عودة لمسألة الانتقال الاشتراكي |
|
محاضرة ألقاها: سمير أمين (منسق ملتقى العالم الثالث
بداكار، السينيغال.) |
|
يمكن افتتاح النقاش المتعلق بانتقال الرأسمالية إلى اشتراكية من خلال التأكيد على بديهية تلامس أقصى حدود المألوف: فالمفاهيم التي سنبلورها والمتعلقة بهذا الانتقال تتوقف على التصورات التي لدينا والخاصة بطبيعة الرأسمالية وطبيعة الاشتراكية. وهذا يعني أننا سنقف بفعل ما سيلي على أن الاتفاق كان أبعد عن أن يحصل دائما بخصوص ما يحدد ما هو جوهري في الرأسمالية كما هو الشأن بخصوص ما هو جوهري في نقيضها؛ أي الاشتراكية. ولا يتعلق الأمر هنا بطبيعة الحال إلا بأشكال التباين والاختلاف في حضن أشكال اليسار التاريخية المنادية والمطالبة بالاشتراكية، وأيضا في حضن معسكر الماركسية التاريخية وحده؛ ومن ثمة، وبطبيعة الحال، بالتصورات المتعلقة باستراتيجيات تجاوز الرأسمالية – أي استراتيجيات الاشتراكية-الديمقراطية بالشرق، البولشفية والماوية وفصائل جذرية للحركة الشعبية المناهضة للإمبريالية بالعالم الثالث، وذلك حتى نقصر حديثنا فقط على التيارات التي لا زالت ربما، والتي كانت في كل الأحوال قوى تاريخية هامة – تمايزت بشكل قوي بعضها عن البعض الآخر. وأضيف لهذه المعاينة الأولى معاينة ثانية تعادلها من حيث وضوحها المألوف: فالتاريخ لم يبرهن على صلاحية هذه الأطروحات المختلفة المتعلقة بالانتقال، بل إنه فندها كلها بالأحرى كما يبين ذلك بوضوح تآكل الدولة-الحامية Welfare-State وانهيار الأنظمة السوفياتية والتخلي عن الماوية بالصين وإعادة الكمبرادورية للعالم الثالث. وأكثر من ذلك فالتاريخ يتقدم دائما والرأسمالية تتطور وتتغير، وفي نفس الآن، فلم يُقل قبليا إنه لا تتوجب إعادة النظر في عين التعريفات والتحديدات المتعلقة بالرأسمالية من أجل الوقوف على تغيراتها الكيفية الدالة والمحتملة كما يمكن أن تكون عليه العولمة الجديدة على سبيل المثال. I. نمط الإنتاج الرأسمالي، الرأسمالية العالمية القائمة فعلا، تناقضات النظام الثلاث الأساسية II. لا نهاية للتاريخ، و لا بد أن يتم تجاوز الرأسمالية V. اقتراحات أولى من أجل تصور جديد للانتقال
I. نمط الإنتاج الرأسمالي، الرأسمالية العالمية القائمة فعلا، تناقضات النظام الثلاث الأساسية يتحدد النظام الرأسمالي اليوم ويتسم بثلاثة تناقضات أساسية، وهي تناقضات جوهرية بالمعنى الذي يجعل النظام غير قادر على مجرد التفكير في تجاوزها. وسنرى في ما بعد في أي مستوى أو مستويات اقتسمت مختلف التيارات التاريخية للماركسية والاشتراكية التصورات المقترحة هنا، وهذا يعبد الطريق من أجل فهم وتقييم ومناقشة تصورات الاشتراكية والانتقال إليها، ذلك الانتقال الذي بلورته هذه التيارات التاريخية المختلفة نظريا وعمليا. إن السمات الثلاث من حيث صياغتها المكثفة هي كالتالي: 2) استقطاب لا مثيل له في التاريخ على المستوى العالمي. 3) عجز عن وضع حد لتدمير الموارد الطبيعية بدرجة تهدد مستقبل الإنسانية.
أولى هذه السمات تلك التي يجد بداخلها كل الماركسيين أنفسهم، كيفما كان التيار الذي ينتمون إليه، في أحسن حال؛ ما دامت تشكل نفس التعريف لنمط الإنتاج الرأسمالي، ولكننا حالما ندقق بالرغم من هذا القاسم المشترك المبدئي ما هي علاقات الإنتاج موضوع الحديث، والقيمة وقانون القيمة، والعلاقات في ما بين صراع الطبقات والقوانين الاقتصادية، والعلاقات التي تربط هذه القاعدة الاقتصادية بالبنية الفوقية الإيديولوجية… الخ. فإننا نقف على مدى ودرجة التباينات والاختلافات في حضن الماركسية ذاتها بشكل أولى، إذا ما أخذنا في الاعتبار مجموع تيارات اليسار المناهض للرأسمالية. وسأوضح الملاحظة التي أشرت إليها من خلال التذكير على سبيل المثال ببعض الصياغات الأساسية: 1) لا يتخذ نمط الإنتاج الرأسمالي صيغته النهائية إلا انطلاقا من الثورة الصناعية عندما تتحول الملكية الرأسمالية المستغلة للعمل المأجور إلى ملكية لوسائل الإنتاج ذاتها الناتجة عن العمل (المعامل) وتنفصل بشكل واسع عن أشكال الملكية السابقة التي تحكم الوصول للوسائل الطبيعية للإنتاج (الأرض). ويمكن أن تتم القراءة بعديا للفترة التي سبقت هذه القفزة النوعية في مجال تطور القوى المنتجة (التي يمكن موضعتها حوالي 1800) كفترة انتقال (موصوفة بالمركنتيلية) إلى الرأسمالية. 2) إن علاقة الإنتاج الرأسمالية المنجزة هاته تشكل الإطار الضروري الذي تنتشر بداخله القيمة وقانون القيمة، ويبدو المجتمع حينها منظما بداخل سلسلة من الأسواق المتشابكة والمتداخلة التي تشكل سوقا معمما مندمجا ثلاثي الأبعاد (سوق للمنتجات، سوق للعمل، سوق للرساميل). 3) إن الأسواق المعنية والموصوفة هنا تبدو مشتغلة لوحدها وبفعلها ذاتها، وتبدو الدينامية التي تحركها حينها خاضعة لقوانين مستقلة عن الإرادة الإنسانية؛ قوانين تشتغل بداخل المجتمع إذن كما تشتغل قوانين الطبيعة بداخل هذه الأخيرة، وتتحول بذلك هذه القوانين الاقتصادية إلى قوى موضوعية. إن هذه الصفة الجديدة – بالمعنى الذي لا تكون فيه أية قوانين اقتصادية موضوعية قوانين تحكم إعادة الإنتاج الاجتماعي إلا انطلاقا من اللحظة التي تتخذ فيها الرأسمالية شكلها المنجز والنهائي – تحدد الاستلاب الاقتصادي الخاص بالعالم المعاصر (والذي أضعه في حال تعارض مع الاستلاب الميتافيزيقي الذي حكم اشتغال المجتمعات الطبقية دافعة الجزية – والتي هي سابقة عليه). وأصوغ هذه الخاصية بالقول إن قانون القيمة لا يحكم فقط إعادة إنتاج النظام الاقتصادي للرأسمالية، وإنما يحكم كل أوجه الحياة الاجتماعية المرتبطة به. 4) إن استلاب العامل يجد مكانه في هذا الإطار كتعبير عن مطلب اشتغال الاستلاب الاقتصادي الحاصل في مجال تنظيم سوق الشغل حيث يجب على بائع قوة العمل هو أيضا أن يحيا وجوده كما لو كان خاضعا لقوانين موضوعية مستقلة عنه. 5) وتجد العلاقات القائمة في ما بين القاعدة الاقتصادية والتدبير السياسي للمجتمع والأشكال الإيديولوجية التي تعبر بواسطتها القوى الاجتماعية مكانها أيضا في هذا الإطار؛ فالرأسمالية نظام اجتماعي يفصل تنظيم الحياة السياسية عن تنظيم الحياة الاقتصادية التي تشتغل لذاتها بصفة مستقلة ذاتيا، وهذا الفصل هو شيء جديد ومبتكر في التاريخ، فقد تحدد نظام دفع الجزية السابق من خلال انصهار المؤسسات وإخضاع الشأن الاقتصادي للشأن السياسي. وقد صغت عملية القلب هاته بقولي إن السلطة تحكم الثروة في النمط القائم على دفع الجزية، في حين أن الثروة تحكم السلطة على العكس من ذلك في النمط الرأسمالي. ويتقابل هذا القلب مع تعويض الاستلاب الاقتصادي (واستلاب العمل) للاستلاب الميتافيزيقي (هيمنة المفاهيم الممكنة من إعادة إنتاج السلطة). إن فصل المؤسسات الاقتصادية عن المؤسسات السياسية هو أيضا شرط تكوين أنظمة سياسية حديثة أخرى إلى جانب الديمقراطية البورجوازية. وسيوضح هذا العرض المختصر لوحده وببساطة مدى ووساعة الاختلافات المتعلقة مع ذلك بهذا السؤال الجوهري: ما هي الرأسمالية ؟ وبينما تلُقي المفاهيم التي أقترحها الضوء على القطيعة النوعية التي تضع الرأسمالية والأنظمة السابقة في حال تعارض، فإنه يوجد منظور معارض تماما ينطلق من تحديدات (تعريفات) عامة للمؤسسات المشتركة في ما بين كل المجتمعات (القاعدة الاقتصادية، علاقات الإنتاج، الدولة، الطبقات والمؤسسة السياسية، البنية الفوقية الإيديولوجية)، ويحلل حينها اشتغال تمفصل هذه المؤسسات بنفس الطريقة من مجتمع لآخر (فالقاعدة الاقتصادية تحكم على سبيل المثال وبنفس الطريقة مجموع التاريخ، وهي تشتغل دائما بفعل قوانين موضوعية، والبنية الفوقية هي دائما المجال الذي تنعكس عليه اشتراطات إعادة إنتاج القاعدة…الخ.). إن هذا المنظور ينزع إذن أيضا في عرضي نحو الإقلال من الأهمية التي تحتلها مفاهيم الاستلاب الاقتصادي (واستلاب الشغل). وما دمت غير مستعد لقبول أن تكون هناك جدوى ما لفكرة أن الأبوية مكلفة بتسليم شهادات الماركسية الأصيلة (فأنا على العكس أرى فيها خطرا)، فإنني لن أناقش مختلف هذه الأطروحات بخصوص ميدان العلم الماركسي. سألاحظ فقط إذن الواقعة التي سأحاول في ما بعد تفسيرها: وهي أن المفهمات المختلفة بشكل مقبول مع تصورات عرضي المختصر في خمس نقاط كانت وتظل بشكل واسع مهيمنة بداخل تيارات اليسار التاريخية المناهضة للرأسمالية، لا فقط بداخل تيارات الماركسية التاريخية للأممية الثالثة المهيمنة (والتي مثلها التيار السوفياتي بدون شك وليس اليسار الماوي أو أراد أن يمثلها على الأقل بشكل جزئي )، وإنما بالأحرى بداخل الاشتراكية-الديمقراطية الغربية وبداخل الجناح الراديكالي للشعبوية المناهضة للإمبريالية بالمحيط، أي بداخل القوتين المركزيتين الأخريتين المضادتين للنظام antisystémiques جزئيا أو عن طريق أهدافهما المعلنة على الأقل. بيد أن التصورات التي لدينا والمتعلقة بالرأسمالية تحدد بشكل واسع التصورات التي سنكونها عن ما يمكن أن يكون – أو يجب أن يكون – عليه المجتمع اللاطبقي الأعلى والمقترح كهدف للصراعات. إنها تمارس بدورها تأثيرات حاسمة على استراتيجيات الانتقال التي ستتم بلورتها من أجل بلوغ الاشتراكية المقترحة إذا ما كان ذلك هو الإسم الذي يعطى لهدف الصراعات. سنرى إذن في ما بعد أن إرجاع الاشتراكية وردها لتصور سوقي لرأسمالية بدون رأسماليين هو تعبير عن منظور الهدف الذي أنتقده هنا، وسنرى أيضا أن كل استراتيجيات الانتقال المقترحة عن طريق التاريخ الفعلي (تدرجية الاشتراكية-الديمقراطية منذ برنشتاين، الثورة العالمية للاشتراكية-الديمقراطية الثورية ثم للتروتسكية في ما بعد، بناء اشتراكية الأممية الثالثة، الثورة الدائمة عبر مراحل لدى الماوية، اشتراكية السوق لدى الماركسيين القائلين بالتسيير الذاتي والفوضويين، الاشتراكيين وغيرهم، النزعة الصبيانية، صين ما بعد الماوية، السبل غير الرأسمالية المقترحة منذ عهد قريب بالعالم الثالث) تقتسم كلها في ما وراء اختلافاتها العميقة بعض عناصر قاسم مشترك لا يمكن اكتشافه بدون الذهاب إلى منابع التصورات المتعلقة بالرأسمالية والاشتراكية.
إذا تناولنا الآن السمة الثانية للرأسمالية فإننا سنرى أنها لا زالت تشكل موضوع اختلافات واضحة المعالم؛ فلم يحدث أبدا خلال تاريخ الإنسانية أن كانت الفوارق في نمو القوى المنتجة؛ أي في إنتاجية العمل الاجتماعي؛ بهذا التعملق الذي صارت إليه في إطار الرأسمالية. وإذا كانت الفوارق سنة 1800، في ما أمكن قياسه بحدود الإنتاج المادي لكل فرد لم تتجاوز إلا ناذرا نسبة 1 إلى 2 بالنسبة لمعظم المجتمعات المجتازة لمراحل التنمية الأولى، فإن هذه النسبة اليوم هي نسبة 1 إلى 50 أو أكثر. وأكثر من ذلك، وبينما كان النزوع المهيمن على المدى الطويل في الأزمنة القديمة ينحو نحو تدارك التخلف (وهكذا فإن أوربا التي كانت لا تزال متوحشة حوالي سنة 1000 تداركت تخلفها بالمقارنة مع آسيا في ما بين هذا التاريخ وسنة 1500)، فإنه أصبح على النقيض من ذلك نزوعا ينحو نحو التفاقم الدائم منذ أن هيمنت الرأسمالية. وتلك مفارقة ظاهرة ما دام الخطاب الإيديولوجي المهيمن يركز على العولمة التي دشنها التحديث وعلى إمكانيات تسريع التقدم التي توفرها هذه الأخيرة للمجتمعات المتخلفة. إن الفكر النيوليبرالي يظل قليل الإقناع بشكل مدهش أمام واقعة كبرى بهذا الحجم، وهو يتمسك بداخل تياراته المهيمنة بخطابين رئيسيين متوازيين ومتناقضين كلية، بدون أن يبدو أن ذلك يزعجه؛ فهو يستمر من جهة في القول بأن العولمة الرأسمالية توفر للجميع حظوظ التنمية (وذاك هو المحتوى الجوهري لخطاب الاقتصاد الاصطلاحي)، وهو مطالب من جهة أخرى بتفسير الواقعة الغريبة المتمثلة في أنه لم يتم أبدا في الواقع استثمار هذه الحظوظ (ما دام الفارق يتعاظم يوما عن يوم). إنه يلجأ حينذاك لخطاب تبريرُه الاقتصادي غائب كلية وحجته منصبة على السمات المزعوم أنها نوعية وخاصة بمختلف الثقافات والأديان إن لم نقل الإثنيات (التي سميت سلالات أو أجناسا قبل أن يهجر هذا اللفظ بعد أن ارتكبت باسمه صنوف المبالغات وأشكال الإفراط التي نعرفها). ولقد كان بإمكان تيارات الفكر المناهض للرأسمالية بالمقابل أن تحول الواقعة المشينة والمتعاظمة للاستقطاب العالمي المصاحبة للتوسع الرأسمالي إلى رأسمال يخدم مصلحتها. ولفعل ذلك فقد كان عليها بالضبط أن تنتبه للعلاقة القائمة في ما بين الاستقطاب والرأسمالية واقتراح نظرية لهذه العلاقة، ولكنها عموما لم تفعل ذلك، أو أنها اعتقدت أنها تفعل ذلك، لكن بطريقة فيها نظر وباستخدام حجج تبدو لي جد قابلة للنقاش. إن الفكر الاجتماعي كالعلم يظل دائما غير منجز ولا نهائي، وذلك لحسن الحظ، والمادية التاريخية لا تفلت من هذه القاعدة. إذن، ففي مواجهة المسألة الأكثر عمومية لقوانين التطور الاجتماعية فإن المادية التاريخية استلهمت أطروحات متباينة بعضها يركز على القوانين العامة التي ستعتبر صالحة لكل المجتمعات، وبعضها الآخر – على العكس من ذلك – يركز على الخصوصيات النوعية التي من شأنها أن تفرض مسارات مختلفة. إن المبرر الذي يجعل هذه التباينات تباينات ممكنة هو أن نظرية تمفصل المؤسسات المختلفة تظل بشكل واسع برسم الإنجاز: فبينما أنتجت الماركسية في نظري نظرية متماسكة و عاكسة لنمط الإنتاج الرأسمالي فإنها لم تنتج تحاليل بنفس درجة الإقناع في مجال نظرية السلطة ونظرية الثقافة، وأيضا فإن بعضها استطاع مفصلة اشتغال المؤسسات بالشكل الذي يجعل هذه الأخيرة تنتج تاريخا كونيا (وتاريخ المراحل الخمس: الشيوعية البدائية، الإقطاعية، الرأسمالية، الاشتراكية هو بكل تأكيد صياغة كاريكاتورية له) والبعض الآخر استطاع ذلك بطريقة تمكن من تفسير ضروب التأخر والانحصار والمآزق المحتملة؛ كنظرية نمط الإنتاج الآسيوي، مع بقائها في الآن نفسه مخلصة لما تعتقد – هذه أو تلك من النظريات – أنه يشكل النواة الجوهرية للمنهج الماركسي. لقد اقترحت من جهتي تجاوزا لصراع هاتين المدرستين المتمركزتين حول أوربا من خلال تنظير للتطور مصاغ بحدود المراحل الثلاث: المرحلة الجماعية، مرحلة دفع الجزية، المرحلة الرأسمالية. لن يتوجب علينا إذن أن نندهش عند رؤيتنا لبروز اختلافات بهذه الأهمية عندما نتناول نفس المسألة – أي المشكلة التي تستلزم تمفصل المؤسسات – بداخل حقل جد محدود كالحقل المحدد من قبل الاستقطاب في العصر الحديث. إن النزوع المهيمن هنا استصغر في نظري أهمية هذه الظاهرة. لماذا إذن ؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة لفلسفة الأنوار؛ إلى لحظة تشكل إيديولوجية العقلانية المعاصرة (البورجوازية) ولحظة تشكل الحركة العمالية والاشتراكية، وضمنها الماركسية. إن هذا التاريخ هو تاريخ التعبير القوي عن نزعة تفاؤلية مؤكدة من المفروض فيها أن تقود نحو انتصار العقل، وإذن نحو التقدم، أي نحو محو تدريجي ومتصاعد لأشكال التأخر المفترض أنها اصطلاحية لدى البعض بالمقارنة مع الآخرين – أي نقيضا إذن للاستقطاب. وقد توقف الفكر البورجوازي عند هذه النقطة كما ذكّرت بذلك أعلاه. إن نزعة هذا الفكر الاقتصادية تجد تعبيرها الساذج في نظريات التنمية الاقتصادية والذي يفترض أنه إذا ما طبقت اختيارات صائبة في هذا المجال، فإن الباقي؛ أي السياسة والثقافة، تتلاءم معها بشكل طبيعي (أو يمكن أن تتلاءم معها). غير أن ماركس تقاسم أيضا هذه النزعة التفاؤلية مع اشتراكية عصره؛ ألم يؤكد أن قانون القيمة الخارج من صندوق الدركي يصبح قوة لا تقاوم تكسر كل أشكال المقاومة المشيدة في الماضي: فلا الأمم و لا الدول و لا الإيديولوجيات والسياسة، و لا حتى الأديان تستطيع أن تصمد أمام تأثيراته التي هي بشكل متآن مكتسحة ومدمرة (فهي تلغي طبقة الفلاحين والصناع وتختزل كل الطبقات الشعبية إلى وضعية البائع لقوة العمل… الخ.) وتقدمية (تحرير القوى المنتجة وتحرير الفرد). إن التطور اللامتكافئ، الاستقطاب، والفوارق المتعاظمة ليست إذن إلا أحداثا عارضة، وسيفرض النزوع المهيمن ذاته إن عاجلا أو آجلا في التوسع العالمي للرأسمالية، وسيخلق على المستوى العالمي مجتمعا واحدا مندمجا، مؤسسا على التناقض الاجتماعي الوحيد الذي يجعل البورجوازيين والبروليتاريين في حال تعارض. وهكذا ستكون الرأسمالية قد مهدت وهيأت تجاوزها الخاص عبر الثورة الاشتراكية العالمية. وخلال ذلك إذن فإن تاريخ الرأسمالية سيكون تاريخ إخضاع كل مؤسسات الحياة الاجتماعية للاشتراطات والمطالب الأحادية الجانب لانتشار اقتصادها. ألا نتعرف فيها على الخطاب المأخوذ به اليوم من قبل الليبراليين الجدد المنافحين عن السوق ؟ وإذا كان قارئ ماركس سيجد يقينا أن الصورة المرسومة هنا صورة كاريكاتورية، فإن الصورة التي فرضت ذاتها في الماركسية التاريخية للأمميتين الثانية والثالثة ليست أقل كاريكاتورية. لقد أجريت بعض التصويبات حتى تؤخذ الواقعة العنيدة – الاستقطاب المتنامي – بعين الاعتبار، لكن بدون إعادة النظر في النظرية الأساسية التي يجب أن تنتهي قوانين التراكم حسبها إلى إلغائها وتصفيتها. وقد جاءت أكثر هذه التصويبات الكبرى أهمية من جانب لينين من خلال بناء نظرية للإمبريالية تعزو الاستقطاب للتحولات الجديدة لرأسمالية الماضي في عصر الاحتكارات انطلاقا من سنة 1880 تقريبا. إن إعادة النظر في هذا الاعتقاد وتعويضه بالفرضية المناقضة التالية (وماذا لو كان الاستقطاب نتاجا لتوسع الرأسمالية وليس نتاجا لمقاومتها ؟) هي ظاهرة جديدة كليا. ولقد شكلت هذه الفرضية الخيط الموجه لكل أبحاثي منذ بداياتها في الخمسينيات، كما كانت كذلك أيضا بالنسبة للمدارس المسماة مدارس التبعية بأمريكا اللاتينية ولاقتصاد-عالم. لقد كانت مساهمات هؤلاء وأولئك والقواسم المشتركة والاختلافات في ما أعتقد موضوع ما يكفي من الانتباه مما يجعلنا لا نعود إليها هنا. لكن المهم بالنسبة لموضوعنا هو معرفة أنه لا يتعلق الأمر هنا إلا بمواقف نظرية لدى مفكرين لم يستحوذوا على حركات اجتماعية تاريخية من خلال توفير هيكل أو بنية إيديولوجية لها، حتى ولو أمكن هنا وهناك إعادة تناول بقايا هذه التطورات بداخل الخطابات السياسية للنقد اليساري للمذهب السوفياتي أو بداخل خطابات التحرير الوطني الجذري. إن هذه العلاقة تشكل موضوعا آخر يخرج عن حقل موضوعنا المحدد هنا. ونظرا لأن الجواب الضمني عن مسألة الاستقطاب لعب، كما سنرى، دورا حاسما في التصورات المرتبطة بالثورة والبناء الاشتراكيين، فقد بدا لي ضروريا تدقيق جوهر نظرية الاستقطاب الرأسمالي المقترحة إذا ما أريد تعويض هذه التصورات التي مضى أوانها (أو أفلست) بتصور مغاير وجديد للانتقال إلى الاشتراكية. وسأفعل ذلك مع اقتصاري هنا على الاقتراحات التي توصلت إليها اليوم في هذه الميادين بدون العودة إلى تاريخ تشكلها و لا إلى تاريخ علاقاتها بنظريات المدارس المشار إليها أعلاه. لقد نتج الاستقطاب إذن بفعل الاشتغال ذاته لقانون القيمة الحاصل على المستوى العالمي، ويستلزم هذا التأكيد الاعتراف بهيمنة الاقتصاد الخاص بالرأسمالية عن طريق معارضته للأنظمة التي سبقته. إن هذه الهيمنة هي ما عبرت عنه أعلاه عند الكشف عن السمة الأساسية الأولى المحددة للرأسمالية. وبقبول الماركسية التاريخية أيضا لأطروحة هيمنة الاقتصاد هاته فإنها على الأقل استخلصت منها نتيجة تم تكذيبها من قبل التاريخ – وهي أنه على النزوع الموحد والمجانس أن ينتصر على النزعات التي تنتج الاستقطاب – أو عندما تقبل الواقعة فإنها تفسرها عن طريق فرضية مناقضة لفرضية هيمنة الاقتصاد عن طريق المقاومة الظافرة للسياسة أو الثقافة. فأين يكمن إذن خطأ الماركسية التاريخية ؟ لقد شرحت هذا الخطأ عن طريق الخلط الذي أتته الماركسية التاريخية في ما بين قانون القيمة في صيغته العامة والمجردة التي تحدد الرأسمالية بوصفها نمط إنتاج، وقانون القيمة المعولم والذي هو صيغته المجسدة المرتبطة بالتوسع العالمي للرأسمالية (التي أسميها الرأسمالية القائمة فعلا). الأول يستلزم دمج وتوحيد السوق بجميع أبعادها، والثاني يستلزم دمج وتوحيد الخاصية المبتورة للسوق العالمية التي تقصي قوة العمل. وفي الوقت الذي تماثل فيه الماركسية التاريخية تبعا لذلك التوسع العالمي للرأسمالية بتوسع نمط الإنتاج الرأسمالي على المستوى العالمي، فإن المفهمة التي أقترحها تمكن من التمييز بينهما. تتم البرهنة حينها بسهولة على أن اشتغال قانون القيمة المعولم وحده هو منتج الاستقطاب؛ أي الوقوف على واقعة أن الاستقطاب محايث للرأسمالية منذ أن اتخذت هذه الأخيرة شكلها النهائي (وليس نتاجا للتحولات المحددة لمرحلتها الحديثة-الإمبريالية). إن الاستقطاب يفسر بقوانين التراكم الرأسمالي لا بمقاومة هذه الأخيرة عن طريق السياسة أو الثقافة. إن قانون القيمة المعولم يمكن حتى من الذهاب أبعد في تفسير الوقائع؛ وذلك لأنه يأخذ في حسبانه بشكل كامل الخصائص النوعية للضواحي الرأسمالية (المحيط): تفكك النمط الإنتاجي (بفعل الاعتراض على سمته المتمركزة ذاتيا في المركز)، التبعية، إعادة إنتاج صيغ الإنتاج العتيقة المشوهة والمخضعة لمنطق التراكم (بفعل الاعتراض في المركز على تدمير صيغه وأشكاله المسيطرة)، عدم الملاءمة للنظام السياسي الحديث – نظام دولة القانون ونظام الديمقراطية البورجوازية… الخ. – في الضواحي (المحيط)… الخ. إنه يأخذ في الحسبان إذن المقاومات السياسية والثقافية التي عندما تكون أبعد عن أن تكون بقايا للماضي، فإنها تكون على العكس من ذلك ردود أفعال على تحدي الاستقطاب الرأسمالي. إن الأفكار المبلورة هنا ليست مع ذلك إلا أفكارا، والحركة الواقعية المناهضة للرأسمالية تجهلها، ومن ثمة فقد تم تناول الانتقال بطريقة تلاحمت من خلالها، وبدون توقف، النظريات الخاطئة والتلاؤمات البراجماتية. لقد طرحت النظرية زاعمة أن الرأسمالية هيأت بفعل توسعها الخاص شروط ثورة اشتراكية عالمية. وعلى الأقل إذا ما تصورنا أن كل شعوب العالم لم تكن قد رقت بعد إلى مستوى شعوب المناطق الأكثر تقدما في اللحظة التي دقت فيها ساعة الثورة، فإن هذه الأخيرة تنتشر في مجموع المراكز المتقدمة وتجر الضواحي وراءها، تلك الضواحي التي تجعلها فضلا عن ذلك تتدارك التأخر بوثيرة يمكن منذ ذاك تسريعها مقارنة بما كانت عليه حالها في الحقبة الرأسمالية. وبعبارة أخرى فإن ثورة المراكز تشكل الحد الأمثل للصف الثاني (الثاني الممتاز)، الحد الأمثل المطلق باعتباره الثورة العالمية. ألا نتعرف هنا على انتظار لينين لثورة أوربية تأتي لنجدته بعد أن تم إشعال فتيلها بداخل حلقته الضعيفة (روسيا) ؟ وبديهي أيضا أن المنظور الاشتراكي-الديمقراطي لخطوات التقدم التي يجب أن تقود تراكماتها في المراكز في النهاية نحو الاشتراكية – وجارة معها حينذاك أيضا الضواحي – ليس مغايرا من حيث ما هو جوهري عن إدراكه [لينين] للحركة. ومع ذلك وفي الواقع فإن إعادة النظر في النظام الرأسمالي لم تتم وفق الخطاطة النظرية: فالثورة بدأت في الضواحي وظلت منغلقة بداخلها، تمت حينها عملية التكييف والملاءمة مع الواقع وتم إنتاج شرعنة نظرية لهذا التكييف عن طريق نظرية بناء الاشتراكية. إن هذه النظرية التي انطلقت تحت شعار المذهب اللينيني المميز تمت عملية تطويرها وبلورتها من قبل ماو في إطار صياغة نظرية الثورة الدائمة عبر مراحل (والتي تبدو قرابتها مع النظرية الدائمة لدى تروتسكي وحتى بشكل جزئي لدى لينين واضحة للعيان). لقد اعتقد حتى في إمكانية تمديد حقل صلاحية صيغة الانتقال نحو الاشتراكية هاته بإدماج المجتمعات الناجمة عن ثورة التحرير الوطني تحت شعارات: النهج غير الرأسمالي وغيرها.
تتعلق السمة الأساسية الثالثة الخاصة بالرأسمالية بتدمير القاعدة الطبيعية للإنتاج الاجتماعي التي يتأسس عليها الحساب الاقتصادي الذي يميز هذا النظام. وأجدني بخصوص هذا الموضوع جد ميال للاستشهاد بماركس (الرأسمال، الكتاب I، الفقرة XV، آخر جملة من المقطع X، منشورات سوسيال، باريس، ترجمة جوزيف روي ومراجعة ماركس، ص 182): ”إن الإنتاج الرأسمالي لا يطور إذن التقنية وتدبير قضايا الإنتاج الاجتماعي إلا باستنزافه في نفس الآن للموردين الاثنين اللذين تنبع منهما كل ثروة: الأرض والعامل“. وتلك جملة رائعة – كتبت سنة 1863 ! – كان من شأنها أن تقنع بيئيي عصرنا بأنهم لم يفعلوا سوى أنهم أعادوا اكتشاف ماركس الذي لم يسبق لهم أن قرءوه أبدا. وأهنئ نفسي بالتأكيد لأن ما كان يجب حمله على محمل البداهة منذ مدة طويلة قد تمت أخيرا إعادة اكتشافه في عصرنا هذا. لقد سبق لماركس إذن أن فهم أن النمو الهائل للإنتاج المادي غير المسبوق تاريخيا قبل الرأسمالية كان في جزء منه مؤسسا على تدمير الثروات الطبيعية، راهنا بذلك مستقبل المجتمع. ولقد سبق للاقتصادي الماركسي الياباني شيغيتو تسورو أن اقترح منذ ثلاثين سنة تصحيح حساب الإنتاج الداخلي الخام PIB ونموه من خلال أخذ هذا العامل السلبي بعين الاعتبار، لكن أحدا لم يصغ إليه بطبيعة الحال. وقد أعدت أنا بنفسي إحياء هذا النقاش باقتراح نقد أساسي للحساب الاقتصادي المؤسس على مفهوم للزمن أقصر من أن يستحق إضفاء صفة العقلانية عليه. وبالفعل فإن العقلانية الاقتصادية الرأسمالية (عقلانية السوق كما نقول اليوم) هي لاعقلانية من جهة المصالح الإنسانية على المدى البعيد، وهذا بشكل مستقل عن محتواها الاجتماعي، وإذن عن التأثيرات الاجتماعية لاستغلال العمل وإقصاء شرائح بكاملها من الساكنة من أي مشاركة في الإنتاج المذكور. إلا أنه لا يتعلق الأمر هنا أيضا إلا بأفكار لم يكن لها إلا ناذرا أي سلطان على الضمير الاجتماعي المنظم؛ ذلك لأنه صحيح أن الحركة العمالية بالغرب وسلطة السوفييتات بالشرق وحركات التحرر الوطني بالجنوب، كلها تقاسمت نفس التقديس والعبادة لتنمية القوى المنتجة التي هي عمليا بدون حدود. واليوم أيضا فإن الحركات الخضراء التي تساهم في الفرض أخيرا لقياس مدى هذا البعد التدميري للنمو ترفض إقامة علاقة في ما بين هذه النتيجة والسبب الكامن وراءها، وذلك بدون شك لأن إعادة النظر في مفهوم عقلانية السوق الرأسمالية ذاته مسألة تثير الذعر والهلع. إن إعادة الأخذ بعين الاعتبار لثروات البسيطة الطبيعية يجبر على تصور نظام آخر للحساب الاقتصادي غير ذاك المؤسس على الزمن القصير لمردودية الرأسمال، وهو ما يستلزم بدوره حضارة سياسية وثقافية أخرى. يلزمنا أن نعرف كيف نحسب على قاعدة زمن طويل، كما فعلت ذلك الشعوب الفلاحية، مستثمرة جهودها في مجال حفظ وتحسين رأسمالها العقاري لمصلحة الأجيال اللاحقة؛ ذلك لأنه من البديهي لو أن خبراء البنك العالمي هم الذين تحكموا في الأصل في القرار لكانت الإنسانية لحد الآن قابعة في كهوفها ولم تغادرها بعد. لا استصلاح الأراضي، و لا بناء خطوط السكة الحديدية العابرة للقارات، و لا أي من كبريات المبادرات التي غيرت مصير الإنسانية كان لها أن تجد مبررا بعبارات cash flow الملقنة بفخفخة وعظمة بهارفارد كآخر صيحة للعلم الاجتماعي ! ومع ذلك، وبكل البداهة، فإن الإنسانية لم تتحرك أبدا إلا في حدود معارفها العلمية، وإذن لا يمكن الزعم بأن الاختيارات التي كانت في أساس مبادراتها كانت دائما فعالة من جهة الحفاظ على الوسط والشروط الطبيعية للتنمية المستقبلية، بل أبعد عن ذلك. ويبقى أن الرأسمالية أعطت الأولوية المطلقة لهذا العنصر الجديد والمنهجي – الحساب على المدى القصير – الذي هو الضمانة الأكيدة لتدمير الشروط الطبيعية إياها.
أكيد أن العالم المعاصر لا يتحدد بشكل خاص عن طريق هذه السمات الثلاث المذكورة هنا والتي ليست في نظري إلا التحديدات الجوهرية التي أتت بها الرأسمالية عن طريق معارضتها للأنظمة السابقة؛ إذ أن العالم المعاصر ورث أيضا السمات التي تقاسمتها مع سابقاتها، وبعض هذه السمات ليست أقل حسما من أجل فهم عصرنا ونقده وتصور إمكانية تجاوزه؛ وأشير هنا على الخصوص إلى النظام الباطرياركي. وقد بدا بديهيا أننا لم نعد نستطيع في عصرنا هذا أن نمارس تفكيرا جديا كيفما كان بخصوص مسألة السلطة على سبيل المثال دون اخذ الاحتياط مما تستلزمه الباطرياركا في هذا المجال. وسنرى في ما بعد أن الحركة الاجتماعية – إذا ما ظلت سجينة الحدود الأكثر ضيقا؛ تلك التي تحرم عليها القيام بنقد راديكالي لكل سمات مجتمعنا الجوهرية – لا تستطيع تخيل اليوتوبيا المبدعة الضرورية التي سميت باسم الاشتراكية أو بأسماء أخرى. وسأوضح أن القوى المضادة للنظام – أي المناهضة للرأسمالية؛ تلك التي هيمنت فعلا على المجال إلى يومنا هذا وفرضت تغييرات هامة على العالم وعلى الرأسمالية ذاتها لم تتصور أبدا الاشتراكية بشكل آخر سوى أنها ضرب من رأسمالية بدون رأسماليين؛ وذلك لأنها ظلت منغلقة بداخل حدودها.
II. لا نهاية للتاريخ، و لا بد أن يتم تجاوز الرأسمالية إن الاستمرار للانهائي للتوسع الرأسمالي هو مسألة غير قابلة للتصور إذن، والنمو الدليلي الذي يترجم شراسة الحركة هو كما ذكر بذلك والر شتاين نمو السرطان الذي ينتهي ضرورة بالموت. وفي غضون ذلك فإن استمرار هذا التوسع ينتج بالضرورة توحشا متعاظما للإنسانية ما دام مؤسسا على الاستلاب الاقتصادي واستلاب الشغل من جهة، والاستقطاب العالمي من جهة أخرى. أولى هذه السمات تحرم المجتمع من الحد الأدنى من التحكم في مستقبله ما دامت مسؤولية القرارات قد وضعت في يد لاإرادية السوق، وهذا يدمر لا محالة معنى الحياة. لن نندهش إذن لا من أن الديمقراطية السياسية تفرغ حينها من أية فعالية، ولا من أن أزمتها تحيل حظوظ توسع اغتناء الناس حظوظا هشة، و لا بد من أن ترد الشعوب أحيانا على استقالة الإرادة هاته عن طريق النكوص إلى غرائب ما لا يقبل المعرفة التي تقترحها النزعات الأصولية الدينية، الطوائف والأشكال المتنوعة للتأكيد المسمى التأكيد الطائفي أي الغريزي. وتعبر السمة الثانية لهذا التعبير عن ذاتها في تشييد عالم سيشبه أكثر فأكثر تمييزا عنصريا (أبارتهايد) معمما. إن البديل إذن أكثر من أي وقت مضى هو كما عبرت عن ذلك روزا لوكسمبورغ في عصرها الاشتراكية أو الوحشية. وإذا كان على الرأسمالية، جراء عدم تجاوزها، أن تشكل نهاية للتاريخ فسيتم ذلك بكل بساطة من خلال وضع حد للمغامرة الإنسانية عن طريق ضرب من ضروب الانتحار الجماعي أو التدمير الذاتي اللاشعوري. إن الرأسمالية منظورا إليها بنظرة عن بعد لم نملكها بعد، ستبدو في إطار الفرضية المتفائلة حيث يوقف العقل الإنساني نشاطها التدميري-الذاتي، وكقوسين في التاريخ، لحظة تراكم، تراكم مزدوج: تراكم الوسائل المادية (معارف علمية، فعاليات تكنولوجية، أدوات الإنتاج والفعل) الممكنة من درجة من التحكم في القوى الطبيعية لا تقبل أي مقارنة مع القوى المكتسبة سابقا، والقادرة على تأمين مستوى معيشة مقبول، وتراكم الوسائل الفكرية والأخلاقية (المعارف، وسائل الاتصال، تحرير الفرد، الديمقراطية) الضرورية للذهاب إلى ما وراء الرأسمالية. وبطبيعة الحال فإن التحكم في القوى الطبيعية المشار إليها يظل مفهوما نسبيا يمكن من الذهاب إلى ما وراء ما نسميه الفقر، المرض… الخ، ولكنه محدود دائما؛ فلن يتم اجثتات الموت و لا القلق و لا لايقينية القرارات و لا المجازفة. وهذا هو السبب في نظري في أن الكائن الإنساني سيظل مزودا بأوجه متعددة، فهو حيوان اجتماعي بكل تأكيد، كائن فردي، لكنه حيوان ميتافيزيقي أيضا. وبطبيعة الحال فإن الوسائل الفكرية والأخلاقية المرتبطة بالتقدم المادي – والتي يسمح بها في جزئها على الأقل هذا الأخير – ستظل متكافئة الضدين: فالمعرفة يمكن دائما أن تكون في خدمة الشر كما يمكن أن تكون في خدمة الخير، وممارسة الحرية من طرف الأفراد والمجتمعات واجب كما هي حق. لكن لنكن متفائلين ولنقل إن العقل سينتصر، هناك يطرح السؤال السياسي المشخص لتعريف البديل (الاشتراكية) والاستراتيجيات الفعالة للوصول إلى الهدف.
III. الانتقال السلمي إلى الاشتراكية، الثورة العالمية، بناء الاشتراكية في البلدان المحررة: ثلاثة تصورات للاشتراكية والانتقال برسم إعادة النظر لم ينشغل ماركس بإيجاد التعريف بشكل إيجابي لسمات المجتمع اللاطبقي – الشيوعية. ولأن الهدف من تحليله كان هو إماطة اللثام عن السمات العميقة للرأسمالية المتخفية والكامنة خلف المظاهر المباشرة، فقد أمكن انطلاقا من التحليل بالخُلف أن نستنتج السمات المتعلقة بالهدف إذا ما أردنا ذلك، لكن بدون زيادة. كما لم ينشغل أكثر من ذلك باقتراح استراتيجية للانتقال إلى الاشتراكية وبنائها، لقد كانت الاشتراكية مبدئيا بالفعل في فكره نتاج حركة البروليتاريا، لا صيغة منقولة من الخارج كما اقترحها الاشتراكيون الطوباويون؛ لذا كان على الاهتمام إذن أن ينصب على استراتيجيات الصراع ضد الرأسمالية. وعلى الأقل فقد مضى التاريخ إلى اقتراح الجواب الأول بسرعة عن مسألة الاشتراكية عبر التجربة الفعلية والملموسة لكومونة باريس. وماركس لم يستطع تجاهل هذه الحقبة من حقب التاريخ، بل على العكس تماما من ذلك جعلها مباشرة موضوعا لتفكيره كي يستخلص منها بعض الاستنتاجات الرائعة المتعلقة إلى جانب أشياء أخرى بمفهوم الدولة البروليتارية، بديكتاتوريتها الديمقراطية وبتلاشيها، وهي الدروس التي سيعيد لينين تناولها في مطلع الثورة الروسية في كتابه الدولة والثورة قبل أن ينتبه إلى أنه يستحيل تنفيذ خلاصاتها؛ فالوقائع – الواقع العنيد – ستضطره بالفعل إلى تغيير وجهة العصا إلى الاتجاه المعاكس. لقد كان على فشل كومونة باريس في كل الأحوال أن يضع الحركة العمالية الأوربية المشيدة في إطار الأممية الثانية في مسارات أخرى. وقد تواجه في كنف هذه الأخيرة خطان متعارضان، أحدهما – المعروف تحت اسم تحريفية برنشتاين – سينتهي إلى الانتصار بداخل الاشتراكية –الديمقراطية، أما الآخر – والذي يشكل الآن موضوعة الثورة الاشتراكية – فسينطفئ في الأممية الثانية كي يعاود الظهور في إطار الأممية الثالثة، لكن في ظروف تاريخية جد مغايرة للظروف المتصورة من قبل ثوريي ما قبل سنة 1914. إن اقتراحات تحريفية برنشتاين معروفة بما فيه الكفاية، مما يجعلنا لا نعود إليها هنا. وما يبدو لي من المهم اليوم جعل الناس يلاحظونه بخصوص هذا الموضوع هو أن مفهوم المجتمع الاشتراكي – هدف التطور المتطلع إليه – كان بالفعل مفهوم رأسمالية بدون رأسماليين. وقد تم استخدام هذا التعبير فضلا عن ذلك لأول مرة من قبل إنجلز لوصف مشروع الاشتراكية-الديمقراطية الألمانية في كليته. وعلى النقيض من الاشتراكيين الطوباويين الذين برهنوا على خيال جامح وأعادوا النظر في كل شيء ينتمي لحضارة عصرنا – الشغل، الأسرة، العلاقات في ما بين الجنسين، السلطة – فإن الاشتراكيين-الديمقراطيين لم يأتوا حقا بأي تصور جديد. لقد تم الحفاظ تقريبا على كل ما له علاقة بالرأسمالية انطلاقا من تقديسها للقوى المنتجة إلى الوسائل الموضوعة رهن إشارتها من أجل إشباع نهمها اللامحدود – التنظيم والنظام، التراتبية، تقسيم العمل. بل سيتم اقتراح ما هو أحسن من ذلك مما يسير في نفس الاتجاه من خلال الإنقاص من أشكال التبذير التي تستلزمها الملكية الخاصة (فوضى الإنتاج )، وستكتفي الاشتراكية تقريبا فقط بتعويض ملكية الرأسماليين بملكية الدولة. وفضلا عن ذلك، هل تم تهيئ الاحتكارات لذلك ؟ إن تأميمها كان كافيا لتحقيق القفزة نحو الاشتراكية. إن هذا المنظور في كليته هو ما يجب وصفه بأنه رأسمالية بدون رأسماليين. بيد أن هذا النموذج لن يكون فقط نموذج المناصرين للتطور التدريجي والهادئ نحو الهدف؛ فقد حكم أيضا منظور الثوريين؛ ألم يكن لينين ذاته معجبا بمركزية التدبير (البيروقراطية) التي مارستها الاحتكارات (كالبريد بألمانيا) ؟ لقد أمكن إذن أن يوجد النموذج بصيغتين: اشتراكية للسوق تستمر المقاولات في إطارها – وهي المملوكة كلها للدولة وللجماعات أو التعاونيات – في بيع وشراء عوامل الإنتاج وإنتاجيتها بحرية نسبية (ومن ضمنها العمل)، أو اشتراكية للدولة تخضع خلالها هذه المقاولات – المملوكة بنفس الشكل كلها للدولة أو للتعاونيات – لتعاليم وإيعازات مخطط ممركز إلى الحد الأقصى. إن الاختلاف مهم وفعلي، لكنه لا يمحو القاسم المشترك. وبعودتنا للصيغة التطورية فإنه ليس في نيتي التقليل من شأن وأهمية ما حققته الاشتراكية-الديمقراطية لا فقط لمصلحة الطبقات الشعبية الفورية والمباشرة، ولكن حتى في المنظور الأبعد مدى لتجاوز أشكال المنطق الصارمة في الرأسمالية. إن الدولة الحامية التي ستُفرض صيغتها وستُعمم عمليا على مجموع المراكز الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية ليست فقط تراضيا تاريخيا في ما بين الرأسمال / العمل مُمَكِّناً في ظل ظروف البلدان المشار إليها وظرفية العصر، من اكتساب حقوق اجتماعية لم تكن إلى ذلك الحين معروفة في إطار الممارسة الرأسمالية؛ بل دشنت أيضا انطلاقا من ذلك شرعنة لأشكال منطق اجتماعي أخرى غير تلك المشتقة من المردودية الرأسمالية وحدها. يبقى أن خطوات التقدم المنجزة من قبل الاشتراكية-الديمقراطية لم تكن لا نتاجا خاصا لتطور قواها الخاصة المنظمة (كما يمكن أن يعلن عن ذلك جهازها السياسي) و لا نتاج الظروف والحاجات الموضوعية لإعادة إنتاج الرأسمال (كما اقترحت ذلك أحيانا قراءة جد اقتصادية)، ولكنها أيضا، في جزئها على الأقل، نتاج توازن للقوى الاجتماعية التي مالت لجانب ولصالح الطبقة العمالية كما لم تفعل ذلك أبدا في تاريخ الرأسمالية بفضل اندحار الفاشية وانتصار الاتحاد السوفياتي؛ أي بفعل أن المنظور الآخر للانتقال – منظور السبل الثورية – فرض ذاته بعد الحرب العالمية الثانية. نجدنا منقادين إذن بطبيعة الحال للأخذ بعين الاعتبار للصيغة الأخرى للمنظور الاشتراكي واستراتيجيات التوصل إلى تحقيقه المشاد بها من قبل النهج الثوري. لقد سبق لهذا المنظور أن تمكن من الوجود لمدة معينة في حضن الأممية الثانية، في إطار التيارات ذات الأقلية المتسامح معها، ولكنها تيارات دائمة الضعف والعجز، فكيف لم يكن من الممكن أن تكون كذلك ما دام الذين يقترحونها لم يختلفوا إلا قليلا عن الرأسمالية بدون رأسماليين لدى الآخرين ؟ لماذا إذن تفضيل السبيل العنيفة للتوصل إلى تحقيق الهدف عينه في الوقت الذي يشير فيه الجميع إلى إمكانية التوصل إلى ذلك بشكل هادئ وتدريجي ؟ وأضيف – مذكرا بما قلته آنفا – أن الثورة العالمية إياها تحولت بالفعل إلى ثورة للمراكز – مراكز أوربا المتحضرة (ألمانيا، فرنسا، إنجلترا، النمسا، هنغاريا، الأراضي المنخفضة وبلجيكا، إيطاليا…) – جارة الضواحي المتخلفة وراءها – والمستعمرات زيادة على ذلك. ولكونه أضحى أقلية بداخل الحركة العمالية الأوربية فإن المفهوم أو التصور الثوري للانتقال إلى الاشتراكية سيتأكد على هامش القارة، أي بروسيا. لكن هنا، ومنذ سنة 1905، ظهرت التباسات وتعدد في قيم الحركة المضادة للنظام: فهل هي ثورة من أجل ديمقراطية بورجوازية، أم ثورة من أجل إصلاح زراعي جذري يقودها فلاحون متمردون، أم ثورة من أجل مجتمع اشتراكي ؟ وأبعد عن أن يشكل تعدد القيم هذا عاملا من عوامل ضعف الحركة، فقد شكل على العكس من ذلك أساس قوتها. حتى منظور الاشتراكية هنا الذي تم حصره في وسط أقلية، نصف أنتلجنسية ونصف عمالية يذهب إلى ما وراء الإدراك المتوسط – السائد في أماكن أخرى – للنظام الرأسمالي المُحسّن عن طريق الملكية العمومية. إن لكنة اليوتوبيا الرائعة القديمة تختلط هنا بالكتابات الأورثودوكسية المستلهمة من التقليد العمالي الأوربي (التقليد الحديث… تقليد الاشتراكية-الديمقراطية !). عند الانطلاق إذن لم يكن المشروع مشروع اشتراكية للدولة؛ صيغة الرأسمالية بدون رأسماليين. وسيصبح هذا المشروع فجأة إمكانية تاريخية في أكتوبر 1917. ولكنه أصبح كذلك بدون أن يعرف أنه ليس الشرارة التي ستحرق السهل، ولا الانفجار الأول في الحلقة الضعيفة للسلسلة المدعو لكي يتم السير على منواله بسرعة بداخل الدول المتقدمة. إن المشروع لم يعرف في ذلك الحين أنه يعبر عن قوة أخرى مضادة للنظام، تلك التي عبر عنها رفض شعوب محيط النظام الخضوع لمطالب وشروط الاستقطاب الرأسمالي. من الثورة العالمية إذن ننتقل إلى بناء الاشتراكية في بلد واحد؛ فالوقائع تفرض ذلك فرضا. وما يمكن أن يؤاخذ على ستالين ليس بالتأكيد كونه أقر هذا الاختيار؛ فالبديل لم يكن موجودا. إن منطوق النظرية في ذلك الحين كان هو: ثورة عالمية أو لاشيء. ولم يعد أمام الروس حينها إلا الانتحار لأنهم اعتقدوا في إمكان ثورة عالمية لم تكن في جدول الأعمال تلك اللحظة. ما يمكن أن يؤاخذ عليه إذن هو شيء آخر تماما؛ أولا أنه ظل – أو عاد – بداخل الأفق المحدود للواقعية الاشتراكية-الديمقراطية وهو لا يتصور أي شيء آخر عدا هذه الرأسمالية بدون رأسماليين. سيتم إذن إبعاد يوتوبيي 1917 لصالح الواقعيين الذين ستعترف الأممية الثانية بأنهم أتباع لها في ظروف أخرى. وقد حكم هذا التطور كل التطورات الأخرى: فالمهمة المركزية أصبحت تتمثل في تدارك ما فات؛ أي تسريع إيقاعات ووثائر التراكم، فتم إخضاع مجموع المشروع الاشتراكي لهذه المهمة حتى ولو اقتضى الأمر أن يفقد هذا الأخير ما هو جوهري في معناه. وبذلك صلح استغلال الفلاحين المؤطرين في تعاونيات مراقبة من قبل الدولة لتمويل التراكم الأولي المسمى اشتراكيا. وقد فتح انفصام عرى هذا الاتحاد الشعبي في ما بين العمال والفلاحين، والذي مكن من انتصار الثورة، فتح الباب أمام الديكتاتورية المستبدة باسم البروليتاريا وحرر البيروقراطية من أي مراقبة، وهو ما جعل الاختيار إيجابيا لصالح اشتراكية الدولة (التخطيط السلطوي). يجب إذن أن ينصب النقاش على طبيعة وأسباب هذه الاختيارات، فهل كان بالإمكان القيام بشيء مغاير ؟ أي الذهاب بسرعة أكبر نحو الاشتراكية-الديمقراطية، إن لم يكن نحو تحلل الدولة… الخ. ؟ أو السير بسرعة أقل وتحديد أشكال التراضي مع الرأسمالية كما في زمن السياسة الاقتصادية الجديدة NEP ؟ أو السير بسرعات متفاوتة؛ أي بسرعة أكبر من خلال بعض الوجوه، وبسرعة أقل من خلال وجوه أخرى. إن الاختيار لصالح بناء الاشتراكية في بلد واحد لم يمثل أبدا مشكلة بالنسبة للشيوعية الصينية؛ فلقد نظمت هذه الأخيرة ذاتها منذ البداية من أجل القيام بالثورة في الصين، ولم تنتظر أن يتم تعضيد انتصارها من قبل ثورة البروليتاريين باليابان والولايات المتحدة اللذين سيأتيان حينها لنجدة الشعب الصيني ومساعدته على تجاوز تخلفه. إنها لم تعرف إذن زمن الترددات التي صاحبت الثورة الروسية منذ سنواتها الأولى. لقد نادت الماوية في الحال على العكس من ذلك بضرورة وإمكانية بناء الاشتراكية في بلد متخلف عن طريق الثورة الدائمة عبر مراحل القائدة للإصلاحات الجذرية البورجوازية من حيث طبيعتها (كالإصلاح الزراعي) لكنها إصلاحات مجراة تحت قيادة البروليتاريا باتجاه الثورة الاشتراكية التي تحولت، هنا في الصين كما في روسيا، إلى مرادف لدولنة الملكية وتنظيم التعاونيات الفلاحية. وحتى إذا كانت هذه التغيرات قد أنجزت بالصين بشكل أفضل – أو أقل سوءا – مما وقع بالاتحاد السوفياتي (وذاك رأيي) فإنها لم تكن من طبيعة مغايرة جذريا لطبيعة الإصلاحات التي أوحى بها مشروع الرأسمالية بدون رأسماليين. إنه في هذا الوقت طرحت الماوية – التي توصلت إلى الاستنتاج بأن ما يتم تشييده في روسيا هو الرأسمالية وليس الاشتراكية – سؤال معرفة ما إذا لم تكن طريق مغايرة للطريق الذي سار فيها الاتحاد السوفياتي ضرورية وممكنة. لقد أرادت الماوية إذن التحرك بشكل مغاير؛ التحرك بسرعة أقل في بعض الميادين؛ وبسرعة أكبر في ميادين أخرى. بشكل أقل سرعة في إيقاع التراكم حتى لا يتكسر حلف العمال والفلاحين، وبسرعة أكبر عبر بعض الأوجه الأخرى؛ وذلك لأن هذا المطلب يفتح الطريق لنقد المعتقد القائل بحياد التكنولوجيات التي هي حيوية لإنجاح نموذج الرأسمالية بدون رأسماليين. سيتم التحرك بسرعة أكبر إذن في مجالات الإيديولوجيا الشيوعية (وهذا هو معنى الاختيار للقيام بثورة ثقافية) وتنظيم السلطة السياسية (وهو ما وعدت به الماوية لكنها لم تفعله). لقد كان النموذج السوفياتي لبناء الاشتراكية والمحاولات الماوية لصنع نموذج مغاير له ينتهيان معا إلى الفشل. ولن أعود هنا إلى أسباب ومراحل سيرورة تآكل وانهيار النموذج السوفياتي، و لا إلى أسباب التخلي عن المشروع الماوي انطلاقا من سنة 1980؛ فالجوهري اليوم هو أن نستخلص من ذلك الدرس الأكبر: فلقد برهن التاريخ على أن بناء الاشتراكية لم يكن لا رجعة فيه وأن النزعة الدولتية إذن – ما سبق أن أسميته منذ لحظة نمط الإنتاج السوفياتي – أو الرأسمالية بدون رأسماليين لم تشكل نماذج ثابتة، وإنما انتقالا فوضويا وصراعيا كان بإمكانه أن يتطور تدريجيا وببطء نحو الاشتراكية (وسنعود في ما بعد للشروط الضرورية التي تمكن من اتباع هذا التطور الإيجابي)، وإما أن ينتهي إلى مجرد ومحض رأسمالية مع رأسماليين (وهو ما وقع بالنسبة للاتحاد السوفياتي سابقا وأوربا الشرقية). إن ضروب الفشل هاته ليست الوحيدة من نوعها؛ فلم يتم تعامل التاريخ بشكل أفضل مع مفاهيم الاشتراكية الأخرى. إن ضروب محاكاة النموذج السوفياتي الأكثر أو الأقل إخلاصا (كما هو الحال بالفييتنام أو كوبا) أو بعدا (كما هو الشأن في اشتراكيات إفريقيا وآسيا) كان قد تم إلغاؤها (ما عدا النموذجان الأولان المذكوران في جزء منهما حتى لحظتنا هاته) حتى قبل أن تتم الإطاحة بالنظام في موسكو. لكن اشتراكية الدولة الحامية الغربية التي بدت مرسخة إلى الأبد في الوعي وفي الواقع الاجتماعيين تزعزعت بدورها بفعل انهيار النموذج السوفياتي. إن اللحظة الراهنة هي في ملك الهجمة النيوليبرالية التي تقترح إرجاع عقارب الساعة الغربية إلى الوراء، لكن ذلك لا يتم بدون نجاحات في وقتنا الراهن. إن ضروب فشل بهذه الخطورة والعمومية تستدعي بشكل أكيد فكرة الاشتراكية وتنادي بها. فهل يتعلق الأمر بيوتوبيا بالمعنى العامي للفظ لن تكون أبدا ممكنة ؟ وهل محكوم على الإنسانية تبعا لذلك بالتدمير الذاتي عن طريق رأسمالية نهاية التاريخ ؟ سنعود لهذه المسألة الجوهرية في ما بعد. لكن انهيار المذهب السوفياتي والتخلي عن الماوية يضع وفي نفس الآن حدا نهائيا لوجه آخر من أوجه مفهوم الانتقال كان قد فرض ذاته إلى ذلك الحين؛ لقد كان الانتقال مرادفا للتنافسية – الصراعية بشكل عنيف أو التي أحيلت مسالمة عن طريق التعايش السلمي – في ما بين الاقتصادين السياسيين والاجتماعيين المجسدين في كتلتي الدول الاثنتين معسكرين اثنين كما سيقول جدانوف منذ سنة 1948. لقد طويت هذه الصفحة وطرح حينها السؤال التالي: ما هي ماهية الصراع في عالمنا الحالي اليوم بين الاشتراكية والرأسمالية ؟
ليس للاشتراكية من معنى إلا إذا اقترحت حضارة مغايرة للحضارة التي أنتجتها الرأسمالية؛ أي إلا إذا تعدت وتجاوزت التناقضات الكبرى لعالمنا المعاصر التي كشفنا عنها أعلاه. وفي صياغة مكثفة إلى حدودها القصوى سأقول إذن إن من المفروض أن تؤسس الاشتراكية على حضارة: (1 محررة من الاستلاب الاقتصادي واستلاب الشغل؛ (2 محررة من الباطرياركا؛ (3 متحكمة في علاقتها بالطبيعة؛ (4 مطورة للديمقراطية إلى ما وراء الحدود المفروضة من قبل الفصل في ما بين مجالات التدبير الاقتصادي والتدبير السياسي؛ (5 معولمة على قاعدة وفي إطار لا يعيد أبدا إنتاج الاستقطاب وإنما يضع على العكس من ذلك حدا له. وإذا كان ذلك هو هدفها فإنني سأستخلص منه على الفور نتيجة حاسمة في نظري بخصوص استراتيجيات الصراع من أجل الاشتراكية في عالمنا الراهن؛ وهذه الاستراتيجيات مطالبة برفع التحديات الأربع الكبرى التي تواجهها الشعوب، وهي كالتالي: 1) تحدي السوق: ولا يتعلق الأمر بالرفض المبدئي لأي صيغة من صيغ الاقتصاد المسمى اقتصاد السوق من أجل تعويضه بتخطيط عام ممركز وبيروقراطي (لم تكن له في السابق أية سمة اشتراكية )، و لا بإخضاع إعادة الإنتاج الاجتماعي لإكراهات السوق (كما تقترح ذلك الإيديولوجية المهيمنة والسياسات المعتمدة باسمها ). يتعلق الأمر بتدقيق للأهداف والوسائل (القانونية، الإدارية، التنظيمية، الاجتماعية والسياسية) الممكنة من تأطير السوق وجعلها في خدمة إعادة إنتاج اجتماعي ضامنة للتقدم الاجتماعي (التشغيل التام، أكبر مساواة ممكنة…الخ ). وفي هذا الإطار فإن المزج بين أشكال متنوعة من الملكية – خاصة وعمومية، ملكية الدولة وملكية التعاونيات ..الخ. – سيفرض ذاته بشكل مؤكد ولمدة أطول. 2) تحدي الاقتصاد-العالَم: ويتعلق الأمر بالخروج من دائرة النقاش والمناظرة الزائفة، أي إما قبول الاندماج في النظام العالمي والعمل فقط على تحسين الوضعية الخاصة في التراتبية التي ينظمها، وإما الخروج منه بشكل نهائي، وذلك من أجل تعويضه بمناقشة للإكراهات الحقيقية غير القابلة للتحاشي والتي تفرضها العولمة اليوم على سياسات التنمية الاجتماعية الوطنية والشعبية المستقلة ذاتيا. وبعبارة أخرى، يتعلق الأمر باستخدام الهوامش التي تمكن من قلب العلاقة داخل/خارج، ومن رفض التقويم الوحيد الجانب للإكراهات الخارجية وإكراه النظام العالمي على التلاؤم مع مطالب تنميتنا الخاصة. إن ما أسميه فك الارتباط يحدد بالضبط أحد حقول الفعل الكبرى لتنفيذ الإصلاحات الجذرية الضرورية. 3) تحدي الديمقراطية: و لا يتعلق الأمر لا بأن نرى في صيغ الديمقراطية البورجوازية (المسماة ليبرالية) المعاصرة نهاية للتاريخ، و لا بتعويضها بممارسة الشعبوية. يتعلق الأمر بتقوية الديمقراطية السياسية (الحقوق الأساسية للكائن الإنساني، الحريات، التعددية، دولة الحق) عبر التحديد المشخص والملموس للحقوق الاجتماعية (الحق في الشغل، مراقبة القرار الاقتصادي ..الخ) التي تحدد بالضبط قواعد تأطير السوق. 4) تحدي التعددية الوطنية والثقافية: و لا يتعلق الأمر لا بأن نجعل من مجموعة متجانسة أو يُزعم تجانسها (الأمة أو الإثنية أو المجموعة الدينية) الإطار الخاص الضروري لممارسة السلطة، و لا إنكار أن التعددية في هذه المجالات تتطلب من السلطة الديمقراطية احترام الخصوصيات والاختلافات. يجب أن يكون تنظيم التعايش والتفاعل في ما بين المجموعات المحددة بشكل أكثر تنوعا في إطار أكبر فضاء سياسي ممكن هدف استراتيجيات التحرير. وكما أمكننا أن نرى فإن اتساع هوامش الاستقلال الذاتي التي يمكن للقوى الشعبية ويجب عليها تعبئتها لمصلحتها وكذا هوامش الإصلاحات الراديكالية التي يمكن إعمالها في إطارها تتوقف على شروط ملموسة محلية وعالمية. ويعود للصراعات والمعارك الشعبية أمر التوسيع التدريجي لمدى هذه الهوامش ووساعتها. ويلزم عن الاستراتيجيات الفعالة للنشاط والحاملة على محمل الجد ما أتينا على وصفه باعتباره يشكل تحديات يجب رفعها ضرورة إدراج هذه الاستراتيجيات في منظور وأفق حضاري يشكل خطوة تقدم نوعية متعدية ومتجاوزة لحدود الرأسمالية. لن أعود هنا لهذا البعد الإيديولوجي الأساسي للمشروع؛ وذلك لأنني أعتقد أنني تحدثت عنه بما يكفي أعلاه من خلال اقتراح نقدنا (الماركسي في ما أعتقد) للرأسمالية ولمحاولات تجاوزها التاريخية. ألح فقط على وحدة التحليل الضروري القادر على صهر مطالب الديمقراطية وتصفية الفصل في ما بين الشأن السياسي و الشأن الاقتصادي، والتحكم في القرار المدمج لاعتبارات المدى الطويل واشتراطات العولمة في كلية متماسكة. يتعلق الأمر بإيديولوجيا وبثقافة ذات رسالة كونية، وسيجد القارئ هنا ربما ما يعرفه قبلا عن كراهيتي للنزعة الثقافية؛ وأعني بذلك بالضبط النزعة التي ترفض دعوى الكونية لفائدة ولصالح تنوع قوي مزعوم إلى حد استلزام مسارات مغايرة من أجل تنمية مجتمعات متباينة تماما. لقد رفضت كل هذه الدعوات المؤسسة على النزعة الإثنية السلالية أو التنوع الديني الذي يشكل موضة اليوم والذي هو رجعي بشكل عميق من وجهة نظري؛ وذلك لأنه يمثل تراجعا بالمقارنة مع ما أنتجته الرأسمالية قبلا باتجاه الكونية. إن العولمة التي فرضت هذه الكونية ليست فضلا عن ذلك عولمة فقط للتكنولوجيات والمبادلات التجارية والتعالقات الجيواستراتيجية التي يعرفها العسكريون جيدا؛ وذلك لأنها عولمة ثقافية أيضا؛ وهذا هو السبب في أنني حللت الثقافة المهيمنة على المستوى العالمي باعتبارها ثقافة الرأسمالية وليست ثقافة الغرب (الذي هو تاريخيا أوربي ومسيحي). وإذا كانت لهذه العولمة الرأسمالية بشكل أكيد أبعاد وجوانب سلبية قوية – بفعل الاستقطاب الذي تنتشر بداخله – فإنها لها أيضا أبعادها وجوانبها الإيجابية (تحرير الأفراد والمجتمعات) التي وإن كانت لا زالت جنينية وغير مكتملة ومشوهة بفعل مطالب المنطق المهيمن للرأسمال، فإنها حاضرة قبلا بما يكفي: إن تأثيرات الاستقطاب السلبية ذاتها لا تتعلق فقط بالاقتصاد (مفارقة الشعوب الغنية / الشعوب الفقيرة)؛ فهي تجد بالضرورة مكملاتها في مفارقة الديمقراطية السياسية / الديمقراطية المستحيلة التي تتمازج بداخلها غطرسة الغرب للخلط العصابي للثقافة الرأسمالية بتعبيرها المظهري (الأوربي والمسيحي). إن هذه الأبعاد السلبية للعولمة الرأسمالية لا تقبل الإلغاء من خلال عودة لأزمنة تنوع التعبيرات الإيديولوجية الغابرة في المجتمعات التي شكلت عالم دافعي الجزية؛ إنها لا تقبل الإلغاء إلا من خلال السير إلى الأمام في مجال بناء ثقافة اشتراكية كونية. إنه من غير المجدي في ما أعتقد تدقيق مسألة أن كونية المشروع ليست مرادفة لتمليس القاسم المشترك؛ فهذا النزوع هو نزوع الكونية الرأسمالية – الكوكاكولا للجميع والأحقاد الإثنية والدينية من أجل مصاحبتها. إنه ليس نزوع الكونية الاشتراكية المشيدة ضرورة من خلال مساهمة كل الشعوب الجاعلة من تنوعها عنصرا من عناصر إغناء مشروع مشترك، وانطلاقا منها. لنعد إذن إلى المحاولات التاريخية لتجاوز الرأسمالية المعاد قراءتها من زاوية منظورها للثقافة الكونية، ولن أستنتج مطلقا أن مساهماتها كانت عديمة المعنى أو سخيفة. إن المجتمع المشيد من قبل الاشتراكية-الديمقراطية بالغرب ليس بالتأكيد المجتمع الأكثر بغضا وبشاعة الذي نعرفه، بل بالعكس إنه الأكثر تقدما والأكثر لطفا وإنسانية حتى إذا كان هذا الحكم هو ما يمكننا الوقوف عليه من خلال النظر لهذا المجتمع من الداخل، ومن خلال تناسينا أنه منظورا إليه من الخارج – من المحيط – ظل غالبا وبشكل واسع مرتبطا بمسلكيات إمبريالية محضة وخالصة. وإذا لم تعدم مجتمعات الاشتراكية القائمة فعلا عرض سمات بغيضة من خلال بعض أوجهها، فهي أيضا، إذا ما نظر إليها من الخارج، المجتمعات التي شكلت أدوات الدعم الأكثر عطاء للمنازلة المضادة للفاشية ولمعركة التحرير الوطني لشعوب المحيط. إن الإنجازات المضافة لسجلها هي إنجازات لا يمكن تجاهلها ولا تقف عند حدود التقدم الاقتصادي المادي. لقد تعالت يوغسلافيا تيتو على عداوات مكوناتها الإثنية، والصينيون يعيشون بشكل أفضل من الهنود، والرأسمالية المتوحشة بروسيا ليست فقط أكثر صعوبة بفعل الظروف المادية التي خلقتها للأغلبية الشعبية وإنما هي ليست حتى ضمانة للديمقراطية، والأنظمة الكومبرادورية الجديدة في دول العالم الثالث هي أقبح من عدة وجوه من الأنظمة الشعبوية التي سبقتها. ويمكننا أن نعدد الأمثلة هكذا إلى ما لا نهاية. إن هذه الوقائع تبرهن على أن مشروع الرأسمالية بدون رأسماليين – الطبعة الديمقراطية-الاجتماعية لاشتراكية السوق أو الطبعة الدولتية – لم تكن منتوجا هينا وبدون معنى؛ فلقد شكل فعلا حدا للإيديولوجيا البورجوازية في ما أنتجته مما هو أكثر تقدمية. إن عصرنا لا يحب كثيرا الثورة الفرنسية بشكل عام، وبشكل أقل المذهب اليعقوبي الذي كان وجهها الأكثر تقدما. إن الموضة الرجعية اليوم هي باتجاه تقديس الخصوصيات الجماعية وكراهية النزعة الكونية. إلا أن المذهب اليعقوبي مثل خطوة إلى الأمام ذاهبة إلى ما وراء المطالب البسيطة لإقامة سلطة البورجوازية. وبوصف المذهب اليعقوبي تعبيرا مركبا وموحدا عن طموحات الشعب في تلك الحقبة التي كانت يوتوبية، وعن تفكير فئة عصر الأنوار الطليعية، فقد ابتكر هذا المذهب فكرة جمهورية المواطنين (وليس فقط جمهورية البورجوازيين وحدهم الذين سيرضيهم تماما اقتراع مالكي حق التصويت، بونابارت أو ملك متنور بدون أي انتخاب أبدا، كما سيثبت التاريخ ذلك لاحقا بفرنسا وبمجموع أوربا القرن 19 )، وقد اكتشف أيضا أن الليبرالية الاقتصادية (السوق بموضة اليوم) هي عدوة الديمقراطية. إن الرأسمالية بدون رأسماليين تعبير متأخر عن منطق تجاوز الرأسمالية هذا الناقص والهش؛ تعبير كان بإمكاننا التفكير في تجاوزه هو ذاته عن طريق المساهمة النقدية الأساسية التي جاءت بها الماركسية: وتستلزم هذه المساهمة بقوة الأشياء تدخلا قويا للدولة منظِّمٍ للعقلانية على المدى الكوني؛ تدخلا هو بدوره لم يعد موضة في عصرنا للهجمة الرجعية المضادة للدولة كليا. لقد تم بسرعة حينها في إطار نفس الاتهام الرخيص خلط النزعة الدولتية الميركنتيلية، لدى كولبير الذي لم يُنس أبدا بفرنسا، ونزعة بسمارك، الدولة البروسية الهيجلية، ونزعة روسيا السوفياتية وريثة أوتوقراطية القياصرة، ونزعة ماو وريث إمبراطور الصين … الخ. لكن بماذا تم اقتراح تعويض دولة المواطنين ؟ بالأمة الإثنية، بالجماعة الدينية بتزاوج مع السوق بدون دولة؛ أي بالغابة الخالصة المعززة والمتممة بالكراهية المتبادلة في ما بين هذه الجماعات. يتوجب أيضا التذكير بأن هذا الاقتراح هو بذاته اقتراح يوتوبي، ولكن هذا الأخير رجعي وذلك بالضبط لأنه مضاد للكونية في حين أن الرأسمالية التي تقبلها بل وتنصح بها تفرضُ العولمة. إذا كان إذن بديل العولمة المتوحشة للرأسمالية هو بناء عولمة اشتراكية متحضرة، فإن الطريق لتحقيق ذلك ستكون طويلة ما دام الأمر يتعلق بتشييد حضارة جديدة. إن المؤاخذة التي يمكننا أن نؤاخذها على المشروعات التاريخية لبناء الاشتراكية المحللة والمنتقدة هنا تتمثل بالضبط في كونها قزمت المهمة واختزلتها في مجرد إنجاز لبعض الإصلاحات رغم أهميتها، والتي تمثلت أساسا في إلغاء الملكية الخاصة. لقد انتهت الثورة الروسية، بعد أن بحثت عن طريقها خلال العشرينيات، إلى الانخراط في عملية البناء إياها من خلال وضع حد لـ NEP وباتخاذ قرار التنظيم في تعاونيات سنة 1930. ست سنوات بعد ذلك أعلن ستالين بأن بناء الاشتراكية قد أنجز. سنة 1949 دخل الجيش الشعبي بكين، وفي سنة 1952 انطلق الإصلاح الزراعي متبوعا مباشرة بعملية التنظيم في تعاونيات، وفي سنة 1957 سيعلن هنا أيضا أن البناء الاشتراكي أنجز ! وأنا أقول اليوم إنه كان من الممكن أن يبدو بديهيا أن حضارة جديدة لا تبنى خلال 5 أو 10 سنوات. في عملية الانتقال الطويلة التي سنتناولها الآن ستطرح علينا بقوة مسألة مناقشة استراتيجيات المراحل الضرورية. سنجد حينها بهذه المناسبة بعض عناصر تجارب الماضي التي أمكنها أن تجد مكانا مضاء بمنظور جديد: بعض اقتراحات الديمقراطية – الاشتراكية اللازمة عنها كنتيجة منطقية، واشتراكية السوق يمكنها في ذلك الحين أن تشكل عناصر لاستراتيجيات المراحل هاته، فبأية شروط ؟ لنناقش المسألة.
V. اقتراحات أولى من أجل تصور جديد للانتقال لقد قادتني الاعتبارات السابقة نحو النتيجة الكبرى التي أصوغها هنا بالطريقة المباشرة التالية: إن النظرية التي حسبها لا تستطيع الاشتراكية أن تتطور في كنف الرأسمالية كما فعلت هذه الأخيرة في حضن الإقطاع قبل أن تعمل على تفجير قوقعتها وتتخلص منها، هي نظرية يجب أن تضفى عليها خاصية النسبية. وبنتيجة أنه كان على قرون المذهب الميركنتيلي الثلاثة، وبنفس الطريقة، أن تمثل فترة انتقالية طويلة من الفيودالية إلى الرأسمالية تعايش النظامان خلالها تعايشا صراعيا، فإن بالإمكان أن نكون أمام فترة انتقال طويلة من الرأسمالية العالمية إلى الاشتراكية العالمية، خلالها سيتعايش المنطقان الاثنان – المنطق الذي يحكم تراكم الرأسمال والمنطق غير المتوافق معه الناجم عن الحاجات الاجتماعية – تعايشا صراعيا. إن هذه النظرة، وأنا أسلم بذلك، لم تكن نظرة ماركس الذي اعتقد أن الرأسمالية ستنجز أولا وبسرعة مهمتها التاريخية – المتمثلة في إدماج كل مجتمعات البسيطة في نظام اجتماعي واحد مقلصة تدريجيا كل التناقضات للتناقض الوحيد والمركزي من بينها، ذاك الذي يظهر من خلال صراع البورجوازية / البروليتاريا، على قاعدة نظام اقتصادي متجانس نسبيا – ثم وبنفس الطريقة سيكون عليها تهيئ انتقال الإنسانية في مجموعها إلى المجتمع اللاطبقي الجديد في زمن تاريخي قصير نسبيا. وبعبارات أخرى، فإن ماركس نظر للرأسمالية والاشتراكية كما لو كانا نظامين منفصلين بواسطة جدار صيني، ذاك الذي يمكن نعته بالثورة الاشتراكية؛ نظامين غير متطابقين وغير قادرين على التعايش، ويتم ذلك صراعيا في كنف مجتمع واحد بعينه. إن هذه النظرة لم تستثن بطبيعة الحال التعايش الصراعي لمجموعتي المجتمعات خلال فترة زمنية معينة، بشرط أن تكون هذه المدة قصيرة نسبيا ما دامت الاشتراكية المنجزة لا يمكن أن تكون إلا عالمية. إن تحليل الرأسمالية القائمة فعليا الذي اقترحته يهدم جدار الصين هذا؛ إنه يركز على العكس من ذلك على صراع المنطق – الرأسمالي والمنطق المضاد للرأسمالية – الحاصل فعليا في كنف عالم الرأسمالية القائمة فعليا ذاته، والذي ليس مرادفا إذن لنمط الإنتاج الرأسمالي على المستوى العالمي. وهو ليس مرادفا له أيضا بالمعنى المبتذل والتافه الذي يقيم اختلافا بين المشخص والمجرد؛ بين النظام الواقعي والنموذج المثالي؛ فالأول هو دائما أكثر تعقدا من الثاني. يجب أن يفهم غياب هذا الترادف بمعنى أقوى بداخل بعدين اثنين: الأول ناتج عن أن نمط الإنتاج الرأسمالي الخالص لا يمكن أن يوجد فعليا؛ بمعنى أن الرأسمالية لا تشتغل إلا بشرط أن تمكنها القوى المضادة للنظام من تجاوز تناقضها المحايث، والثاني ناتج عن أن الرأسمالية العالمية تنتج لكونها مستقطبة بفعل توسعها ذاته وبدون توقف القوى المضادة للنظام التي تنتصب ضد التقاطب المذكور. وقد سبق لي أن توصلت قبلا منذ مدة طويلة بخصوص البعد الأول لصراع المنطقين النظامي والمضاد للنظام، من خلال تحليلي لدينامية نمط الإنتاج الرأسمالي، للنتيجة القائلة بأن إعادة الإنتاج الموسع لم تكن ممكنة إلا إذا ارتفعت الأجور الفعلية بشكل مواز للإنتاجية. بيد أن المنطق الأحادي الجانب لتفوق الرأسمال لا يريد أن يتم ذلك بهذا الشكل، والرأسمالية بفعل ذلك بركود وكساد دائم يجعل منها نظاما مستحيلا. إن هذا التناقض العديم المعنى لا يتم تجاوزه إلا بفضل حالتين: إما بفضل أحداث خارجية بالنسبة لمنطقه الاقتصادي (وقد أشرت بهذا الخصوص إلى للتلازم في ما بين كل واحد من الوجوه الكبرى لمآل الرأسمالية مع أحداثه: حروب الثورة والإمبراطورية، الوحدتان الألمانية والإيطالية، الاستعمار، الثورات التكنولوجية المتعاقبة … الخ )، وإما بالضبط بفضل المنطق المضاد للنظام لصراع الطبقات الذي تفرض الطبقة العمالية بواسطته (وشرائح أخرى من عالم المنتجين كالفلاحين) نمو تعويضات الشغل. إن هذا الديالكتيك الذي يجمع بين منطق التراكم والمنطق الاجتماعي لتوزيع المداخيل والذي بلغ الذروة في فترة الاحتكارات والأنظمة الإنتاجية الوطنية الممركزة حول الذات (من 1920 إلى 1970) مع الوعد التاريخي للدولة الحامية هو اليوم في أزمة بفعل العولمة التي قرضت سمة التمركز حول الذات للأنظمة الإنتاجية الوطنية وكذا بفعل إضعاف موقع الطبقات العاملة في التوازن السياسي العام؛ ومن ثمة فالتراكم الرأسمالي هو بدوره أيضا في أزمة. البعد الثاني لصراع المنطقين هو نتاج ضروري لهذا التناقض الأساسي الأول؛ فالرأسماليات الوطنية المهددة في صراعها ضد المنطق المضاد للنظام المنمى من قبل الطبقات المستغلة تنعتق في التوسع الخارجي محدثة ومنتجة بذلك العولمة المستقطبة. وبداخل هذا التوسع يعوض الرأسمال المهيمن ما أضاعه في مراكزه الأكثر تقدما عن طريق ما يربحه من خلال إخضاعه (وليس من خلال تدميره) للصيغ الما-قبل رأسمالية من حيث أصلها التي يجدها في طريقه، ويحول بذلك المناطق المتخلفة التي يخضعها لمنطقه إلى محيط. يخلق إذن هذا التوسع عالما غير متجانس. إن الرأسمالية لم ترث عدم تجانس في الأصل، بل خلقته أو تعيد خلقه دون انقطاع لصالحها. إن قانون التراكم الذي صاغه ماركس بعبارات التفقير الملطف، إن لم يكن ملغى بالمراكز المتقدمة فهو يوجد تماما بشكل واقعي على مستوى النظام العالمي، لكن قانون التراكم على هذا المستوى – أي مستوى الرأسمالية القائمة فعلا – لم يعد يشتغل في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي الخالص، وإنما في إطار مجموع التشكيلات المركزية والمحيطية التي تشكله، وهذا الاستقطاب – التفقير – ليس البداهة ذا مقبولية و لا مقبولا من طرف الشعوب التي هي ضحاياه، كما أن الطبقة العمالية بالمركز تعبر من خلال صراعاتها عن نزوعها المضاد للنظام، كما تعبر شعوب المحيط من خلال معاركها (معارك التحرير الوطنية أو الثورات الاشتراكية) عن هذا النزوع. وفي هذا المنظور يمكننا إعادة قراءة تاريخ الرأسمالية كتاريخ أوجه متعاقبة ينتصر بداخلها أحيانا المنطق الأحادي الجانب للرأسمالية – ويعرف النظام توسعا معولما – وأحيانا يفرض عليها منطق الثورة المضاد للنظام في المحيط تراجعات. لقد اقترحت قراءة القرن التاسع عشر كوجه مديد للنوع الأول، والقرن العشرين من 1917 إلى 1990 كوجه ثان. السؤال الذي يكون من المشروع حينها طرحه في مرحلة نمونا هاته هو التالي: ما دامت للرأسمالية هذه القدرة الهائلة على التلاؤم مع مطالب القوى المضادة للنظام التي تولدت من تطورها الخاص، فلماذا لا يدوم النظام بشكل أبدي ؟ وبتمديدنا إلى أبعد حد لديناميكية التعاقبات هاته: أوجه نمو عائدات للشغل موازية للإنتاجية بالمركز، ثم توقفها؛ أوجه إخضاع المحيط لمنطق التوسع الرأسمالي العالمي، ثم رفضها، وتراجع الاستقطاب، فإننا سننتهي ربما برؤيتنا للعالم يتجانس على قاعدة رأسمالية أكثر أو أقل أيضا نموا بشكل تدريجي. وقد كان بإمكان ماركس أن يكون على حق على المدى الطويل: إذ أن قانون التراكم يضفي التجانس على العالم. وإذا كان الجواب على هذه المسألة هو أن النظام لا يستطيع أن يجيب على هذا التحدي بهذه الطريقة، فذلك لأنه لم يجب عنها لحد الآن بهذه الطريقة. وبالفعل فإن الاستقطاب لم يتلطف تدريجيا تحت تأثير القوى المضادة للنظام التي ترفضه، بل تفاقم، وبنفس الطريقة؛ فحتى إذا كانت عائدات الشغل قد ارتفعت فعلا بوثيرة الإنتاجية في المراكز على المدى الطويل، فإن تأثيرات استلاب الشغل لم تتضاءل تدريجيا وإنما اتخذت على العكس شأنا متعاظما كما تشهد على ذلك أزمة الشغل في العالم المعاصر. وبعبارة أخرى فإن النظام لم يستطع اتباع مساره بشكل لا متناه – وبشكل مستقل عن معرفة ما إذا كان ذلك ممكنا أم لا بفعل تناقضه الثالث (تدمير القاعدة الطبيعية) – إلا إذا تضاءلت تدريجيا تناقضاته الثلاثة الرئيسية خلال هذا الانتشار التاريخي. إلا أن هذه التناقضات تفاقمت كلها، ومن ثمة فإن النظام محكوم بشكل لا مفر منه بأن يكون نظاما متفجرا أو غير محتمل أكثر فأكثر. غير محتمل ومتفجر لا تعني أنه سيتم تجاوزه من خلال الجواب العقلاني – الاشتراكية – الذي سيفرض ذاته كقوة من قوى الطبيعة. يمكننا أن نعود إذن هنا إلى ما اقترحته منذ عشرين سنة والمتعلق بدينامية تجاوز الأنظمة المنتهية تاريخيا بطرح السؤال التالي: ثورة أم انحطاط ؟ الثورة تعني سيرورة تاريخية (لا تقصي الصيغ التطورية الجذرية) يتم التعبير خلالها عن وعي واضح بأهداف التغيير من طرف القوى الاجتماعية التي تقود المعركة ضد الماضي البائد. إن المثال المعطى كان هو انتقال أنظمة النظام القديم بأوربا إلى الحداثة الرأسمالية، وبالمقابل، فإنه في غياب مبادرة كهاته للوعي الإيديولوجي وللإرادة السياسية التي تحدد مشروعا لمجتمع جديد، فإن التغيير لا يتقدم إلا بمحاولات مترددة بداخل الضباب، وهو ما يحدث في الغالب الأعم أشكالا وصورا يمكن نعتها بأنها منحطة باعتماد مثال الانتقال من العصور القديمة إلى الفيودالية الأوربية كمرجع؛ هذا الانتقال الذي شق له طريقا وسط أطلال الإمبراطورية الرومانية المنهارة. يمكننا إذن هنا أن نطرح التساؤل المشروع التالي: هل سيتم تجاوز الرأسمالية عن طريق أفعال واضحة تقترح مشروعا مجتمعيا آخر (اشتراكي) أو عن طريق صدفة نتائج معارك جزئية معبأة بألف صيغة مختلفة ونوعية لن تكون تبعا لذلك متكاملة وإنما ستكون على العكس من ذلك وفي الغالب الأعم صراعية ؟ إن سبيل الانحطاط لا تقبل الاستبعاد مبدئيا أبدا، ومع ذلك وفي هذه الحالة التي تهمنا، وبالنظر إلى قدرات التدمير الهائلة التي هي في ملك الأنظمة المعاصرة – والتي لا تشبه في شيء القدرات التي عرفت في الماضي – فإن هذه السبيل مهددة بشكل كبير بأن تنتهي بالتدمير الذاتي، وهو ما أسميه الانتحار الجماعي. لم يعد هناك متسع إذن إلا لنفرد لتفاؤلية الإرادة مكانها كما طالب بذلك غرامشي؛ وهذا يعني ممارسة الصراع من أجل تزويد الحركة الاجتماعية للاحتجاج ولرفض ما لا يقبل مما أنتجته الرأسمالية القائمة فعلا بوعي واضح واستراتيجيات مطابقة. ولن يكون لدي اعتداد بالنفس لأقترح هنا برنامج العمل هذا (العالمي بالضرورة )، لذلك سأكتفي بالدعوة إلى النقاش من خلال اقتراحي لبعض التأملات الأولية المتعلقة بالموضوع. إن لحظة التفكك المعمم التي نعرفها حاليا لن تدوم، و لا معنى مشروع تدبير المجتمع العالمي كما يتم تدبير متجر ضخم هو لا معنى تمت البرهنة عليه من خلال الوقائع: فقد أحدث هذا المشروع في زمن قياسي عددا أقصى من المصائب والكوارث وأغرق المجتمعات في أوضاع مسدودة الآفاق وتراجعات لا تقبل الاحتمال. إن غطرسة الخطاب الليبرالي الجديد تحمل في طياتها معاول هدمها؛ فقبلا وفي عدد من بلدان الشرق تمت دعوة الأحزاب الشيوعية السابقة – لما مثلته من قيمة – لممارسة السلطة عن طريق مكاتب الاقتراع؛ وبفرنسا أعلن الاحتجاج الشعبي الكبير في ديسمبر 1995 – وهو الأول في الغرب الذي تجرأ على الرفض الواضح لكل المفاهيم الأساسية للخطاب الليبرالي الجديد – عن تحول ممكن في الآراء في مجموع أوربا؛ وفي بعض بلدان العالم الثالث (البرازيل، المكسيك، كوريا، الفليبين، إفريقيا الجنوبية) سجلت حركات شعبية وديمقراطية مناهضة للنظام بعض النقط واستطاعت حتى قبلا أن تشكل الرياح الدافعة للسفينة. ولكن أيضا، وموازاة لذلك فإن أجراس الأجوبة الموهمة والمجرّمة لم تتوقف عن اجتذاب فصائل كاملة من الحركة الشعبية. تصلب المحافظين الجدد الفاشيين، الانزلاق إلى الهذيان السلالي النزعة، شوفينيات الانكفاءات الوطنية الضيقة، الإجابات عن لامشروعية السلطات القائمة عن طريق طفو الأصوليات الدينية هي أيضا حقائق عصرنا. إننا نمضي نحو مواجهات عنيفة بين اليمين واليسار، ويمكن أن يربح اليسار الجديد المعركة في عديد من بلدان الشمال والجنوب، لكن بشرط أن يتبلور حول استراتيجيات متطابقة مندرجة بحد أقصى من الوضوح في منظور مشروع مجتمع اشتراكي بديل. وسأفحص في ما يلي شروط هذا التبلور في مختلف الأوضاع. لقد قدمت منذ عدة سنوات، في ما يتعلق عموما بالمحيط، اقتراحا لمرحلة نعتتها بأنها مرحلة الحلف الوطني الشعبي والديمقراطي، وبدون العودة إلى تفاصيل الاقتراح فإنني أذكر بخطوطه الأربع الأساسية. أولا: إعادة تعريف وتحديد السياسات الاقتصادية والاجتماعية المناهضة للكومبرادور، أي السياسات الوطنية بالمعنى الذي تتعرف فيه على حقيقة الصراع في ما بين أهدافها وأشكال المنطق المهيمنة للتوسع الرأسمالي المعولم. ثانيا: التعرف على القوى الاجتماعية التي لديها مصلحة مشتركة في تنفيذ هذه السياسات وفي نفس الآن على صراعات المصالح التي تجعل هذه القوى الاجتماعية في حال تعارض في ما بينها (التناقضات في كنف الشعب). ثالثا: بناء صيغ تنظيم ديمقراطية تمكن من تسوية هذه الصراعات في كنف الشعب وشن صراع موحد ضد الخصم الأساسي الداخلي والخارجي. رابعا: تقوية الجبهات الداخلية من خلال الاستمرار في معركة على المستويات الجهوية وعلى المستوى العالمي كفيلة بإرغام النظام الشمولي على التلاؤم مع مطالبها (النقيض إذن لما يقترحه النظام والذي ليس شيئا آخر غير التلاؤم الوحيد الجانب مع مطالب العولمة الرأسمالية). ويوجد في ما أعتقد قبلا أكثر من مجرد تكوينات جنينية ذاهبة في هذا الاتجاه تتجاوز المناظرة الفكرية لتتحول إلى قوى مادية. إن حزب العمل بالبرازيل، المعارضة ب PRI بالمكسيك – معارضة ديمقراطية وحركة زاباتية جديدة –، القوى الديمقراطية الجماهيرية العاملة بكوريا، بالفليبين وخارجها، كتلة ANC-PC-Cosatu بإفريقيا الجنوبية (بالرغم من اصطفاف الحكومة المنبثقة منها في صف أطروحات الليبرالية الموصى بها من قبل القوى المهيمنة عالميا ومن قبل الحزب الوطني بالبلد )، كلها خلقت قبلا وضعيات أو هامشا حقيقيا في مكنة حركة تنظيمات اليسار المتماسكة والصلبة. وبنفس الروح اقترحت أيضا تحليل آفاق السياسة الصينية الجديدة، والتركيز هنا هو على السمات الإيجابية للاختيار الوطني والشعبي ما بعد –الماوي (السمات الإيجابية الثلاث: التحكم في العلاقات الخارجية، إعادة توزيع اجتماعية للمداخيل، تكاملية مدعمة في ما بين الأقاليم)، ولكنه أيضا وفي نفس الآن تركيز على مظاهر ضعفه (السمة السلبية الكبرى والرابعة: غياب مفهوم للديمقراطية والإرث الثابت بإصرار عن مفهوم الأممية الثالثة المحدد للحزب-الدولة). إن هذه التناقضات تخلق إمكانيات تطور متباينة؛ فهي إما أن تقوي المحتوى الوطني البورجوازي للمشروع في أفق لحاق يحرق المراحل ويجعل من الصين قوة رأسمالية كبرى، وإما أن تنتصر استراتيجيات الخصم (اليابان – الولايات المتحدة) وتفكك الصين وتفتتها، وإما أن يستقر المشروع بنجاح في ما يسمى رسميا اشتراكية السوق، وفي هذه الحالة فلن تشكل هذه الصيغة، ولو أنها غير نهائية (في مفهوم الاشتراكية الذي دافعت عنه هنا) أقل من مرحلة استراتيجية إيجابية للانتقال الطويل. إن الوضعية في بلدان المركز الرأسمالي تعرض سمات نوعية ظاهرة ليست فضلا عن ذلك متشابهة بأوربا، بأمريكا الشمالية وباليابان. إن قاسما مشتركا بشكل واسع هو ربما نتاج متآن لتآكل أحزاب اليسار التاريخية (الاشتراكية الديمقراطية والأحزاب الشيوعية) ولتفجر صيغ جديدة للحركة الاجتماعية (ربما كانت أهمها الحركة النسائية والبيئية بدون أن ننسى حركات الجماعات الإثنية وغيرها وحركات النهضة الدينية ). بعض هذه الحركات تبلور في أحزاب سياسية برلمانية كالخضر في بعض البلدان الأوربية بدون أن نكون قادرين على الاقتناع بأنها تمثل بها قوى جديدة في الميدان (وقد أشرت أعلاه إلى خجل الخضر لرفضهم مبدئيا إدانة الرأسمالية ). وقد استطاعت حركات أخرى مساندة هجمات اليمين، كما أن لدى بعضها – النزعة النسائية في المقام الأول – ميلا واستعدادا تقدميا لا جدال فيه؛ وذلك لأنها تتصدى مبدئيا لإحدى السمات الأكثر رجعية لمجتمعنا. لقد قابلت مناظرات معززة بالوثائق بين وجهات النظر المساندة للحركات وتلك المتشبثة بصيغ التنظيم الأكثر سياسية والأكثر اشتمالا. ولقد ذكرنا أيضا، ونحن محقين في ذلك من وجهة نظري، بأن سنة 68 مثلت لحظة انعطاف في تاريخ المجتمعات الرأسمالية المتقدمة؛ وذلك بإعطاء الاحتجاج ضد استلاب الشغل بعدا عميقا عمقا لم يفقده الاحتجاج منذ ذلك الحين أبدا. والجوهري في رأيي، من زاوية النظر التي تشغلنا هنا، هو معرفة ما إذا كان سيكون مجموع القوى التي تمثل اليسار في المجتمع المدني الغربي – أحزابا ونقابات وحركات قادرا أم لا على إنتاج مشروع مجتمع جديد لا محيد عنه لتحديد استراتيجيات مراحل ملائمة. وبالنسبة لأوربا، فإن المحور المركزي الذي ستتبلور حوله التطورات في هذا الاتجاه الإيجابي المطلوب أو ستفشل في فعل ذلك هو محور مشكل من قبل المشروع الأوربي. فهل ستظل تنظيمات اليسار الأوربية، وبالنسبة للأهم من بينها، سجينة المنظور اليميني لأوربا-السوق المشتركة، أم ستتوصل لإنتاج مشروع سياسي واجتماعي مندمج وتقدمي ؟ إن الوضعية هي مغايرة بكل وضوح لوضعية الولايات المتحدة حيث لا يبدو دائما أن التقاطب الثنائي المفروض عن طريق المواجهة الانتخابية بين الجمهوريين والديمقراطيين تقاطب في طريقه للتجاوز، وهي مغايرة لوضعية اليابان حيث لا يبدو أن نزعة الحزب الوحيد المحافظ بالفعل قد فتحت الطريق أمام بديل ما رغم علامات الانحطاط التي تفعل فعلها فيها. وفي كل الأحوال، وفي الفرضيات الأكثر إيجابية حيث ستتبلور تنظيمات اليسار الجديدة كما أشرنا بذلك هنا، فإن السؤال يظل كاملا: فهل ستفرض المبادرات والأفعال التي يمكنها تنميتها بنجاح على الرأسمالية مجرد تلاؤمات فقط ستغيرها بشكل أكيد لكنها ستحفظ لها جوهرها – وإذن فلن تتوصل إلى الإطاحة بحركة تناقضاتها التي تتعمق – أم ستطيح بالضبط بنزوعها. عند هذه النقطة يمكننا القول بأن النظام شرع في التحول صوب الاشتراكية وبأن قطيعة نوعية ستحدث في الانتقال الطويل إلى الاشتراكية■ |