إن الصورة لها شكل رباني، وأن الله هو الذي يتوسط بين الصورة الغير فانية والمادة الفانية، لتحقيق تركيب بينهما. والخلاصة: بما أن أرسطو يضع تماثلا بين الجوهر والصورة (ما يمثله الجوهر بالنسبة للعالم الحسي، هو نفس ما تمثله الصورة بالنسبة للمادة)، وبما أن الصورة ربانية وغير فانية، فبالتالي ينتهي طوماس الأكويني إلى نتيجة منطقية مفادها، أن جوهر الأشياء المادية هو حقيقة غير مادية. وبهذا يعود بفلسفة أرسطو، إلى الاتجاه المثالي الذي منه انطلقت لتتجاوز تناقضاته. أما ابن رشد الذي قد توقع ذلك التأويل المثالي لفلسفة أرسطو، قبل ولادة طوماس الأكويني نفسه، فإنه سلك نهجا مغايرا تماما. إن منطقه يقوم على الأساس التالي: كيف يعقل أن المادة التي تشكل مع الصورة وحدة عضوية، تفنى، بينما الصورة تبقى ! فإذا كانت المادة فانية، فإن الصورة هي الأخرى فانية بالضرورة. كيف يعقل أن الكائنات المادية تستمد صورها من واقع غير مادي ! إن اللجو إلى الله في هذه الأشياء لا يفسر شيئا. ولذلك انتهى ابن رشد إلى هذه الخلاصة الحاسمة: إن سر الصورة يجب البحث عنه في المادة نفسها. وبهذا الطرح، يكون ابن رشد قد عاد بفلسفة أرسطو إلى الاتجاه المادي، الذي منه انطلقت لتتجاوز تناقضاته. لكن ابن رشد لم يعد الاعتبار إلى الاتجاهات المادية الكلاسيكية وحسب، بل طعمها بتأكيده الصارم الموضوعي والمادي لمفهوم الجوهر (وهو ما لم يفعله لا أرسطو، بسبب نظرية التمييز بين الصورة والمادة، ولا ديمقريط وأبيقور وكل الماديين الآخرين، الذين كانوا ينكرون أصلا وجود الجوهر). إن بعض المفكرين البورجوازيين في أوربا، يقللون من شأن إسهامات ابن رشد في تاريخ الفلسفة البشرية. فبالنسبة إليهم، إن كل إسهاماته تنحصر في شرحه لفلسفة أرسطو. وكلمة شرح تعني بالطبع، إزالة الغموض عن الأفكار والمفاهيم الفلسفية الأرسطية المعقدة. وبالرغم أن الشرح نفسه ليس بالشيء الهين، خصوصا بالنسبة لفكر فيلسوف عملاق من طراز أرسطو، وفي وقت كانت فيه أوربا يعمها الجهل والأمية، إلا أن إسهامات ابن رشد مع ذلك، قد تجاوزت كثيرا دور الشرح. إن فلسفة ابن رشد قد مثلت تجاوزا تاريخيا لفلسفة أرسطو. وبدون الدخول في التفاصيل، يكفي الاشارة إلى الاطار العام. ما هو الجوهر الذي قامت عليه فلسفة أرسطو ؟ هو الاعتقاد بامكانية التوفيق والتوحيد بين الاتجاهين المثالي والمادي في الفلسفة. وما هو رد ابن رشد على ذلك ؟ هو البرهنة على استحالة ذلك. ونقطة انطلاق تلك البرهنة كانت، هي نقد ابن رشد للأطروحة المركزية التي تأسست عليها منظمومة أرسطو، وهي تمييزه الكيفي بين الصورة والمادة. إن هذه الشقة في العلاقة بين الصورة والمادة، التي حملتها معها الفلسفة الأرسطية منذ نشأتها، كانت بمثابة الجرثومة التي أودت بحياة منظومة أرسطو. ولقد جاء انهيار المنظومة الأرسطية، أولا على يد ابن رشد بنسفه للطابع التوفيقي لتلك المنظومة، وشقه الطريق المادي في الفكر الفلسفي. وثانيا، على يد طوماس الأكويني، الذي أعطى الضربة القاضية لتوفيقية أرسطو، من خلال شقه للطريق المثالي. إن تجربة أرسطو، وعبرها تجربتي ابن رشد وطوماس الأكويني، تؤكد على أن التناقضات بين المادية والمثالية، هو تناقض تناحري، ولذلك يستحيل حله في إطار وحدة توفيقية. إن التناقضات التي تسمح بذلك النوع من الحلول، هي وحدها التناقضات الغير تناحرية. إن السطور السابقة تكفي لتوضيح مدى الاسهام الهام لابن رشد في تاريخ الفلسفة البشرية. والسادة البورجوازيين الأوربيون، وكل من حذا حذوهم من عنصريين ومتعصبين، لم يكفهم مسخ فكر ابن رشد وحده، بل لقد مسخوا أيضا حتى اسمه نفسه. هكذا قد تحول بقدرة قادر، اسم "ابن رشد" العربي، إلى اسم « أفيرويس » اللاتيني ! ولحسن الحظ، أن أوربا الرأسمالية، شأنها شأن أي واقع متناقض آخر، لم تنجب البورجوازيين فقط، بل ونقيضهم الشيوعيين كذلك. بالأمس تدخل ماركس وإنجلز للدفاع عن الحقيقة التاريخية وإنصاف علماء العرب، واليوم تصدى الفيلسوف الشيوعي الفرنسي الكبير « لوسيان لوسيف »، في كتابه العملاق « مدخل لدراسة الفلسفة الماركسية »، للمناوئين لابن رشد، مبرزا في نفس الوقت تأثيره الحاسم، ليس على مفكري عصر النهضة وحدهم، بل وعلى العصر اللاحق أيضا.
2- المعنى التاريخي لفلسفة ديكارت لقد رأينا في الفقرة السابقة، بأن الانجاز التاريخي الضخم الذي حققه ابن رشد بالنسبة لتطور الاتجاه المادي في الفلسفة، هو تأكيده على أن سر الصورة يجب البحث عنه في المادة نفسها، بمعنى أن الأشياء المادية لا يمكن أن تتلقى صورها، إلا من أشياء مادية أخرى. فابن رشد كان ينظر للعلاقة بين المادة والصورة، على أنها علاقة وحدة جوهرية غير قابلة للانفصام، والمصير الذي يسري على الأولى هو نفس المصير الذي يسري عل الثانية. وهذا الطرح بطبيعة الحال، متقدم على طرح أرسطو الذي كان يضع تمييزا جوهريا بين المادة والصورة، بحيث كان يعتبر الأولى فانية والثانية غير فانية، مما سمح موضوعيا لطوماس الأكويني بتأويل فلسفة أرسطو تأويلا مثاليا. لكن ابن رشد نفسه، رغم تطويره للمادية، إلا أنه لم يستطع القطع مع المثالية. فلقد أكد فعلا بشكل قاطع على الأصل المادي للصورة، لكنه لم يحسم موقفه، بنفس القوة، فيما يخص أصل المادة نفسها. هنا ظل مترددا بين موقف يقول بقدم العالم (إبراز الاصل المادي للعالم)، وموقف يقول بحداثته (إبراز أصله الروحي). والحقيقة أنه ليس ابن رشد وحده، هو الذي عجز عن إحداث قطيعة جذرية مع المثالية، بل إن جميع الاتجاهات المادية الأوربية عجزت عن ذلك، بما فيها اتجاه الفيلسوف الهولندي الكبير سبينوزا. إن القطيعة مع المثالية لم تتحقق، إلا بعد مرور ستة قرون على وفاة ابن رشد، أي على يد فلاسفة عصر الأنوار الماديين الفرنسيين في القرن الثامن عشر. إن الأب الروحي الفرنسي لفلاسفة عصر الأنوار الفرنسيين، هو ديكارت. ما هو المعنى التاريخي إذن لفلسفة ديكارت ؟ لقد عاش ديكارت في النصف الأول من القرن السابع عشر. وفي هذه المرحلة التاريخية، كانت البورجوازية الفرنسية لاتزال في بداية صعودها الطبقي. إن خاصية تلك المرحلة إذن، هي أن تطور البورجوازية لم يبلغ بعد درجة الاصطدام المباشر مع علاقات الانتاج الاقطاعي. فهذه العلاقات نفسها، كانت لاتزال تسمح بتطور علاقات الانتاج الرأسمالية الناشئة. وإذن فإن ما كانت تحتاجه البورجوازية في ذلك الوقت، ليس هو إلغاء علاقات الانتاج الاقطاعية، بل فقط تطوير قوى الانتاج. ومن أجل تطوير قوى الانتاج، كان يتعين تطور العلوم الطبيعية. ومن أجل تطور العلوم الطبيعية، كان لابد من سيادة الفكر الحر. والفكر الحر يعني التحرر من كل سلطة معرفية غير سلطة العقل، أي أن الباحث في شؤون الطبيعة، يجب أن يكون متحررا من كل أنوع الأفكار المسبقة، كما يجب عليه ألا يتقيد إلا بالاستنتاجات المنطقية والتجريبية، التي يتوصل إليها عن طريق العقل، والعقل وحده. لكن في بداية صعود البورجوازية الفرنسية، لم تكن سلطة العقل في المجال المعرفي هي السائدة، بل كانت السلطة المعرفية من احتكار رجال الكنيسة برعاية فلاسفتها السكولاستيكيين. وهؤلاء الفلاسفة بوصفهم المعبرين الايديولوجيين عن مصالح النظام القديم، لم يكن يهمهم نظام الاقطاع. إن طوماس الأكويني مثلا، زعيم الفلاسفة السكولاستيكيين، كان يفسر حركة الكواكب الفلكية، بتدخل الأيدي الخفية للملائكة. إن الحاجة إلى تطورعلوم طبيعية عقلانية، كانت إذن تصطدم بشكل حاد، مع السلطة المعرفية للكنيسة. وهذا التناقض بين سلطة العقل وسلطة الكنيسة، في مجال العلوم الطبيعية، هو الذي عبرت عنه تارخيا فلسفة ديكارت. إن الكوجيطو الديكارتي الشهير: « أنا أفكر إذن أنا موجود »، ليست له من دلالة فلسفية، سوى الادانة لمبدأ السلطة المعرفية للكنيسة في مجال العلوم الطبيعية. فديكارت ذهب في عدائه لسلطة الكنيسة، إلى حد اعتبار أن الموجود... وأن الواقع، هو فقط ما أتوصل إليه أنا، كنتيجة، عن طريق التفكير العقلاني، المستقل عن كل سلطة معرفية خارجية.
3- الاشكالية الغير محلولة لفلاسفة عصر الأنوار الماديين لقد لاحظا أن مبرر وجود فلسفة ديكارت، هو تقديم دعامة فلسفية لتطوير العلوم الطبيعية، ومن ثم تطوير قوى الانتاج، وهو الهدف الذي كانت البورجوازية الفرنسية في أمس الحاجة إليه في ذلك الوقت. إن هذه الملابسات التاريخية المحيطة بنشأة فلسفة ديكارت، جعلتها تبتعد عن الغوص في قضايا الوجود والكون (بالمعنى الأنطولوجي للكلمة)، بحيث حاولت تركيز كل جهودها على الجوانب العملية التي لها علاقة بتطوير قوى الانتاج. وعلى هذا المستوى، يمكن اعتبار عقلانية فلسفة ديكارت، ذات المنحى المثالي، متخلفة عن عقلانية فلسفة ابن رشد، ذات المنحى المادي. إن فلسفة ديكارت كانت تقوم على هذه المساومة: لقد تنازلت للكنيسة عن دور الله الأصلي في خلق الكون، مقابل أن تتنازل لها هذه الأخيرة، عن دور الانسان في فهم الكون واكتشاف قوانينه الموضوعية. إن هذه المساومة كانت مبررة من الزاوية التاريخية، بالنظر إلى مستوى تطور البورجوازية في تلك المرحلة المحددة. فالبورجوازية الفرنسية، لم تكن تنازع الإقطاع في حقوقه السياسية والاقتصادية، التي يستمدها من الله (حسب الايديولوجيا السائدة). ولأنها لم تنقل الصراع إلى ذلك المستوى السياسي-الحقوقي، فقد كانت مهادنة بالتالي، في صراعها على الجبهة المعرفية الوجودية، التي هي القاعدة الخلفية للتناقض بين الحق اللاهوتي (الاقطاعي)، والحق الطبيعي-الوضعي (البورجوازي). لكن الأمر يختلف تماما بالنسبة للبورجوازية الهولندية. فهذه الطبقة قد بلغت مستوى من التطور، إلى حد أصبح معه يستحيل عليها تنمية مصالحها، بدون انتزاع مكتسبات سياسية من الاقطاع. إن الصراع على الواجهة السياسية-الحقوقية، كان يفرض نفسه في الحالة الهولندية والصراع السياسي ضد الاقطاع، يتحول بالضرورة إلى صراع ضد الدين، بوصفه الدعامة الايديولوجية التي يبرر بها الاقطاع مشروعية حقوقه السياسية والاقتصادية. إن فلسفة سبينوزا المادية، لم تكن في الجوهر، شيئا آخر سوى تعبيرا عن الصراع بين الاقطاع والبورجوازية الهولندية، في مرحلة أصبح معها تطور هذه الأخيرة، يقتضي تصفية جزء من الحقوق السياسية للاقطاع. ما هي إذن الفكرة المحورية التي كانت تقوم عليها فلسفة سبينوزا (صاحب قولة: "إن الأوهام الدينية هي سبب عبودية البشر"، والذي هو نفسه خاض الصراع، في صفوف الحزب الليبيرالي البورجوازي الهولندي ضد الاقطاع ) ؟ إن أساس فكر هذا الفيلسوف المادي الفذ (الذي ينحدر من أصول يهودية عربية أندلسية)، هو التالي: إن ما يسميه سبيوزا الماهية، بلغة المنطق، وما يسميه الله، بلغة اللاهوت، لا يعبران في الواقع سوى عن شيء واحد، هو الطبيعة. فبالنسبة لسبينوزا، إن الله غيرموجود خارج الطبيعة. إن الفيلسوف إذن، يقوم بعملية تحويل الله، من فكرة ميتافيزقية.. غيرمرئية، إلى واقع مادي ملموس ومري.. إلى طبيعة. فالطبيعة هي الأصل، والفكر ليس سوى صفة للطبيعة. إن الطبيعة، كجوهر، تعبر عن ذاتها بواسطة العديد من التجليات والمظاهر. وهذه الجليات والمظاهر، تتجسد في شكل فكر، أو شكل امتداد فضائي، أو أشكال أخرى لا تحصى. إن هذا الطرح هو نقطة القوة في فلفسة سبينوزا، وهو في نفس الوقت، إسهامه التاريخي في تطوير المادية. لكن الفلاسفة الماديين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وخصوصا ديدرو، قد اكتشفوا عيوبا أساسية في مادية سبينوزا. كانت فرنسا في ذلك الوقت، تتهيأ لخوض ثورتها البورجوازية العظمى الراديكالية. فالاشكالية التي واجهها ديكارت في النصف الأول من القرن الثامن عشر، على يد الفلاسفة الماديين الفرنسيين. إذ في هذه المرحلة الجديدة، لم يعد مطروحا تطوير قوى الانتاج (كما هو الشأن في عصر ديكارت)، بل تدمير علاقات الانتاج الاقطاعي، التي أصبحت سدا منيعا في وجه تطور قوى الانتاج. إن الصرع المكشوف إذن بين قوى البورجوازية، وقوى الاقطاع، قد أصبح في حاجة إلى حسم نهائي. ومن بين الاسلحة التي تدخلت من أجل ذلك الحسم، هو فكر الفلاسفة الماديين. لقد كانوا، انسجاما مع حرارة الصرع العام، راديكاليين في نقدهم لكل شيء: راديكاليين في السياسة، وفي الدين، وفي الحقوق، وفي الأخلاق... ثم في النظرة إلى الطبيعة. إن الفرسان الثلاثة الذين ذهبوا بعيدا، في راديكاليتهم الفكرية، هم "ديدرو"، و"هيلفاتيوس"، و"دهولباش". في هذا المناخ الحار إذن، انتقد ديدرو مادية سبينوزا. ماذا قال عنها ؟ قال إنها عجزت عن إحداث قطيعة مع المثالية. ولقد علل رأيه بالتحليل التالي: إن الطبيعة بالنسبة لسبينوزا، هي الطبيعة-الله، وليس الطبيعة-الطبيعة، أي الطبيعة في ذاتها ولذاتها. فهو إذن يرى وجهين متلازمين للطبيعة: وجها حسيا، ماديا، مرئيا، لا لاهوتيا. ووجها مجردا، ميتافيزقيا، لاهوتيا. إنه بالتالي يصنع من الطبيعة إلاها.. إنه يؤلهها. إن نقطة الضعف الأساسية التي يراها ديدرو في مادية سبينوزا، تكمن إذن في تأليهه للطبيعة. ومن أجل تصحيح ذلك العيب، عمد ديدرو إلى تجاوز نظرة سبينوزا القائمة على التماثل (أي التماثل بين الطبيعة والله)، بنظرة بديلة هي نظرة الاقصاء: إن الحقيقة ليست هي الله الذي هو الطبيعة، بل هي إما الله وإما الطبيعة. فهذا الطرح الذي يشكل قطيعة تامة مع المثالية، يعتبر، إلى جانب طرح فويرباخ، أرقى طرح مادي قبل طرح مادية ماركس الجدلية. لكن هذا النجاح الذي حققه الفلاسفة الماديون في مجال الطبيعة، لم يحققوه في مجال التاريخ. هنا كان مآلهم الاخفاق. إن الاشكالية التي طرحها عليهم التاريخ هي التالية: ما هي طبيعة علاقة الانسان بمحيطه الخارجي ؟.. الانسان بأفكاره وتصوراته، ما علاقته بظروفه الاجتماعية المحيطة ؟.. من المحدد: الانسان أم الظروف الاجتماعية ؟
عن هذه الاشكالية، أجاب هيلفيتيوس قائلا: إن الفيلسوف المادي الفرنسي، يلتقي إذن مع الفيلسوف الانجليزي "لوك" في تأكيده على أن "أفكار الناس لا تخلق معهم بالفطرة" (no innatge principles)، ويعارض ديكارت الذي كان يقول بالأفكار الفطرية. لكن أطروحة "هيلفيتيوس"، من ناحية أخرى، تقود منطقيا إلى النتيجة التالية: فإذا كان الانسان نتاجا لظروفه، وإذا كان يستمد كل تصوراته وطبائعه من محيطه الخارجي، فإنه بالتالي يستمد منه أيضا عيوبه ونقائصه وتصوراته اللامعقولة. من هنا، إذا أراد الانسان أن يتخلص من تلك العيوب، يتحتم عليه إذن تغيير المحيط الاجتماعي. هكذا إذن نجد أنفسنا أمام هذا التناقض: الانسان هو نتاج لظروفه الاجتماعية، والظروف الاجتماعية هي نتاج للانسان. كيف وصلنا إلى أطروحتين متناقضتين، تنفي إحداهما الأخرى ؟ ربما أن إحدى الأطروحتين خاطئة. من تكون ؟ إننا حتى ولو أرهقنا دماغنا بالبحث، فإننا لن نجد أي خطإ سواء في الأولى أو في الثانية. إن الحل الوحيد الذي يبقى أمامنا، في هذه الحالة، هو القول بأن هناك تفاعلا متبادلا بين الاطروحتين: فالظروف الاجتماعية تؤثر في الانسان، والانسان يؤثر بدوره في الظروف الاجتماعية. لكن لنتمعن بشيء من التفكير في المسألة. ماذا تعني الظروف الاجتماعية ؟ إنها تعني مجموعة العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع. فهي تعني السياسة، والفلسفة، والفنون، وغيرها. وإذن فإذا نحن أردنا تطبيق نظرية التفاعل المتبادل، على جميع تلك العوامل المذكورة، فإننا نقول مثلا، بأن السياسة تؤثر في كل العوامل الأخرى، وتتأثر بها كذلك. أي أن كل عامل هو في نفس الوقت فاعل ومنفعل. وهل هذا الطرح سيساعدنا في توضيح الرؤية ؟ أبدا. إنه لا يفسر شيئا. وكل من يريد أن يجربه، سيصاب بدوار الرأس. هذا هو المأزق الذي انتهى إليه الفلاسفة الماديون الفرنسيون. فنحن حينما نسألهم عن السبب في تطور المجتمعات البشرية، وعن محرك التاريخ، لا نسمع منهم سوى هذا الجواب: إن هذا العامل يؤثر في هذا، وهذا يؤثر في ذاك، وهكذا إلى آخر السلسلة من التفاعلات المتبادلة. لماذا إذن لم يستطع الفلاسفة الماديون الفرنسيون، تفسيرحركة المجتمعات، وتطور التاريخ ؟ لأن نظرتهم إلى الطبيعة نفسها، ظلت قاصرة. فهم فعلا قد أحدثوا قطيعة مع المثالية، في مجال الطبيعة، لكنهم لم يحدثوا نفس القطيعة مع الميتافيزيقا: إن ماديتهم ظلت ميتافيزيقية. إن أول فيلسوف سيتمكن من القطع مع الميتافيزيقا، على صعيد المنطق، هو هيجل. ولقد تحقق له ذاك من خلال بلورته لمفهوم حاسم، هومفهوم الصيرورة الجدلية. لكن قبل أن نستمع إلى هيجل، يتعين علينا أن نتوقف بعض الشيء عند كانط، مؤسس الفلسفة النقدية الحديثة، وأبي الفلسفة الكلاسيكية الألمانية.
4- تقييم كانط لتاريخ الفلسفة البشرية يقول كانط في مقدمة كتابه الأساسي "نقد العقل الخالص" (الطبعة الألمانية - ص 32 - منشورات ركلام - شتوتجارت، 1982): "إن هدف هذا الكتاب هو محاولة تغيير المنهج (Verfahren) المتبع لحد الآن في الميتافيزيقا، وبالتالي إحداث ثورة شاملة فيه، وذلك على غرار ما فعله علماء الهندسة والفيزيائيون (في ميادين اختصاصاتهم)". إننا إذن أمام مشروع فلسفي ضخم. فالرياضيات قبل مجيء طاليس، لم تكن علما، لأنها لم تكن مؤسسة على منهج علمي والفيزياء قبل مجيء جاليليه، لم تكن علما هي الأخرى، لأنها لم تكن مؤسسة على منهج علمي. والميتافيزيقا بدورها ليست علما، لأنها ليست مؤسسة على منهج علمي. هكذا يتضح مشروع كانط: إن كانط يريد إحداث ثورة في المنهج في مجال الفلسفة، مثلما أحدث كل من طاليس وجاليليه، ثورات منهجية في مجالي الرياضيات والفيزياء. فكانط يعتبر الفلسفة دغمائية وغير علمية، ويريد أن يحولها إلى فلسفة نقدية وعلمية. لكن كيف توصل كانط إلى هذا الحكم الصارم على الفلسفة ؟ لقد توصل إليه من خلال تقييم شامل لتاريخ الفلسفة البشرية، منذ نشأتها حتى القرن الثامن عشر. إن كانط يعتبر أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الصراع بين منظومات فلسفية متناقضة. فكل فيلسوف كان يدعي لنفسه أنه اكتشف أخيرا الحقيقة، عبر منظومته الفلسفية. هكذا يظهر فيلسوف أول، يقول بأنه اكتشف جوهر الحقيقة. ثم يجيء فيلسوف ثان، لينسف منظومة الأول، ويؤسس منظومة نقيضة، يعتبرها هي التي توصلت إلى جوهر الحقيقة. ثم يجيء ثالث، لينسف منظومة الثاني ويحل محلها منظومة نقيضة أخرى، وهكذا دواليك. فإذا اقتصرنا مثلا على تاريخ الفلسفة الأوربية الحديثة وحدها، من ديكارت إلى كانط، فإننا نلاحظ ما يلي: يشرع ديكارت في تأسيس منظومته الفلسفية. ثم ينسفها سبينوزا، ليؤسس محلها منظومة نقيضة. ثم يجيء، "لوك" لينتقد بدروه المنظومتين السابقتين. وبعد ذلك يظهر "لايبنتز"، لينتقد "لوك". ويجيء "هيوم" لينتقد هو الآخر سلفه. ثم يقوم فلاسفة الأنوار الماديين الفرنسيين بنقد الجميع. إن تأمل كانط في التناقضات بين المنظومات الفلسفية المتعاقبة، جعله ينتهي إلى هذه الخلاصة الأساسية وهي: أن التناقض يدخل في طبيعة كل منظومة فلسفية. ولذلك فإن كل منظومة، مهما كان تماسك منطقها، ومهما كانت صلابة بنيانها، فإنها قابلة للنسف والتجاوز من قبل منظومة أخرى نقيضة. وللبرهنة على ذلك، صاغ ما سماه: "متناقضات العقل الخالص" (Die Antinomie der reinen Vernunft). ماذا تعني متناقضات العقل الخالص ؟ تعني أن كل أطروحة فلسفية أساسية، كيفما كانت قوتها المنطقية، إلا وتقابلها أطروحة مضادة لها نفس القوة المنطقية. وهو لذلك كان في كتابه "نقد العقل الخالص"، يضع في صفحة اليسار، الأطروحة، والبرهان على صحتها المنطقية. ثم يقوم بعد ذلك، بوضع الأطروحة المضادة (في صفحة اليمين)، والبرهان على صحتها المنطقية أيضا. ولقد ساق على هذا النحو، أربع أطروحات، وأربع أطروحات مضادة، مع البراهين التي تؤكد صحة كل أطروحة وكل أطروحة مضادة، في نفس الوقت. وكمثال على ذلك، نكتفي بالاشارة إلى الأطروحة الأولى مع نقيضها. تقول الأطروحة الأولى (المكتوبة في صفحة اليمين - المصدر السابق - ص. 468): « إن الكون له بداية في الزمان، ومحدود أيضا في المكان » (ثم يعقبها بعد ذلك، البرهان المنطقي الذي يؤكد صحتها المنطقية). وتقول الأطروحة المضادة (المكتوبة في اليسار، ص 469): « إن الكون لا بداية له في الزمان، ولا حدود له في المكان. إنه لا نهائي (unendlich)، سواء في الزمان أو المكان ». (ثم يعقبها البرهاذ المطتي الذي يؤكد محتها المنطقية). ماذا يريد كانط إذن من متناقضاته ؟ إنه يريد التأكيد على ما يلي: لقد كان مشروع الفلسفة طموحا جدا، حينما كان يطرح على نفسه مهمة اكتشاف جوهر الحقيقة. لكن الواقع، هو أن البنية الفكرية للعقل البشري نفسه، هذه البنية القائمة على التناقض، تجعل من المستحيل الوصول إلى جوهر الحقيقة. من هنا يتغير التفكير الفلسفي عند كانط رأسا على عقب. فكانط لم يعد يهمه البحث عن جوهر الأشياء، كما كان الشأن بالنسبة للفلاسفة السابقين. فهذا الجوهر الذي يسميه الشيء في ذاته (Ding an sich)، غير قابل للاكتشاف بواسطة العقل. كما أنه لم يعد يهمه بلورة منظومة فلسفية، من الطراز القديم، لأنه يعرف بأن مصيرها سيكون بالضرورة هو النسف والتجاوز. ما يريده كانط إذن، هو تجاوز الفلسفة الدغمائية بفلسفة حديثة، هي الفلسفة النقدية. وما يسميه كانط بالدغمائية، هي الفلسفة التي تدعي بأنها تبحث عن الجوهر، في حين أن دورها في رأيه، يجب أن يقتصر على البحث في الظاهرة (Enscheinung). إن الاسهام التاريخي الهام لكانط، في مجال الفلسفة، هو التالي: فبعد ألفي سنة من النقاش، والصرع، والبحث عن جوهر الأشياء، يصرح كانط بأن التناقض هو الجدار الذي يصطدم به كل من أراد الدفع ببحثه عن الجوهر إلى نهايته. وأهية كانط تكمن في كونه، بدل أن يوجه تفكيره نحو بناء منظومة فلسفية جديدة تدعي اكتشاف جوهر الحقيقة، فقد جعل من مسألة التناقض موضوعا مركزيا لبحثه الفلسفي. لكن كانط من ناحية أخرى، ظل سجينا لمنطق أرسطو. إن مفهوم التناقض في المنطق الأرسطي، يعني اللامعقول... يعني الشيء المستحيل التحقيق. ولأن جوهر الأشياء يقوم على التناقض، ولأن التناقض في منطق أرسطو يعني اللامعقول، ولأن كانط ظل سجينا لمنطق أرسطو، فلذلك خلص كانط إلى هذه النتيجة: وهي استحالة إدراك جوهر الأشياء بواسطة العقل... فالعقل لن يؤدي إلا إلى اللامعقول.
ينطلق هيجل في نقده لكانط، من الحقيقة التي اكتشفها كانط نفسه، لكنه يعطيها مضمونا مختلفا جذريا. إن هيجل يطرح الاشكالية على النحو التالي: إذا كان البحث عن جوهر الأشياء، يقودنا دائما، في نهاية المطاف، إلى التناقض، فلماذا إذن يجب الاستنتاج من ذلك عجز العقل، بدل من التأكيد ببرودة على الخلاصة التالية، وهي: أن التناقض بالضبط، هو الجوهر النهائي للأشياء. إن هذا الانقلاب الثوري للمسألة، هو الاسهام التاريخي الحاسم لهيجل. وعلى هذه الأرضية المنطقية الجديدة، المختلفة جذريا عن كل الأرضيات المنطقية السابقة، استطاع هيجل تأسيس الجدل في علم المنطق. والمفهوم المركزي في الجدل الهيجيلي، هو مفهوم الصيرورة (Das Werden). ماذا تعني الصيرورة الجدلية ؟ لكي نفهم ذلك، يتعين علينا البدء أولا، بطرح هذا السؤال: ما هي طبيعة الصلة بين الأشياء والعلاقات ؟ بالنسبة للمنطق العادي، فالعلاقة هي مجرد علاقة خارجية بين الأشياء. وهذا معناه، أن الشيء له وجود مسبق، ثم بعد ذلك يدخل في علاقة مع شيء آخر مستقل. أي أن الشيء هو متجانس التكوين أولا، ثم ثانيا أن وجوده سابق لوجود العلاقة. أما بالنسبة للمنطق الجدلي، فله نظرة مختلفة جذريا من النظرة الأولى. فالعلاقة تسبق الشيء في الوجود. ليس هذا وحسب، بل إنها هي أساس تكوين الشيء نفسه. العلاقة إذن داخلية. إنها توجد داخل الشيء نفسه، وليست خارجية بين أشياء مستقلة عن بعضها البعض. وإذن فإن كل شيء، مهما كانت طبيعته، فهوعبارة عن علاقة داخلية ضرورية. إن العلاقة هي الاختلاف في إطار التماثل (الذي يجسده الشيء الواحد)، وهي الازدواجية داخل الوحدة (وحدة الشيء)، إنها بعبارة هي التناقض الداخلي. والتناقض الداخلي هو جوهر كل شيء. وعلى أساس هذا الجوهر، يتكون ويتبلور الشيء الكلي. أي أن الجوهر.. التناقض الداخلي.. العلاقة الداخية بين ضدين، توجد أولا، ثم أن نموها وتوسعها يؤديان بعد ذلك، ثانيا، إلى بلورة وتشكيل الشيء. والحركة المتطورة من اللحظة الأولى لوجود العلاقة المتناقضة، إلى لحظة نضج وتبلور وتشكل الشيء، تسمى الصيرورة الجدلية. وللابتعاد ما أمكن عن التجريد، نسوق الأمثلة التالية، لكي تتضح الصورة أكثر. لنأخذ كمثال النقد. إن النقد (بمعنى المال) هو شيء ملموس، له تجسيد مادي (على شكل أوراق أوقطع معدنية). إن الشيء - النقد، ليس معطى له وجود مسبق، بل هو حصيلة تطور.. هو نتيجة لصيرورة تاريخية، تقوم على علاقة متناقضة هي علاقة التبادل بين البضائع.. علاقة البيع والشراء. إذ الشيء - النقد، إذن، هو معطى ثان. أما المعطى الأول، فهي العلاقة التناقضية للتبادل. واللحظة التي دخل فيها، لأول مرة في التاريخ، إنسانان بدائيان في عملية بيع وشراء. فهذه العملية، التي وقعت في البداية بالصدفة، والتي بعد التكرار والاستقرار ستصبح ضرورية في حياة الناس الاجتماعية، سيؤدي نموها وتوسعها، مع الزمن، إلى تشكيل ما يسمى الآن بالنقد. فالتناقض إذن، كعلاقة بين البيع والشراء، سابق من حيث الوجود، للنقد كشيء وكشكل. والحركة التطورية التارخية، التي تؤدي إلى الانتقال من اللحظة الأولى البسيطة والمجردة (لحظة التبادل الأولى)، إلى لحظة ظهور النقد، هي الصيرورة الجدلية. والنقد نسفه، كشكل ملموس، ليس شيئا متجانسا، بل هو واقع متناقض يعبرعن علاقة التبادل المتناقضة. (إن الذي يهمنا هنا هو توضيح مفهوم الصيرورة الجدلية، وليس طبيعتها المثالية أو المادية). وما قلناه عن النقد، يمكن قوله مثلا عن الجنين في بطن الأم. إن صيرورة تشكل الشيء - الجنين، تبدأ لحظة إخصاب بويضة المرأة. والاخصاب يعني علاقة متناقضة بين ضدين: السائل المنوي (سبيرماتزويد الرجل)، وبويضة المرأة. فحين يلتقي ضد بضده.. حين يتسلل سبيرماتزويد الرجل إلى داخل بويضة المرأة، تنطلق إذن صيرورة التشكل. وهذه الصيرورة تقوم على أساس التناقض، بين « كروموزات » الرجل الحاملة لأجنة الوراثة (les gènes)، « وكروموزات » المرأة الحاملة بدورها لأجنة الوراثة. لأن ذلك التناقض هو الذي يؤدي إلى تركيب البروتينات والحامض (ADN)، وبالتالي إلى إطلاق عملية انقسام الخلايا وتكاثرها المستمر، إلى أن يتحقق في النهاية بلورة وتشكل الشيء - الجنين، وفق برنامج الأجنة الوراثية. فهذه الحركة الجدلية القائمة على التناقض، والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى تشكل الشيء، يعبر عنها مفهوم فلسفي جد دقيق، يسميه هيجل: Entstehung (ويسميه الفرنسيون: (La genèse) والانجليز: (genesis). أما بالعربية فيمكن ترجمته بعبارة: صيرورة التشكل. وفي رأيي أن تلك العبارة المركبة، هي أقرب إلى معاني الكلمات الجرمانية واللاتينية، من كلمة « تكون » التي استعملتها إحدى معاجم الترجمة إلى العربية. ذلك أن العيب الاساسي لكلمة "تكون"، أنها لا تتضمن الحركة الجدلية. ولهذا فإن الكلمة التي تقابلها في الفرنسية، هي كلمة formation، وليس كلمة genèse. وتجدر الاشارة أيضا إلى أن العبارة الألمانية نفسها، هي عبارة مركبة من كلمتين: كلمة ent وكلمة stehung. إنه غالبا ما تتردد في كتابات هيجل، هذه العبارة: « إن الحقيقة هي الكل ». وما يقصده بحقيقة الشيء، ليس هو التعريف المجرد، ولا هو التعريف الانتقائي (القائم على التجميع المجرد لكل جوانب وخصوصيات ذلك الشيء)، بل هي صيرورة التشكل الملموسة بكل لحظاتها.. هي المنطق الجدلي الكلي، الذي ينطلق من العلاقة التناقضية الأصلية (الجوهر)، ثم يأخذ في النمو والتطور، إلى أن يصل إلى اللحظة العليا لتشكل الشيء، بكل مظاهره وتجلياته وجوانبه وخاصياته المتنوعة. لذلك مثلا، فإن حقيقة العملة النقدية، ليس هو فقط شكلها النهائي بكل خصائصه (المعدن، الوزن، اللون، الشكل الهندسي، رنين الصوت، الكتابة... إلخ)، بل هي كل الصيرورة الجدلية التي انطلقت، من العلاقة التناقضية الجوهرية (تبادل البضائع)، والتي اتخذت لها أشكالا أولية وبسيطة متعاقبة، قبل أن تصل في النهاية إلى الشكل الأكمل والأنضج، الذي هو النقد. إن مفهوم الصيرورة الجدلية، مرتبط أشد الارتباط بمجموعة من المفاهيم الأخرى الأساسية، أبرزها: أولا - مفهوم التناقض نفسه: إن التناقض يقوم على وحدة الأضداد. والوحدة هنا لا تعني فقط، عدم انفصال الضد عن ضده، بل تعنى كذلك تماثلهما وتطابقهما في المعنى والمضمون. مثال ذلك، التناقض بين العمل والرأسمال: واضح أن العمل ليس هو الرأسمال: بل هو ضده. فالعمل هو تجسيد لقوة عمل العامل، الخاضعة للاستغلال الرأسمالي. والرأسمال هو الملكية الرأسمالية للرأسمالي. لكن من ناحية أخرى، العمل هو رأسمال، والرأسمال هو عمل. إن العمل هو رأسمال، بمعنى أن الرأسمالي عندما يشتري قوة العمل، فإنه يدفع أجرة للعامل، وهذه الأجرة هي الرأسمال المتحول (عكس الرأسمال الثابت الذي يصرف لشراء وسائل الانتاج). والرأسمال هو عمل. بمعنى أن وسائل الإنتاج من آلات وبنايات وغيرها، هي نتيجة لتراكم العمل الميت. مثال آخر، التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج: إن قوى الإنتاج هي علاقة مع الطبيعة، بينما علاقات الإنتاج هي علاقة بين البشر (هذا هو وجه الاختلاف بين الضدين). لكن من ناحية أخرى، إن قوى الإنتاج هي علاقة إنتاج، بمعنى أن العلاقة مع الطبيعة (التأثير فيها والفعل فيها، بواسطة قوى الإنتاج)، هي نفسها علاقة إنتاج. وعلاقة الإنتاج هي بدورها قوى إنتاج، بمعنى الدخول مع الطبيعة في علاقة إنتاج، من أجل تغييرها وتحويلها، هي عملية تتم بواسطة قوى الإنتاج (وهذا هو وجه التماثل بين الضدين). ثايا، - تحول الشيء إلى نقيضه: في الاقتصاد مثلا، إن الدفع بمنطق الرأسمالية التنافسية إلى حده الأقصى، يقود إلى تحولها إلى رأسمالية احتكارية. وفي السياسة، إن الدفع بالموقف اليساري المتطرف إلى نهايته المنطقية، يؤدي إلى تحوله إلى موقف يميني. وفي الرياضيات، إن الدفع بالشكل الهندسي المتساوي الأضلاع إلى نهايته المنطقية، يؤدي إلى تحوله إلى دائرة. لنتمعن في هذا المثال الأخير. ولنأخذ المثلث المتساوي الأضلاع، كشكل أول من الأشكال الهندسية المتساوية الأضلاع. ثم لنحاول النظر إلى ذلك المثلث في حركته، أي في صيرورة تطوره. ماذا سنجد ؟ سنجد أن المثلث المتساوي الأضلاع، سيتحول إلى شكل مربع، والمربع إلى مخمس، والمخمس إلى مسدس، وفي مرحلة عليا من التطور، ستنمحي خطوط الأضلاع المستقيمة لتحل محلها خطوط منحنية دائرية، أي ستحدث القفزة النوعية: تحول المتساوي الأضلاع إلى دائرة. (بهذا المنهج تم التوصل إلى حساب مساحة الدائرة. فمساحة الدائرة هي مساحة المتساوي الأضلاع، في اتجاهه لأن يصبح دائرة، أي عندما يصبح الفارق المساحي بين الدائرة التي تحتوي المتساوي الأضلاع، والمتساوي الأضلاع المتجه نحو التحول إلى دائرة، هو أصغر مساحة ممكنة.. أي عندما يتضاءل ذلك الفارق في اتجاه الاقتراب من الصفر. وعلى أساس هذا المنهج أيضا، يقوم حساب التفاضل Calcul différentiel . والفرق بين الرياضيات البسيطة، والرياضيات العليا، هو أن الاولى تنظر إلى الوقائع الرياضية في شكلها الجامد - فالمثلث هو فقط مثلث، ولا شيء آخر - بينما الثانية تنظر إليها في حركتها وفي تغيرها.
6- هيجل ينتقد الفلاسفة الماديين الفرنسيين لقد ناقشنا في الفقرة الثالثة، الإشكالية التي اعترضت الفلاسفة الماديين الفرنسيين. وقلنا بأن تلك الإشكالية كانت تتعلق في الأصل، بالتساؤل حول طبيعة العلاقة بين الإنسان ومحيطه الاجتماعي. ولاحظنا أن الحل الذي أعطاه الفلاسفة الماديون لتلك الإشكالية، يقوم على أطروحة التفاعل المتبادل بين العوامل المختلفة. وخلصنا إلى القول بأن ذلك التفسير لا يفسر شيئا. إن أول من أعطى التفسير الصائب لتلك الإشكالية، على الصعيد الفلسفي، هو هيجل. فلنستمع إذن إلى موقفه من أطروحة التفاعل المتبادل. يقول هيجل في "موسوعة العلوم الفلسفية": "إن الاقتصار على النظر إلى مضمون معين، من زاوية التفاعل المتبادل.. لهو منهج يتميز بالبؤس المفاهيمي إلى أقصى الحدود. ففي هذه الحالة، فإننا نظل في مجال الواقع الخام. ولذلك فإن الحاجة إلى التوسط التي تبرز حينما يتعلق الأمر، باكتشاف سبب الارتباط، تبقى غير مشبعة. إن قصور المنهج الذي ينظر إلى الظواهر من زاوية التفاعل المتبادل، يكمن في كون أن علاقة التفاعل، بدل أن تحل محل المفهوم، يتعين عليها هي نفسها أن تكون مفهومة. وهذا لن يتأتى إلا إذا نظرنا إلى العاملين اللذين يؤثران في بعضهما البعض، على أنهما نتيجة لعنصر ثالث متسام، بدل أن ننظر إليهما كمعطيين مباشرين." (الطبعة الالمانية - الملحق - فقرة 156). ماذا يعني هذا الكلام ؟ لننظر إلى الحياة الاجتماعية داخل مجتمع معين. إنها تتكون من العديد من العوامل (الظواهر، الجوانب، العلاقات...). فهناك العوامل السياسة، والحقوقية، والدينية، والثقافية، والاقتصادية، وغيرها. كيف نفسر مضمون تلك الحياة الاجتماعية المتعددة الجوانب ؟ إذا قلنا بأن مضمون تلك الحياة هو مجموع العوامل التي تؤثر في بعضها البعض، فإننا حسب هيجل سنظل فوق أرضية خام، أي نبقى عاجزين عن القيام بربط ملموس.. عضوي.. جدلي، بين مختلف تلك العوامل. فهذه العوامل في مجموعها.. في شمولها، لا يمكن أن تكون منطلقا للتفسير، أو كما يقول هيجل، لا يمكن أن تكون هي المفهوم (Begriff)، لأنها هي نفسها في حاجة إلى فهم (كما يؤكد أيضا). من هنا، فإن تلك العوامل جمعاء، لا يمكن أن تكون إلا نتيجة لعامل آخر.. "خفي"، أو كما يسميه هيجل، "متسام" (transzendental). إن هذا العامل الجديد... "المتسامي"، هو العامل الأصلي.. الأساسي، الذي هو سبب وجود كل العوامل الأخرى، وفي نفس الوقت هو الذي يسمح بإمكانية التفاعل المتبادل فيما بينها. فما يريد هيجل الإلحاح عليه إذن، هو أن كل شيء ملموس، مهما كان تعقيده وتعدد جوانبه وعوامله، فإنه لا يمكن أن يُفسر إلا بعامل واحد.. أصلي وأساسي، الذي عليه تتأسس العوامل الأخرى، وتتأسس التفاعلات فيما بينها. ولذلك فإن هدف العلم، في رأي هيجل، هو بالضبط البحث عن العامل الأساسي الذي يحدد كل العوامل الأخرى، ويسمح بربط جدلي حي فيما بينها. ولنأخذ المثال التالي: ما هو سبب الأزمة الاقتصادية الحالية في المغرب ؟ إذا نحن قلنا بأن الازمة لها أسباب متعددة، وليس سببا واحدا فقط، لأنه يدخل ضمنها: عامل الجفاف، وعامل حرب الصحراء، وعامل الأزمة العالمية، وعامل سياسة صندوق النقد الدولي.. الخ. إذا نحن قلنا ذلك، فإن منهجنا التحليلي، حسب هيجل سيكون "منهجا" بئيسا إلى أقصى الحدود، من حيث المضمون المفاهيمي. لأن المطلوب ليس هو، انتقاء مجموعة من العوامل المجردة لتفسير الأزمة، بل هو اكتشاف العامل "المتسامي" (حسب تعبير هيجل)، الذي يفسرها في جوهرها، وفي نفس الوقت يفسر، لماذا كانت للعوامل الأخرى، ذلك التأثير في تغذيتها. إن كلمة "المتسامي" الهيجلية، ذات مضمون مثالي، لكن الفكرة مع ذلك في جوهرها المنطقي، هي فكرة صحيحة (سنعود إلى هذه المسألة في فقرة لاحقة). (لنلاحظ بالمناسبة أن، جيع المؤلفات الأخيرة لعبد الله العروي: "مفهوم الدولة".. "مفهوم الحرية".. "الأديولوجية"، تخضع للمنهج التالي: فهو عندما يريد مناقشة قضية من تلك القضايا النظرية، فإنه يلجأ إلى سرد آراء مجموعة من مشاهير المفكرين، حول تلك القضية. هكذا يضع جنبا إلى جنب أسماء كل من: فرويد، شيلينج، هيجل، ماركس، نيتشه، هوسرل، سارتر... الخ. والحقيقة بالنسبة إليه، هي مجموع ما قاله أولائك الأعلام.. هي الفرويدية، والنيتشية، والهيجلية، والماركسية... الخ . إن هذا المنهج هو الذي سماه هيجل بالمنهج "البئيس إلى أقصى الحدود، من حيث مضمونه المفاهيمي". ولا علاقة له بالجدل). كيف إذن يمكن "إنتاج" المعرفة الجدلية، التي هي وحدها علمية ؟ كيف يمكن الانتقال من العوامل المجردة، الاعتباطية، المعزولة، إلى العامل "المتسامي".. الأساسي.. الأصلي ؟ كيف يمكن الانتقال من المفاهيم الجزئية، إلى المفهوم الكلي، الشامل ؟ بعبارة، كيف يمكن اكتشاف الجوهر ؟ يجيب هيجل قائلا: باستعمال المنهج الجدلي في التفكير. وما هوهذا المنهج الجدلي ؟ إن أساسه هوالتالي: إن الفكر البشري لا يمكنه أبدا، أن يتوصل إلى حقيقة الأشياء التي يبحث عنها، دفعة واحدة، من الوهلة الأولى. إذ لابد من وسائط، من تدرج. فالحقيقة في نهاية المطاف، لن تكون إلا نتيجة تصادم أفكار متعارضة داخل الفكر.. حصيلة صراع بين الآراء. إن الفكر بدوره إذن، يخضع في بحثه عن الحقيقة، لحركة جدلية، قائمة على التناقضات، وعلى التجاوزات المستمرة. ولذلك فإن الفكر لا يمكنه أن يتوصل إلى حقيقة الشيء.. جوهره، إلا بعد استنفاذه لحركته الجدلية، أي بعد الدفع بها إلى نهايتها. مثال ذلك: أمامنا واقع ملموس. إذا نحن قلنا بأن حقيقته هي أول عنصر، أو عامل، يظهر لنا، فإننا بذلك نجانب الحقيقة. إذ ما أن نستمر في التفكير، حتى يبرز لنا عامل آخر يناقض الأول ويتجاوزه. لكن هذا العامل الثاني نفسه، لا يمكنه أن يرضينا، وأن نطمئن إليه. ولذلك يجب ألا نتوقف عنده. إن المزيد من التفكير، سيؤدي إلى ظهور عامل ثالث.. رأي ثالث، يناقض الثاني ويتجاوزه. إن هذه التناقضات المستمرة بين الآراء، داخل الفكر، تجعلنا نتساءل ما إذا كانت هناك آراء أخرى لم ننتبه إليها. مما يظطرنا إلى بذل مجهود، للنظر إلى ذلك الواقع الملموس، من كل جوانبه. وإذا نحن وُفقنا في ذلك، فإننا سنكون قد توصلنا في نهاية المطاف، إلى اكتشاف الجوهر.. العامل "المتسامي". بهذا المعنى، إن جوهر الشيء.. إن المفهوم الكلي الذي "يحيا بواسطة كل أوصافه، وخاصياته، وجوانبه الواقعية » (كما يقول هيجل)، لن يتبلور إلا كنتيجة للصراع بين كل الآراء المتناقضة الممكنة. والخلاصة أن، المنهج الجدلي في التفكير، ليس شيئا آخر سوى صيرورة التشكل (La genèse) للحقيقة المعرفية لجوهر الشيء.. أي للعلاقة التناقضية الأصلية التي يجسدها ذلك الجوهر. وعلى أساس هذا المنهج الجدلي، استطاع هيجل أن ينتقد أخطاء كانط حول تقييمه لتاريخ الفلسفة. فكانط لم يرَ في المنظومات الفلسفية الأوربية الكبرى، سوى مسارا من التخبطات في التناقضات "اللامعقولة والعبثية ». في حين أن هيجل يعتبرأن كل منظومة فلسفية، تعبرعن جانب واحد من الحقيقة الكلية للمفهوم (Begriff). إن أوربا العصر الحديث، يحكمها مفهوم.. جوهر.. مبدأ. وهذا المفهوم يتطور في التاريخ.. في الزمان. وفي كل لحظة من لحظات التطور الكبرى، يعبر عن نفسه من خلال منظومة فلسفية، تعكس مستوى التطور الذي بلغه المفهوم في تلك اللحظة المحددة. والتناقض الظاهرى بين مختلف المنظومات الفلسفية، ما هو إلا تعبيرا عن التجليات المختلفة والمظاهر المتنوعة، للمفهوم أثناء حركته. فالتناقض مثلا، بين فلسفة ديكارت وفلسفة الماديين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، لا يعني شيئا آخر سوى أن المفهوم قد انتقل من لحظة تاريخية إلى لحظة أخرى. ولأن المفهوم لا يعبر عن نفسه، في لحظة تاريخية معينة، إلا بواسطة جانب واحد من جوانبه المتعددة التي تتشكل عبر التاريخ، فلذلك فإن المنظومة الفلسفية التي تركز على ذلك الجانب وحده، تتوهم أنها أمسكت بحقيقة المفهوم نفسه، في حين أنها لم تمسك إلا بجانب واحد. ولهذا محكوم عليها أن تترك المجال لمنظومة فلسفية أخرى، ما أن ينتقل المفهوم إلى لحظة أخرى، ويُبرز جانبا آخر. إن المفهوم إذن، يحيا عبر الجوانب المتعاقبة والمتعددة التي تتبلور باستمرار. وهذه الحركة التطورية.. هذا التراكم من المنظومات الفلسفية المتناقضة، هو الذي قاد في النهاية إلى اكتشاف المفهوم نفسه، أي حقق القفزة النوعية التي هي الانتقال من، فلسفة جوانب المفهوم.. لحظاته.. تجلياته.. مظاهر، إلى فلسفة المفهوم ذاته كجوهر. إن كانط - يقول هيجل - لم يدرك المغزى العميق، لحركة التناقضات بين المنظومات الفلسفية. وهو لذلك لم يرَ فيها سوى « اللامعقول العبث ». بينما في الواقع، أن تلك التناقضات هي التي ستؤدي، في لحظة معينة من التطور، إلى تعرية المفهوم وكشفه. وعلى أساس هذا التصور الجدلي، صاغ هيجل مفهوم الملموس كنقيض للمجرد. إن هيجل كثيرا ما يلح على أن الحقيقة المجردة لا وجود لها، وأن الحقيقة هي داثما ملموسة ». فالتجريد موجود فقط في الفكر، ويمثل الوسيلة، التي يلجأ إليها الفكر لاكتشاف جوهر الشيء، أي عزل، عن طريق الذهن، ما هو جوهري عن ما هو غيرجوهري. فالواقع إذن، بوصفه شديد التنوع والغنى من حيث الأوصاف والخاصيات والجوانب، هو دائما ملموس. والملموس لا يعني شيئا آخر، سوى المشروط بتعدد جوانبه وخاصياته وعلاقاته. من هنا فإن هيجل، يتهكم بشدة، على الذين يقولون بالحقيقة المجردة. فالحقيقة بالنسبة إليه، هي دائما مشروطة بعلاقاتها وارتباطاتها، أي أنها ملموسة. ولذلك فهو يؤكد على أن الفكرة الفلسفية تكون صحيحة، فقط عندما تكون ملموسة، أي عندما تكون مشروطة بارتباطاتها الخاصة. لكن ما أن تتغير تلك الشروط، حتى تنقلب إلى ضدها، وتصبح خاطئة. ففلسفة ديكارت مثلا، الداعية إلى تطوير قوى الإنتاج، كانت صحيحة في ظروف المجتمع الفرنسي في منتصف القرن السابع عشر، بالنسبة لظروف المجتمع الفرنسي الجديدة. فهذه الظروف الجديدة، أصبحت تقتضي تدمير علاقات الإنتاج، كوسيلة لتطوير قوى الإنتاج. ولذلك تم تجاوز فلسفة ديكارت، من طرف الفلاسفة الماديين الفرنسيين. وعلى نفس المنوال، يتهكم هيجل على أسئلة من هذا النوع: ما هو الخير، وما هو الشر ؟ هل الحرب مفيدة، أم مضرة ؟ إذ حسب منطق هيجل، ما يمكن اعتباره خيرا هنا، يتحول إلى شر هناك. والحرب التي تكون نافعة في هذه اللحظة، تصبح ضارة في لحظة أخرى.
لاحظنا في الفقرة السابقة بأن هيجل، استطاع أن يبلور حلا، على الصعيد المنطقي، لإشكالية الفلاسفة الماديين الفرنسيين. ذلك أنه، بينما ظل هؤلاء يتخبطون في حلقة مفرغة، أساسها أطروحة التفاعل المتبادل بين مختلف جوانب الكل الملموس، تمكن هو من تجاوز ذلك، عبر بلورته لمفهوم « العامل المتسامي » (المبدأ الأصلي.. الجوهر..)، الذي يتحكم في كل شيء، والذي ليست العوامل الأخرى بالنسبة إليه، سوى مظاهره وتجلياته. لكن حينما نتساءل: ما هو بالضبط العامل « المتسامي » الذي يتحكم في تطور مجتمح معين ؟ يجيب: إنه « العقل الوطني ». وما هو « العقل الوطني » ؟ يجيب أيضا: إنه درجة من درجات تطور « العقل الكوني ». و« العقل الكوني » بدوره، هو إحدى مراحل « الفكرة المطلقة »، التي تخضع تطورها لقوانين منطقية موضوعية صارمة. إن هيجل إذن يفسر تاريخ البشرية، بواسطة تطور « العقل الكوني ». وفي كل لحظة من لحظات ذلك التطور التاريخي، يعبر « العقل الكوني » عن نفسه، من خلال « العقل الوطني » لشعب من الشعوب التاريخية. « فالعقل الوطني » إذن، هو التجسيد العملي « للعقل الكوني » في مرحلة محددة من التطور. هكذا إذن: الحضارة الصينية القديمة، هي من صنع « العقل الوطني الصيني »، الذي يعبر عن درجة دنيا في تطور « العقل الكوني ». والحضارة الهندية، هي من صنع « العقل الوطني الهندي ». ونفس الشي، بالنسبة للحضارات الأخرى المتعاقبة: المصرية، والفارسية، واليونانية، والرومانية، والعربية، والأوربية. (في كتابه « فلسفة التاريخ »، أخضع هيجل تاريخ البشرية، إلى ذلك التسلسل الحضاري). وما تاريخ البشرية إذن، سوى انتقال « العقل الكوني » من شعب إلى شعب، عبر « العقل الوطني » الخاص بكل شعب. هل هذا التصور الهيجلي يفسر شيئا بالنسبة للتاريخ ؟ إنه لا يفسر أي شيء. فالمنطق الهيجلي منخور من الداخل بالتناقضات، التي تعرض بنيانه النظري إلى النسف. ولنتوقف عن بعض هذه التناقضات. في تقييمه للحضارة الهندية، يسجل هيجل الخاصيات التالية: إن الروحي لم ينفصل بعد عن الطبيعي، إذ كان ملتصقا به وخاضعا له. وهذا الاندماج التام، بين ما هو روحي وما هو طبيعي، يعبرعنه أحسن تعبير شكل الدين. إن العبادة الدينية هنا، تقوم على عبادة الأشياء الحسية، الطبيعية، المُجسدة في شكل حيوانات. فالهندي إذن، لايتجاوز إدراكه حدود الحسي والطبيعي، ولذلك فهوعاجزعن النظر إلى الأشياء، بمنظار المفهوم العقلاني. والعقلانية لا تظهر إلا عندما يتعود العقل، على التفكيرالمنطقي. من هنا يخلص هيجل إلى القول، بأن « العقل الوطني » في الهند القديمة، يمثل الدرجة الدنيا في تطور « العقل الكوني ». وفي تقييمه للحضارة الفارسية، يقول مايلي: إن الدين الفارسي هو النور. وهذا يعني بداية انفصال الروحي عن الطبيعي. إن مبدأ التمايز والاستقلال عن الطبيعة، بدأ يتحقق إذن في مرحلة « العقل الوطني الفارسي ». لكن ما هو تقييم هيجل للحضارة المصرية، التي تأتي بعد الفرس من حيث التعاقب التاريخي ؟ إنه يعتبر أن « العقل الوطني المصري »، أرقى من « العقل » الهندي والفارسي معا، وهذا بالرغم من أن الديانة المصرية تشبه الديانة الهندية في عبادتها للحيوانات. إن هيجل إذن، يقع هنا في تناقض واضح: فهو يعطي مدلولين تاريخين مختلفين، لظواهر اجتماعية متشابهة (في الهند ومصر). عن الديانة الهندية (عبادة الحيوانات)، يقول بأنها مختلفة، لأن الروحي لم ينفصل عن الطبيعي. وعن الديانة المصرية، التي تشبهها تماما، يقول بأن « ما يتأمله المصريون في عالم الحيوانات، هي الأشياء الغير قابلة للادراك »، وبالتالي فهي ديانة راقية، لأنها تقوم على تأملات العقل. ما هو سر هذا التقييم المختلف، للديانتين المتشابهتين الهندية والمصرية ؟ هو كون الحضارة المصرية توجد في مرحلة انتقال إلى الحضارة اليونانية. « فالعقل الوطني المصري »، الذي يمثل الحلقة الوسطى بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية اليونانية، لابد أن يكون، في المنطق الهيجلي، في مرحلة أرقى من المرحلة الهندية. إن هيجل إذن، يضطر إلى تبرير التاريخ من أجل الحفاظ على مصلحة تماسك بنيان منظومته الفلسفية. (في الفصل الذي خصه للعرب، في كتابه « فلسفة التاريخ »، يعتبر الدين الاسلامي قد بلغ أقصى أشكال التجريد. وعن الشعر العربي، يقول بأن الشعر بلغ عند العرب « درجة الكمال ». ثم يحكي عن تأثر الثقافة الجرمانية الحديثة بالثقافة العربية، بحيث يقول ان التأثر بلغ بشاعر ألمانيا العظيم جوته Goethe، إلى حد أنه كان يكتب الشعر الألماني، مقلدا طريقة الشعر العربي العمودي). لكن « العقل الكوني ».. التاريخ البشري، لا يمثل بالنسبة لهيجل، سوى لحظة واحدة ضمن منظومة فلسفية تطورية أشمل. إن روح تلك المنظومة ومحركها، هي « الفكرة المطلقة ». و« الفكرة المطلقة »، تخضع في حركتها إلى صيرورة جدلية تتكون من اللحظات التالية: في البداية تشرع « الفكرة »، انطلاقا من الفكر الخالص، في تطوير ذلك الفكر، وفق قوانين منطقية موضوعية صارمة. تتكون من ثلاثة محاور: الوجود، الجوهر، المفهوم. (وهذا هو التقسيم الذي وضعه هيجل لكتابه الحاسم « علم المنطق »). إن تطوير الفكر الخالص، سيؤدي إلى بلورة « الفكرة المطلقة ». وفي لحظة تالية، يقع « استيلاب » الفكرة المطلقة. والاستيلاب معناه، تحول الفكرة المطلقة إلى الطبيعة.. إن الطبيعة تصبح هي شكل وجود الفكرة المطلقة.. هي تعبيرها الخارجي (فهيجل إذن لا يرى التطور الذاتي للطبيعة، بل هو ينظر إليها كمجرد امتداد خارجي ساكن للفكرة المطلقة). وفي اللحظة الثالثة يظهر « العقل الكوني »، الذي هونفسه يخضع في حركة تطوره، إلى ثلاث لحظات: 1) العقل الذاتي (وهو الشعور، والتصور، والفكر) 2) العقل الموضوعي (وهو الدولة، والقانون، والأخلاق) 3) العقل المطلق (وهو الدين، والفن، والعلم) ثم تنتهي الرحلة بالرجوع إلى الفكرة المطلقة، بعد تحقيق المعرفة المطلقة. إن نقد فويرباخ لهيغل، سينطلق بالضبط من مفهوم الفكرة المطلقة. وهذا النقد هو بمثابة تمرد على سلطة تلك الفكرة المطلقة. ماذا قال فويرباخ ؟ قال بأنه لا يمكن اختزال التطور التاريحي للبشرية، في مجرد تطور منطقي لفكرة مطلقة مزعومة. إذ في هذه الحالة، ستكون البشرية مجرد أداة طيعة في يد قوة خارجية متسامية، لا يراها البشر. من هنا اعتبر منظومة هيجل الفلسفية، منظومة مجردة بكل معاني الكلمة. فلقد جردت الطبيعة، وجردت الانسان، وجردت الفكر. ويقول فويرباخ في هذا السياق: « إن التجريد يعني، وضع جوهر الطبيعة خارج الطبيعة، وجوهر الانسان خارج الانسان، وجوهر الفكر خارج فعل المفكر... » لقد حمل إذن فويرباخ سلاحه النقدي ضد هيجل، باسم استقلال الانسان. إنه يعارض الفكرة المطلقة المجردة، ببديل ملموس. وهذا البديل هو الانسان الملموس. لذلك في رأيه، أن الفلسفة إما أن يكون محورها الانسان الملموس.. العيني.. المادي، أو لا تكون. إن مشروع فويرباخ هو تأسيس فلسفة إنسية (humaniste). ومحرك التاريخ بالنسبة إليه، ليس هو الفكرة المطلقة الهيجلية، بل هو الانسان. ففكرة هيجل لا تعمل سوى ملى استيلاب الانسان. إنها دين جديد. والخلاصة أن فويرباخ أراد تجاوز فلسفة هيجل المثالية، المتمحورة على الفكرة المطلقة المجردة، عن طريق فلسفة مادية متمحورة حول الانسان الملموس.
لقد ثمن ماركس تثمينا عاليا اكتشاف هيجل للجدل. والأساسي في ذلك الاكتشاف، هو موضوعية الجوهر الجدلي.. هو كون العلاقات التناقضية التي هي المحرك للصيرورة الجدلية، هي علاقات موضوعية. لكن العيب الحاسم في الجدل الهيجلي، هو مثاليته. بمعنى أن العلاقات التناقضية الموضوعية.. أن موضوعية الجوهر الجدلي، تتم داخل الفكرة المطلقة. وما يريده ماركس إذن، هو "إخراج" الجدل من الفكر إلى الواقع.. من مجال الفكر الخالص إلى مجال الواقع المادي.. هو التأكيد على الطابع المادي الموضوعي للعلاقات الاجتماعية الواقعية.. بمعنى أن العلاقات التناقضية الموضوعية.. أن موضوعية الجوهر الجدلي.. أن الصيرورة الجدلية الموضوعية، يجب ألا تنطلق من الفكرة المطلقة وتتم داخلها، بل عل العكس يجب أن تنطلق وتتحرك على أرض الواقع المادي والاجتماعي. فماركس إذن يريد إفراغ الجدل الهيجلي، من مضمونه المثالي، ليعطيه مضمونا ماديا. لكن ماركس لم يتمكن من تحقيق انقلابه ذاك، إلا بعد أن راجع وأعاد النظر في كل المقولات الجدلية الهيجلية الأساسية. إن هذه المراجعة النقدية، قامت عل الأسس التالية:
إن هيجل له فهم خاص لمقولة التناقض. فهي تعني بالنسبة إليه أن الحل للتناقض يأتى عن طريق تجاوزه مع الحفاظ عليه في نفس الوقت. ولمقاربة المعنى الملموس لهذه الفكرة، بشكل أكبر، يتعين علينا عرض نظرية هيجل حول الدولة. إن هيجل ينظر إلى صيرورة تشكل الدولة، على الشكل التالى: في الأصل كانت هناك تناقضات طبقية داخل المجتمع المدني. هذه التناقضات أدت إلى تمزيق المجتمع المدني، بحث أن الحرب، كما يقول، كانت "حرب الكل ضد الكل". من هنا برزت مع التطور، الحاجة إلى وسيلة توسط بين الأطراف المتناقضة، لمنع التناقضات من التعمق والاحتدام. وهذه الوسيلة قد تجسدت في ظهور طرف ثالث، اتخذ له شكل الدولة. في رأي هيجل إذن، ان الدولة قد مثلت تجاوزا للتناقضات الاجتماعية، مع الحفاظ عليها في نفس الوقت. إن عظمة هيجل هنا، تكمن في كونه أول واحد استطاع ربط وجود الدولة، بالتناقضات الاجتماعية التي تمزق المجتمع المدني. لكن مثالية جدله، جعلته يسقط في خطإ نظري كبير. في رأيه، إن الدولة هي الحل التاريخي للتناقضات الاجتماعية. إن الكائن (وجود الدولة)، يقدمه إلينا هيجل إذن، على أنه هو ما ينبغي أن يكون. لذلك فإن خطأ هيجل لا يكمن في كونه، اكتشف جوهر الدولة الحديثة كما هي في الواقع، بل في كونه اعتبر واقعها القائم هو جوهرها. إن النظرية الهيجلية في الدولة (الكائن هو ما ينبغي أن يكون)، هي إذن نظرية تبريرية، هدفها تخليد الدولة. والجذر النظري لذلك الخطأ المنطقي، هو بالضبط مقولة "تجاوز التناقضات في إطار الحفاظ عليها". فهذه المقولة تعني، بأن التجاوز لا يجب تحقيقه عن طريق إلغاء أحد الطرفين المتناقضين، وتحرير الآخر، بل عن طريق ظهور طرف ثالث (الدولة) للتوفيق والمصالحة بين الطرفين المتصارعين. بهذا المعنى، إن الدولة بالنسبة لهيجل، هي الأداة التي يتحقق فيها التماثل بين الضدين ووحدتهما، لا الأداة التي يستخدمها طرف في صراعه ضد الطرف الآخر. ماذا نستخلص من كل ذلك ؟ نستخلص أن مفهوم التناقض عند هيجل، هو التناقض التصالحي.. التوفيقي، لا التناقض العدائي.. التناحري. وهذا الفهم الهيجلي لمقولة التناقض، ينسجم كليا مع منطق الفكرة المطلقة المثالي. إذ أنه داخل هذه الفكرة المطلقة، كل الحركة الجدلية تسير وفق خط واحد لا يتغير: تجاوز التناقضات في إطار الحفاظ عليها. ان النقد الماركسي لمفهوم التناقض الهيجلي، سيقود إلى نتيجتين حاسمتين : الأولى: هي أن ماركس سيدخل اصلاحا جذريا على مفهوم التناقض التصالحي الهيجلي. فبالنسبة لماركس، إن التناقض التصالحي هو موجود فعلا في الواقع، لكن ليس بالمضمون الذي يعطيه له هيجل. فمضمون هيجل هو التالي: هناك طرفان متناقضان، وإذن متصارعان. وفي مرحلة من تطور الصراع، يبرز طرف ثالث من أجل تحقيق الوساطة التصالحية بين النقيضين. وهذا معناه بالتالي، أن الطرف الثالث يمثل تجاوزا للتناقض، في شكل وحدة أرقى، بدون إلغاء الأسس المادية لذلك التناقض الذي تم تجاوزه. إن خطأ هيجل هنا - يقول ماركس - هو التعميم. ذلك أن الطرح الهيجلي، لا ينطبق إلا على النوع الأول من التناقض، الذي هو التناقض التصالحي. ويعرّف ماركس التناقض التصالحي، على النحو التالي: هو التناقض الذي يتميز بكون كل ضد من الضدين، لا يفعل أكثر من نفي تماثله مع الضد الآخر. ولهذا، فمن طبيعته الجوهرية، ان تطوره يقود فقط إلى انفصال مؤقت ونسبي بين الضدين، داخل إطار وحدتهما. وحل هذا النوع من التناقض، يتم عن طريق إقامة شكل جديد أرقى للتماثل بين الضدين. مثال ذلك، التناقض بين البيع والشراء في إطار تبادل البضائع. فصيرورة هذا التناقض، تمر من ثلاث لحظات رئيسية: اللحظة الأولى، هي لحظة التماثل التام ثم تليها لحظة انفصال نسبي ، في الزمان والمكان، بين عمليتي البيع والشراء. وفي الأخير يبرز الطرف الثالث، في شكل عملة نقدية التي تحقق التماثل بين الضدين في إطار وحدة أرقى. مثال آخر: الخلايا الجنسية عند الذكر والأنثى، التي تتوحد في شكل بويضة مخصبة، بعد تجاوز لحظة الانفصال بين السائل المنوي عند الذكر البالغ، وبويضة الأنثى البالغة. ومثال آخر: التناقض داخل حزب سياسي ثوري. يمر تطوره باللحظات الثلاث: لحظة الاتفاق التام، ثم لحظة التمايز بين طرفين رئيسيين (وهو تمايز نسبي، ومؤقت، إذا كان الطرفان معا واعيين لمسؤوليتهما، ويحرصان معا على عدم الدفع بالانفصال المؤقت في الرأي، إلى قطيعة تامة)، ثم لحظة حل ذلك التناقض في إطار وحدة أرقى. باختصار إن حركة التناقض التصالحي، عند ماركس، يمكن اختزالها في: الوحدة (التماثل) - الانفصال (الاختلاف.. التمايز.. النقد) - الوحدة الأرقى. إن هيجل إذن، بسبب عدم إدراكه لطبيعة التناقض التصالحي، قد سقط في خطإ نظري كبير عندما اعتبر الدولة، تنتمي إلى التناقض ذي الطبيعة التصالحية. أما النتيجة الحاسمة الثانية، فهي اكتشاف ماركس لنوع ثان من التناقض، يختلف جذريا عن النوع الأول. وهذا التناقض هو التناقض التناحري. إن تعريف ماركس لهذا النوع الجديد هو: التناقض التناحري هو التناقض، الذي يتميز بكون أحد الضدين ينفي الضد الآخر في وجوده ذاته (وليس فقط في تماثله مع الضد الآخر، كما هو الشأن بالنسبة للنوع الأول). ولهذا فإن ذلك التناقض التناحري، يفترض كحل، عندما يبلغ التطور مرحلة من النضج، إلغاء أحد الضدين وتحرير الضد الآخر. وكمثال على ذلك، الصرع الطبقي وانعكاساته على الدولة. فالدولة لا تمثل بالنسبة لماركس حلا للتناقضات الاجتماعية في إطار الحفاظ عليها، كما يقول هيجل. بل تمثل التعبير المكثف لتماثل الضدين، ومكانا إضافيا ومركزيا لصراعهما. وعلى أساس اكتشاف ماركس للتناقض التناحري، توصل أيضا إلى استخلاص نتيجة حاسمة على صعيد المنطق الجدلي، وهي: بما أن العلاقة التناقضية الأصلية (الجوهر)، التي تؤسس كل الصيرورة الجدلية للتناقض التناحري، تجد حلها النهائي في إلغاء أحد الطرفين المتناحرين وتحرير الطرف الآخر.. فلذلك فإن حل التناقض التناحري، يعني في نفس الوقت ظهور تناقض تناحري جديد، وبالتالي انطلاق صيرورة جدلية جديدة، مؤسسة على علاقات تناقضية جديدة (جوهر جديد). وهذا يعني أن العلاقة التناقضية الأصلية، المؤسِّسة للصيرورة الجدلية، هي نفسها نتاج لصيرورة جدلية سابقة. والنتيجة هي أن الجوهر نفسه، ليس شيئا ثابتا بل متغيرا.
إن هذه المقولة تحتل مركزا أساسيا في الجدل الهيغلي. بالنسبة لهيجل ان العلاقة التناقضية الأصلية.. الجوهر، يحمل معه منذ اللحظة الأولى الجنينية، الشكل المحدد الذي سيكون عليه الحل للتناقض. إنه يرسم إذن مسبقا، الحل الضروري الذي سيقود إليه التطور بالضرورة. وما على الصيرورة الجدلية سوى تحقيق ذلك الحل المحدد سلفا. وحين يطبق ذلك الطرح الهيجلي على التاريخ، فإنه يعني بأن التاريخ يتحرك وفق قوانين الضرورة التارخية الصارمة. فالتاريخ يعرف مسبقا هدفه منذ لحظة انطلاقه الأولى. وغايته هي بالضبط الوصول إلى هدفه وتحقيقه. فهو يشبه القطار الذي يتحرك فوق خط السكة الحديدية، الذي يعرف سلفا المحطة التي سيتوجه اليها قبل انطلاقه. إن التاريخ بالمعنى الهيجلي إذن، له معنى لأنه له غاية يسعى لتحقيقها.. هذه الغاية المحددة سلفا، والتي ستقود إليها بالضرووة حركته. إن ماركس ينتقد بشدة هذا الفهم الجبري.. اللاهوتي، لمسألة التناقض وسبل حلها. فماركس يؤكد على أن هناك فرقا نوعيا بين الضرورة التاريخية الهيجلية، وبين قانون التطور التاريخي. بالنسبة لماركس، ان القانون يحدد فعلا التطور، لكن بدون أن يرسم له سلفا الشكل المحدد للحل الذي سينتهي إليه. فهذه المسألة تبقى مفتوحة. ولذلك فإن ماركس لا يرى حلا واحدا، ضروريا، جبريا، للتناقض. بل مجموعة حلول ممكنة. أما الضروري بالنسبة لماركس، فهو فقط حاجة التناقض إلى حل. بمعنى أن ما هو ضروري، هو كون التناقض بعد تطوره وتعمقه، يخلق شروط حله وتجاوزه. لكن هذا الحل قد يتخذ هذا الشكل أو ذاك.. فهو قد يكون على شكل إلغاء التناقض القديم وحلول تناقض جديد محله، أو على شكل الاجهاض، أو على شكل انشطار الوحدة وتطايرها إلى ضدين منفصلين. هناك إذن مجموعة حلول ممكنة، وليس حلا واحدا ضروريا. لكن ما أن يتحقق الحل الممكن.. ما أن يغلب أحد الحلول الممكنة على الأخرى ويزيحها من الطريق، حتى يبدو الحل المنتصر وكأنه حل ضروري اقتضته الضرورة التاريخية. وهذا هو الوهم الذي سقط فيه هيجل.
إن ماركس لا ينكر الوجود في حد ذاته لتلك المقولة ، بل ينتقد الفهم اللاهوتي الذي أعطاه هيجل لها. إن مقولة نفي النفي الهيجلية، لها صلة وثيقة بمقولة الضرورة التاريخية الهيجلية. فكما أن هيجل يعتبر الحل الذي يتخذه التناقض، هو حل ضروري محدد مسبقا بمقتضى الضرورة التارخية، فكذلك هو يعتبر بأن الصيرورة الجدلية تتحرك وفق قانون نفي النفي الضروري. لكن ماركس من جهته، فكما أنه يعتبر أن التناقض له حلولا متعددة ممكنة، هو يعتبر أن مقولة نفي النفي يمكن أن تكون بدورها واحدا من تك الحلول الممكنة فقط. بمعنى أن الحركة الجدلية يمكن أن تسير وفق مقولة نفي النفي، في بعض الأحيان، وتعاكسها في أحيان أخرى.
تحتل هذه المقولة موقعا محوريا في المنظومة الفلسفية الهيجلية. ما هو معناها الدقيق عند هيجل ؟ إن الواقع الملموس، الطبيعي أو الاجتماعي، هو ملموس لأنه عبارة عن وحدة من الخاصيات والجوانب المتعددة والمتنوعة. فالواقع إذن شديد الغنى بهذا التنوع في محدداته، وأوصافه، وخاصياته، وجوانبه، وعلاقاته. فالكتاب، على سبيل المثال، هو وحدة متعددة من حيث تنوع الخاصيات والجوانب: الكتاب هو شكله الهندسي (متوازي السطوح مثلا) ، وهو حجمه، وهو وزنه، وهو لون غلافه، وهو لون أوراقه، وهو اللغة المكتوب بها، وهو مؤلفه، وهو سنة صدوره، وهو دار نشره، وهو وسيلة للقراءة. . إلى غير ذلك من الخاصيات التي لا تحصى. فالكتاب إذن، هو كل تلك الخاصيات والجوانب. . إنه التنوع في إطار الوحدة. إن الواقع الملموس، بالتالي، ليس شيئا آخر سوى الواقع المشروط بكل جوانبه وخاصياته. لكن خاصيات الواقع الملموس، ليست موجودة بالصدفة، بل تدخل ضمن وحدة من الحلقات المتواصلة، تقوم على ارتباط جدلي عميق. كيف يمكن للفكر إدراك وامتلاك الواقع، كشيء ملموس ؟ في الوهلة الأولى التي ينظرفيها الواقع الملموس، تظهر أمامه كل خاصيات وجوانب ذلك الواقع دفعة واحدة. بشكل عشوائي يفتقر إلى النظام والترتيب، فيختلط الأمر على الفكر. هنا اذن، في اطار هذا الخلط، يتبخر الواقع الملموس، يتحول إلى واقع مجرد. هكذا تبرز الحاجة الملحة بالنسبة للفكر، إلى تنظيم وترتيب جوانب وخاصيات الواقح الملموس، أي اكتشاف الخيط الرابط بين كل تلك الجوانب، إقامة تسلسل منطقي بينها في الفكر، يكون بمثابة تصور ملموس يعكس الواقع الملموس. وما هي وسيلة الفكر إلى ذلك ؟ هي التجريد، أي أن الفكرسيلجأ إلى محو، وإلغاء، وتجريد - عن طريق الذهن - الواقع الملموس من كل خاصياته وجوانبه، باستثناء خاصية واحدة، تكون هي الخاصية الجوهرية... هي العلاقة التناقضية الأصلية. ثم على أساس تلك الخاصية الجوهرية، يشرع الفكر في إعادة بناء الواقع الملموس، ذهنيا، بطريقة متسلسلة منطقيا تؤدي إلى تجميع كل خاصيات وجوانب الواقع الملموس بشكل حي. مثال ذلك: الكتاب، كواقع ملموس. كيف يمكن امتلاك تصور ملموس، على صعيد الفكر، للكتاب كشيء ملموس في أرض الواقع ؟ ينطلق الفكر من تجريد الكتاب من كل خاصياته المباشرة. إنه إذن يرمي جانبا، الشكل، والحجم، واللون، والوزن، وكل الخاصيات الأخرى المشابهة، (يتم ذلك بالطبع ذهنيا فقط، لأنه في الواقع لا يمكن عزل خاصية عن أخرى). إن هذا التجريد يقود الفكر إلى البحث عن الخاصية الجوهرية للكتاب .. عن العلاقة التناقضية الأصلية. وهذه الخاصية الجوهرية، هي العلاقة بين المقروء والقارئ. واللحظة الأولى لتلك العلاقة التناقضية، هي علاقة القارئ بأول كلمة في الكتاب. وعلى أساس تلك اللحظة الأولى، تنطلق صيرورة التشكل الجدلي للكتاب، على صعيد الذهن. إذ شيئا فشيئا، وبالتدريج، يتوصل الفكر إلى تجميع كل خاصيات الكتاب التي سبق له أن جردها في البداية. وهذا التجميع يتم وفق تسلسل منطقي مرتبط الحلقات، يمكن عرضه على النحو التالي: اللحظة الأولى هي علاقة القارئ بأول كلمة في الكتاب. إن قراءة الكلمة الأولى، تتلوها قراءة الكلمة الثانية، والثالثة، فالرابعة... إلخ. وتراكم عدة كلمات، يؤدي إلى تشكل سطر. والتراكم الكمي لعدة سطور، يؤدي إلى تشكل صفحة. وتراكم الصفحات يؤدي بدوره، إلى ظهور شكل هندسي واضح ومتبلور الجوانب (متوازي السطوح مثلا) . والشكل المتوازي السطوح، له حجم ووزن وخاصيات أخرى. وهذا هو الكتاب. بهذه الطريقة إذن، يتمكن الفكر من امتلاك التصور الملموس للواقع الملموس. وهذه الطريقة، من حيث الخطوط العريضة، تمثل النظرية المادية في المعرفة. الجدير بالملاحظة هنا، هو أن الفكر لا يمكنه أن يمتلك ذهنيا، الواقع، بشكل ملموس، إلا كنتيجة... إلا كحصيلة لحركة التجميع الجدلية لكل خاصيات الواقع.. هذه الحركة التي تنطلق من المجرد (الخاصية الجوهرية الأساسية)، ثم تتبع مسارا من التطور يغتني باستمرار بالخاصيات، قبل أن تصل إلى لحظة التجميع النهائية. إن هذه الملابسة الخاصة.. ملابسة امتلاك الواقع كنتيجة، هي التي جعلت هيجل يسقط في هذا الوهم: الاعتقاد بأن الواقع ما هو إلا نتيجة للفكر.. الفكر الذي ينمو في ذاته، ويتجمع في ذاته، ويغتني بالخاصيات الجديدة في ذاته، ويتحرك من تلقاء ذاته. في حين أن لجوء الفكر إلى التجريد، أي الانطلاق ذهنيا من المجرد نحوالملموس، ما هو إلا وسيلة يستعملها الفكر من أجل امتلاك الملموس.. من أجل إعادة انتاجه كملموس بالنسبة للفكر، ولا يعني بتاتا بأن ذلك يمثل صيرورة تشكل الملموس ذاته. فالملموس الفكري هو، عند ماركس، مجرد انعكاس للملموس الواقعي. إن الفكر لا ينتج المعرفة.. لا ينتج الواقع، بل فقط يعيد إنتاجها.. يعيد إنتاج الواقع بالنسبة إليه كفكر. فحتى إذا كان الفكر، في حركته نحوامتلاكه الملموس، ينطلق من المجرد، فإن ذلك المجرد نفسه يوجد في الواقع لا في الفكر. إن نظرية ماركس في المعرفة، تختلف إذن جذرياعن نظرية هيجل. فبالنسبة لهيجل، بما أن الواقع هو مجرد نتيجة للفكر، لذلك هناك وحدة بين الاثنين.. هناك تطابق بينهما.. والاختلاف ينهما ليس اختلافا جوهريا. أما ماركس فيعتبر الاختلاف بين الملموس الفكري، والملموس الواقعي، هو اختلاف جوهري، وليست هناك بينهما أية وحدة وأي تطابق، بالمعنى الذي يعطيه هيجل للكلمتين. بالنسبة لماركس إذن، الملموس الفكري هو مجرد انعكاس للملموس الواقعي. ومفهوم الانعكاس هو مفهوم حاسم في النظرية الماركسية للمعرفة. وحين يتحدث ماركس عن التطابق بين الفكر والواقع، فإنه يستعمل الكلمة بمعنى قدرة الفكرعلى عكس الواقع بشكل صحيح - مع حفاظ كل طرف بهويته الخاصة -، لا بمعنى: الواقع نتيجة للفكر، كما عند هيجل.
لقد لاحظنا أن نقد فويرباخ لهيجل، قد تركزحول الفكرة المطلقة الهيجلية. والبديل الملموس الذي قدمه فويرباخ للفكرة المطلقة المجردة، هو الانسان.. الفرد الحي، الذي يمكن معاينته بشكل ملموس في المجتمع، وفي الطبيعة. إن الانتقال من الفكرة المطلقة الهيجلية، إلى الانسان الملموس الفويرباخي، هو إذن انتقال من المثالية إلى المادية. وفضل فويرباخ يكمن بالضبط، في كونه أعاد الاعتبار إلى مادية القرن الثامن عشر، بعد أن أزاحتها من المسرح الفكري، الفلسفة المثالية الألمانية طيلة النصف الأول من القرن التاسع عشر. لكن هل الانسان الفويرباخي الملموس، هو ملموس فعلا ؟ يجيب ماركس: لا. لماذا ؟ لأن إنسان فويرباخ متجرد من علاقاته الاجتماعية الملموسة.. فهولا ينظر إليه داخل تلك العلاقات، بل خارجها. لقد تم اختزاله إلى الانسان-النوع البشري، وليس الانسان الواقعي المنخرط في علاقات إنتاج وعلاقات اجتماعية محددة. انسان فويرباخ إذن، هو شيء، وليس علاقة اجتماعية.. هو موضوع للتأمل والحدس، وليس ذاتا فاعلة، ونشاطا انسانيا ملموسا، أي ممارسة اجتماعية. وهذا ها يعبرعنه ماركس في الأطروحة الأولى، ضد فويرباخ، حين يقول: « إن العيب الرئيسي لكل مادية، لحد الآن، بما فيها مادية فويرباخ، يكمن في كون الموضوع الخارجي، الواقع، الحسي، لا ينظر إليهم إلا في شكل موضوع أو حدس، وليس كنشاط انساني حسي.. كممارسة اجتماعية.. كذات.. ». إن ذلك العيب الذي أشار إليه ماركس، قد جعل مادية فويرباخ تكون متخلفة عن مثالية هيجل في نقطة حاسمة: ذلك أن فلسفة هيجل قد أولت أهمية قصوى لعنصر النشاط.. التطور الذاتي من الداخل.. الصيرورة. بعبارة ، إن سر قوتها يكمن في امتلاكها لبعد التاريخ (الذي له مدلول مجرد ومثالي ، بالطبع). وهذا ما يؤكد عليه ماركس أيضا، في الأطروحة الأولى، حينما يقول: « ولهذا السبب، عمدت المثالية، في تعارض مع المادية، إلى تطوير جانب النشاط بطريقة مجردة.. ». ولأن فويرباخ ينظر إلى الانسان، كفرد معزول لا كعلاقة اجتماعية.. كنوع بشري لا كناشط انساني موضوعي، فلذلك، فإن النشاط الانساني الوحيد الذي يعترف به، هو النشاط الفكري (وليس نشاط البشر ضمن شروط عيشهم المادية). من هنا فتحرير الانسان من استيلابه (وهوالمشروع الذي حمل رايته فويرباخ)، لا يمكن أن يتم الا عن طريق النقد الفكري. بمعنى: إن الانسان أصبح مستلبا لأنه فقد وعيه بجوهره.. لأن جوهره أصبح غريبا عنه. لذلك من أجل رفع الاستيلاب عن الانسان، ومن أجل تحقيق تطابق الانسان مع جوهره، يجب تغيير سلوك الانسان. وهذا التغيير يقتضي إحداث ثورة فلسفية على صعيد الوعي. فالفلسفة إذن هي في نفس الوقت، التفسير والحل للمشكل. بهذا الطرح يسقط فويرباخ في المثالية، التي بنى مشروعه على نقدها. بل إنه ويا لغرابة الصدف - يكرر نفس أخطاء خصمه اللدود هيجل. فالتجاوز الذي أراده فويرباخ، ليس تجاوزا يمس الواقع المادي نفسه، بل هو تجاوز فكري ونظري فقط.. تجاوز داخل الوعي وحده. وفويرباخ يعتقد أن المشكلة قد حلت، بمجرد نقد العقل المستلب. إن فويرباخ إذن لا يسعى إلى تجاوز النظام الاجتماعي، بل تجاوز اللانظام داخل الوعي. وهذا الفهم للتجاوز، غير المشروط بتجاوز الشروط المادية نفسها، يذكرنا بالطرح الهيجلي لمفهوم التجاوز. فهيجل بدوره، كان يعتبر، بأن التجاوز يتم في إطار الحفاظ على الشيء الذي يراد تجاوزه. في هذا السياق يقول ماركس، في الأطروحة السادسة ضد فويرباخ: « إن الجوهر الانساني، ليس شيئا مجردا ملازما لطبيعة الفرد المشخص. بل هو في واقعه، مجموع العلاقات الاجتماعية. وحين لا يعمل فويرباخ على توجيه النقد إلى ذلك الجوهر الواقعي، فإنه يجد نفسه مضطرا، بالنتيجة، إلى تجريد مسار التاريخ، ومعالجة الحس الديني كواقع في ذاته، قائم على افتراض وجود فرد بشري مجرد ومعزول ». والخلاصة أن فويرباخ، في مشروعه لنقد هيجل، ورفعه لراية الانسان الملموس، لم يفعل أكثر من استبدال مقولة الفكرة المطلقة المجردة، بمقولة الانسان التي لا تقل عنها تجريدا.. واستبدال فلسفة بأخرى. بعبارة، أن نقد فويرباخ لهيجل، ظل نقدا ايديولوجيا، يتم داخل حدود الايديولوجيا وفي اطارها.
10- ثورة ماركس في نظرية المعرفة: لننطلق من الاشكالية التالية: التاريخ. التاريخ الملموس.. التاريخ الملموس في كليته. ما هو التاريخ ؟ هو عدد لا يحصى.. لا نهائي، من الوقائع والأحداث، والعلاقات، والخاصيات، والجوانب.. إلخ. هو: حضارات الصين، والهند، وبابل، وفارس، ومصر، وأمريكا الجنوبية، وافريقيا.. هو: الحضارة التكنولوجية الحديثة.. هو: حروب الاسكندر المقدوني، ويوليوس قيصر، وخالد بن الوليد، ونابليون، والحرب العالمية الأولى، والثانية.. هو: انتفاضة العبيد بقيادة سبرتاكوس، وثورة الزنج في العراق، والثورة الفرنسية، والبلشفية، واستقلال أمريكا.. هو: الرأسمالية، والامبريالية، والاستعمار، واغتصاب فلسطين.. هو اليهودية، والبوذية، والمسيحية، والاسلام.. هو: الفن الاغريقي، والشعر العربي، والمسرح الانجليزي، والأدب الفرنسي، والفلسفة الكلاسيكية الألمانية، والأوبرا الطليانية، والباليه السوفياتي، وموسيقى الجاز الأمريكية.. هو: البشر، والتجارة، والزراعة، والصناعة، والمال، والفكر، والجنس... إلخ. التاريخ الملموس إذن، هو كل هذه الخاصيات والجوانب اللامتناهية. كيف يمكن الربط منطقيا وواقعيا، بين كل تلك الجوانب اللامتناهية ؟.. ما هوجوهر التاريخ ؟.. ما هي قاعدته الأصلية التي تأسست عليها كل جوانبه، المتعددة بشكل لانهائي، والغنية بشكل لانهائي ؟.. ما هي العلاقة التناقضية الأولى التي تؤسس التاريخ ؟.. ما هو محركه ؟ عن هذه الأسئلة، أجاب هيجل: وقال: ان محرك التاريخ هو الفكرة المطلقة. وعنها، رد فويرباخ قائلا: لا، ليس محرك التاريخ هو الفكرة المطلقة، بل هو الانسان الملموس. وقال فرويد بدوره: إن محرك التاريخ، ليس هو الفكرة المطلقة، ولا هو الانسان الملموس، بل هو تسامي الطاقة الجنسية (La sublimation). وقال سارتر: إن محرك التاريخ، لا هذا، ولا ذاك، بل هو المعنى الوجودي. وقال ميشيل فوكو: إن كل ذلك مجرد أوهام.. فمحرك التاريخ الحقيقي، هو النسق البنيوي. هكذا إذن ظل كل فيلسوف يدلو بدلوه، ولائحة الفلاسفة الذين رشحوا أنفسهم للاجابة عن ذلك السؤال المحير، لائحة كبيرة. ولعل أبلغ تعبيرعن تخبط الفلاسفة هذا، هوالكلمات المقتضبة، لكن العميقة جدا، التي جاءت في الأطروحة الحادية عشرة لماركس ضد فويرباخ. تقول تلك الكلمات: « إن الفلاسفة لم يفعلوا سوى، تفسير العالم بطرق مختلفة... ». والسؤال الآن: لماذا ذلك التعدد في التفسيرات ؟ لأن كل فيلسوف، لا يرى في الواقع الشديد التنوع في خاصياته وجوانبه، سوى جانبا واحد مجرد. وحتى مع ذكر كل تلك الجوانب، سواء التي ركز عليها الفلاسفة أو غيرها، فإن ذلك لا يستنفذ الواقع التاريخي في شمولتيه. إن « الفكر » الذي امسز إليه هيجل لتأسيس منظومته الفلسفية، موجود فعلا في التاريخ، لكن كجانب فقط ضمن جوانب أخرى لا تحصى. وإن « الانسان » الذي طرحه فويرباخ، كبديل « لفكر » هيجل، هو أيضا موجود على أرض الواقع، ولكن بصفته جانبا من الجوانب، لا أكثر. ونفس الشيء يمكن قوله عن « الجنس » عند فرويد، و« المعنى الوجودي »، عنا سارتر، و« النسق البنيوي » عند فوكو (وليفي ستراوس، ولاكان، وفي النظريات الأخرى المتشابهة في العلوم الانسانية الحديثة). معن هذا أن الفيلسوف، حينما يستبدل نظاما معرفيا بنظام آخر، فإن هذا لا يعني بأنه خرج من الأرضية المعرفية التي يقف عليها الفلاسفة الآخرون، بل يعني فقط أنه خرج من فلسفة ليسقط في فلسفة أخرى من نفس الطبيعة، حتى ولو كانت تختلف عنها في الشكل. ما هي الطبيعة الجوهرية للأرضية الفلسفية العامة، المشتركة بين جميع الفلاسفة، رغم اختلافاتهم ؟ هذه الطبيعة هي: قلب العلاقات الواقعية. بمعنى أن الفيلسوف بدل أن ينطلق في تفسيره للتاريخ، من العلاقات الواقعية الأصلية، التي هي أساس كل شيء، فإنه بالعكس ينطلق من الظواهر.. التعبيرات.. التجليات.. الجوانب.. الفروع، لتفسير التاريخ. إنه يريد أن يفسر الجوهر الأصلي، بالتعبير المظهري لذلك الجوهر، بدل العكس. فمحرك التاريخ بالنسبة إليه، هو إذن التعبير الخارجي للعلاقات الواقعية.. هذا التعبير الذي يتخذ له شكل هذه المنظومة الفلسفية أو تلك، أو شكل هذا النظام الحقوقي أو ذاك، أو شكل هذا النسق البنيوي في الفلسفة (عند فوكو)، أو في التحليل النفسي (اللاوعي عند لاكان)، أو في الاثنلوجيا (عند ليفي ستراوس)، وغيرها. فالقول بأن جوهر التاريخ، هو هذا الجانب أو ذاك، كالقول مثلا بأن جوهر الكتاب، هو وزنه، أو شكله، أو لونه، أو لغته... إلخ. فهذه الأشياء جميعها ليست سوى جوانب ثانوية للتعبير عن جوهر أساسي، هو: العلاقة التناقضية بين القارئ والمقروء. وحين يقلب الفيلسوف العلاقات الواقعية (العلاقات بين الجوهر وتعبيراته الخارجية)، فإن وعيه نفسه يصبح وعيا مقلوبا. والوعي المقلوب، هو وعي وهمي.. وعي زائف. إن الوعي المقلوب بالعلاقات الواقعية، هو ما يسميه ماركس: الايديولوجيا. فالايديولوجيا اذن، ليست شيئا آخر، سوى وعي العلاقات الواقعية.. وعي العلاقة بين الجوهر وتجلياته، لكن بطريقة مقلوبة (تقديم التعبير الخارجي عن الجوهر الأساسي). وحين يؤكد ماركس في أطروحته رقم 11، بأن الفلاسفة لم يفعلوا سوى تفسير التاريخ بطرق مختلفة، فإنه يقصد بذلك أن تفسيراتهم ظلت تفسيرات إيديولوجية، أي مقلوبة (وهمية، زائفة). ولذلك فالمطلوب هو: التحرر من الوعي الايديولوجي المقلوب. وما هو الطريق إلى ذلك ؟ هو قلب المقلوب.. بمعنى، إقامة علاقة واقعية بين العلاقات الواقعية، (الجوهر من جهة، وتعبيراته الخارجية من جهة اخرى).. وهذا يعني، اعتبار الجوهر معطر أول، وتعبيراته الخارجية على صعيد الوعي، معطى ثان. (وهذا بالضبط هو المقصود بعبارة ماركس الشهيرة: « ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ». بهذا القلب للعلاقات الواقعية المقلوبة، يكون ماركس قد أحدث ثورة عظيمة في نظرية المعرفة البشرية. وعن طريق هذه الثورة المعرفية الجذرية، استطاع ماركس الانتقال من دائرة الايديولوجيا إلى دائرة علم التاريخ.. المادية التاريخية. إن علم التاريخ الماركسي، جعل التاريخ البشري يقف على رجليه، بعدما كان يسير على رأسه. والمحرك الأصلي للتاريخ، الذي سيكتشفه ماركس، انطلاقا من نظرته الثورية الجديدة، هو: العلاقة التناقضية الجوهرية على صعيد الانتاج المادي.. هي علاقات الانتاج بمعناها العام: مع الطبيعة في مرحلة أولى، ومع البشر والطبيعة في مرحلة لاحقة. وعلى أساس علاقات الانتاج، قام الصراع الطبقي. إن الصرع الطبقي هو محرك التاريخ البشري الطبقي. والمادية التاريخية، ليست علما للتاريخ وحسب، بل هي أيضا إيديولوجيا ثورية للطبقة البروليتارية الثورية. إنها ايديولوجيا ثورية، لأنه: من جهة، لم تفسر التاريخ بهذه الطريقة الايديولوجية أو تلك (كما كان يفعل الفلاسفة)، بل لقد فسرته بالطريقة العلمية الوحيدة الممكنة، وهي المادية الجدلية. ومن جهة أخرى، فهي لم تكتف بالتفسير (كما كان يفعل الفلاسفة)، بل لقد أرادت تغيير العالم، من خلال انخراطها الواعي والمنظم، في الصراع الطبقي الواقعي والموضوعي الذي تخوضه البروليتاريا، وهي الطبقة الاجتماعية الوحيدة المؤهلة لاعطاء مخرج ثوري لذلك الصراع. من هنا فإن مفهوم البراكسيس، ومن ثم مفهوم الحزب الثوري، يعتبران مفهومين حاسمين في الماركسية. فالماركسية إذن ذات طبيعة مزدوجة. فهي في نفس الوقت: 1) - وعي تاريخي للحركة العمالية الثورية (وهذا البعد الصريح المتعلق بالوعي التاريخي الطبقي، يعتبر شيئا جديدا جدا بالنسبة لكل الفكر النظري السابق) 2) - وثورة معرفية شاملة تنزع نحو امتلاك الحقيقة الكلية.
|