إما الاشتراكية أو الهمجية |
أولا، الرهان ثانيا، العقبات التي لابد من تخطيها: ثالثا، الهدف:التحرر المعمم هذه الوثيقة التي نضعها، ولو متأخرين قليلا، في متناول قراء العربية عموما – ومن ضمنهم بوجه خاص الشبيبة الصاعدة، التي باتت تشعر بعمقٍ بالأزمة المستفحلة التي تعيشها شعوب المنطقة، وطبقاتها وشرائحها المتعرضة للاضطهاد والاستغلال والقهر، وتبحث عن دور لها في مواجهة هذا الواقع ومآسيه – هذه الوثيقة هي ناتج أشهر عديدة من النقاش داخل الأممية الرابعة (والمنظمات المنتسبة إليها)، وسيرورة طويلة من التصحيح وإعادة الصياغة، انطلاقا من مشروع أصلى تداوله مؤتمرها الثالث عشر عام 1991، وكـُلفت الأمانة الموحدة للأممية، المنبثقة من ذلك المؤتمر، بوضع صيغتها النهائية. وهو الأمر الذي بات ناجزا منذ العام 1992. ومن الواضح أن هذا النص، إذا كانت قد حفزت إصداره التطورات في واقع الرأسمالية العالمية المعاصرة، لاسيما منذ بدء الركود المتمادي إلى الآن، مع مطلع السبعينات، والاتجاه المتسارع نحو العولمة الذي باتت تأخذه قوى الإنتاج من جهة، ورأس المال جهة أخرى، فلقد حفزته أيضا التطورات المذهلة في السنوات العشر الأخيرة، في الاتحاد السوفياتي السابق وبلدان أوربا الشرقية. كان أمرا لا غنى عنه إصدار عرض، ولو مقتضب، لتناقضات العالم الراهن والمخاطر المنطوية عليها في ظل الهيمنة شبه المطلقة لرأس المال، لاسيما بعد الاختلال العميق في التوازنات الطبقية على المستوى العالمي، وإثر انهيار المنظومة البيروقراطية، ناهيكم عن تحديد المهام الأساسية، في شروط الواقع الراهن، نحو إعادة الثقة بالاشتراكية كمنظور وحيد لخلاص البشرية، لكن محررة هذه المرة من التشويهات والتزويرات التي كانت تلصقها بها الستالينية، من جهة والإيديولوجيون البرجوازيون، من جهة أخرى. وبحسب الوثيقة، لن يكون المجتمع مجتمع رجال وأناس أحرار ما لم يكن قائما على العمل الحر وغير المستلب، أي على إلغاء العمل المأجور. ومنظور كهذا سيكون ناتج الحركة الفعلية للاحتجاج عل كل أشكال الاستغلال والقمع، التي تنمو داخل المجتمع القائم بالذات، أما مهمة الاشتراكيين الثوريين، فتكمن في حفز تلك الحركة وتطويرها عبر مبادراتهم السياسية والنظرية، ضمن سيرورة توحيد تاريخي للطاقات حتى لحظة الهجوم الأخير على الفوضى البرجوازية. بيد أن ما دون ذلك عقبات ينبغي تخطيها، وفي مقدمة ذلك أزمة الثقة بالمنظور الاشتراكي، التي تتعزز لدى الجماهير بوعي إفلاس كل من الستالينية، والنزعة الإصلاحية الاشتراكية الديمقراطية، والنزعة القومية الشعبوية في العالم الثالث. ناهيك عن مجتمع الاستهلاك والتمليك الخاص، وانحدار "الثقافات المضادة" العمالية مع ما يتركه ذلك من فراغ تتسرب من خلاله شتى الاتجاهات الرجعية الخطيرة. وترى الوثيقة بما يتفق مع ما أكدته الأممية الرابعة، منذ تأسيسها عام 1938، في البرنامج الانتقالي، أن أزمة الإنسانية هي قبل كل شيء أزمة القيادة، والوعي الطبقي لذوي الأجر، وتعتبر أن الحل الجذري للأزمة الراهنة يمر عبر إعادة النظر كليا في الاقتصاد المعمم للسوق، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وسيادة الدولة القومية، وهيمنة البيروقراطيات على منظومات الحماية الاجتماعية. وهو الأمر الذي لا يتحقق إلا على أيدي البرولتاريا، المتحالفة مع الكادحين، كما مع شتى الحركات الاجتماعية الجديدة، كالحركات النسوية والبيئوية والداعية للسلم، والمعادية للعنصرية...الخ. ومن ضمن توجه برنامجي بين ما يتضمنه النضال ضد اضطهاد النساء، ولحماية جذرية للبيئة، وفي وجه النزاعة العسكرية، وفي سياق دفاع مستميت عن كرامة الأفراد وأملهم وسعادتهم، نحو إقامة اشتراكية أصيلة ليس من طريق إليها إلا عبر القطيعة الناجزة مع الرأسمالية والأنظمة البيروقراطية، وإطاحتها عبر تحرك جماهيري، أي عبر الثورة. وهي أمور من بين ما تتطلبه إنشاء أحزاب ثورية منغرسة في واقعها القومي، في شتى البلدان، وفي الوقت ذاته إنشاء أممية جماهيرية ثورية. ففي عالم يزداد تداخلا باستمرار، تقول الوثيقة، ليست الأممية مجرد نزوع أخلاقي، بل هي ضرورة تكتيكية واستراتيجية مباشرة، وبناؤها لا يقبل التأجيل. إن النص الذي يصدر اليوم، بالعربية، يأتي بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدور البرنامج الانتقالي، وفي ظروف هذه الحقبة الانتقالية الحرجة جدا من التقلبات والاختلالات العميقة في ميزان القوى، والمخاطر المستفحلة على الإنسان والطبيعة، ليشكل إضافة بالغة الأهمية يمكن أن تساهم في توضيح معالم الطريق أمام كل من تشغلهم قضية الخلاص البشري، وإزالة الاستغلال والقهر، وحماية كوكب الأرض، وإرساء أسس متينة ودائمة لمجتمعات الحرية والسعادة والعدل. العالم على مفترق طرق. إن المعارف والقوى الإنتاجية الموجودة تكفي لتلبية الحاجات المادية والثقافية الأولية لجميع سكان الكوكب. غير أن الجوع والتشرد يلفان حتى البلدان الغنية. الملايين من الأرواح البشرية تموت بسبب أمراض لها علاج، ناهيكم عن جريمة قتل الأطفال المتبعة ضد الجنس الأنثوي وغير ذلك من أشكال التمييز ضد هذا الجنس. إن عدد سكان العالم ينقصه مئة مليون من النساء في الوقت الراهن. والشرخ يزداد بين الأغنياء والفقراء. ففي عام 1960 كانت النسبة 1/60، أما في 1990 فوصلت إلى 1/150 بين 20% من أكثر الأكثر غنىً و20% من الأكثر فقراً من سكان الكوكب. إن الوجود الجسدي للبشرية بات مهدداً من جراء تراكم الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية فضلاً عن التدمير المتزايد للبيئة. ورغم المناهضة المستمرة وعبر أشكال جماهيرية مختلفة من النضال – أشكال لا تزال خاصة في كل من القطاعات الثلاثة في العالم: البلدان الإمبريالية، بلدان العالم الثالث، بلدان الشرق – فإن النظام الرأسمالي، الذي هو المسؤول الأساسي عن هذه الشرور، يبدو أقل عرضة للتهديد مما كان عليه منذ عقود. وتنتشر على نطاق واسع الفكرة التي تفيد بأنه حقق الانتصار على الاشتراكية – الذي يُنظر إليها زوراً باعتبارها تلك المجتمعات التي كانت خاضعة للهيمنة البيروقراطية في الإتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. إن كل هذا يرجع إلى أزمة الثقة بالاشتراكية بوصفها هدفاً اجتماعياً كونياً في أعين الجماهير. وهي أزمة ما انفكت تتعاظم منذ بداية الثمانينات. وهي نتجت من وعي هذه الجماهير للسقوط الفعلي للستالينية وما بعد الستالينية، والاشتراكية-الديمقراطية والنزعة الوطنية الشعبوية في العالم الثالث. ولعل الشكل الملموس الذي حدث به سقوط الدكتاتوريات البيروقراطية في الشرق، من دون أي تقدم باتجاه الاشتراكية، يساهم في تعميق هذه الأزمة بقوة. وهذه الأزمة، بدورها، تعرقل، على المدى القريب، حل المشاكل الملحّة التي تواجهها البشرية، إذ تضفي على الحركات الجماهيرية المناهضة طابعاً مجزٌأً ومتقطعاً من حيث الأساس. في التحليل الأخير، لن يكون في المقدور حلّ هذه المشاكل ما لم يتم تجاوز الطابع المستلِب والمستلـَب للعمل الإنساني بطريقة حاسمة وتصبح الغالبية الكبرى من الرجال والنساء سادة لمصيرهم في الإنتاج والاستهلاك والتمدن. ومن أجل هذه الغاية، يتحتم عليهم الاستحواذ على إمكانية التقرير الواعي، والحر، والديمقراطي لمصيرهم. هذا هو المعنى الذي ينطوي عليه مجتمع مدار ذاتياً وحضارة متفوقة. وذلك هو، في نظرنا، المحتوى الجوهري للاشتراكية.
بالرغم من الإجراءات الهادفة إلى الحد من الترسانات النووية فإن سباق التسلح مازال جارياً، والأسلحة المتراكمة، تنتهي بالاستعمال مع كل الآثار الهمجية الناتجة منها. فمنذ عام 1945 وقعت أكثر من مائة حرب يطلق عليها حروب محلية كلفت 20 مليون قتيل والعدوان الوحشي الذي شنته الإمبريالية على العراق في 1991، كشف جميع النتائج الهمجية لسباق التسلح هذا. إن وجود ترسانة ضخمة للسلاح النووي وتطوير الأسلحة البيولوجية والكيميائية والإكثار من المحطات النووية التي من شأنها أن تتحول إلى انفجارات نووية، حتى في حالة الحروب "التقليدية"، كل هذا يُظهر خطر الفناء المادي المحيق بالجنس البشري. إن الأخطار الناجمة عن التسخين المتزايد للجو، وتحطم طبقات الأوزون، وهلاك الغابات الاستوائية وغابات المناطق المعتدلة، وتسمم المحيطات ومنابع الماء العذب، وتلوث الهواء، والتدمير المستمر للطبقات العضوية في الأراضي الزراعية والاستئصال الشامل للكائنات الحية التي تختفي حالياً بوتيرة تتجاوز ألف مرة الوتيرة "العادية"، واختناق المدن وانحطاط الريف، إن كل هذا يجتمع ليقوض أسس البقاء المادي للبشرية. إن شعوباً بكاملها تتعرض لخطر التحول نحو المجاعة، ليس بسبب ضعف الإنتاجية الزراعية على النطاق العالمي، بل لأنها مرتفعة جداً بما يكفي لتوفير الأرباح الملائمة للصناعات الزراعية وللمزارعين الكبار في البلدان الأكثر غنىً. ففي هذه البلدان تمنح الدول علاوات من أجل القيام بتخفيض منهجي لحقول القمح "بغية الحفاظ على الأسعار"، مُعرضة العالم كله لمخاطر القضاء على احتياطي الحبوب العالمي، في حال حدوث مواسم رديئة متكررة. إن الركود الطويل الذي مابرح الاقتصاد العالمي يمرّ به منذ بداية السبعينات يعرّض الشروط الحياتية لمعظم شعوب "العالم الثالث" لنتائج كارثية. ووفقاً لتقرير رسمي للأمم المتحدة، هناك مليار شخص فقير وفق معايير محصورة جداً. أما في المتروبولات الإمبريالية، فإن الآثار الناتجة من الأزمة، حتى وإن تزايد ظهورها، إنما يجري كبحها عن طريق المكاسب التي تم انتزاعها في سياق العقود الأخيرة عبر النضالات العمالية (ولاسيما في ما يخص الحماية الاجتماعية"، وكذلك عن طريق القوة الإجتماعية التي باتت تمثلها الطبقة العاملة. ومع هذا فإن سهم البطالة، ماانفك يتصاعد: أكثر من 40 مليون عاطل عن العمل في البلدان الأكثر غنىً مقابل عشرة ملايين في بداية السبعينات. والملايين من الفقراء الجدد يمثلون، تبعاً لكل بلد، ما بين 10% و35% من نسبة السكان. إن عدم الاستقرار والتهميش وانعدام الأمن، هذه الحالات التي تتنامى في المجتمع، تنعكس على الصعيد السياسي في شكل نزعات نحو الدولة القومية وكبح الحريات الديمقراطية والحقوق النقابية، وتصاعد النزعة العنصرية وكره الأجانب، والاعتداء على حقوق النساء وذوي الميول المثلية(*)، وظهور اليمين المتطرف والفاشية الجديدة. وإن اللجوء المنظم إلى التعذيب والإرهاب من جانب الدولة يجري في أكثر من 60 بلداً في العالم بما فيها البلدان الإمبريالية. وفي العالم الثالث، يعطي النضال ضد القمع، بما في ذلك الخطف والتصفيات، معنى أوسع للنضال من أجل الحريات الديمقراطية في الوقت الراهن. إن الدليل الصارخ على الانحطاط القائم يتمثل في انه، بعد 150 سنة من إلغاء العبودية، هناك اليوم ملايين من العبيد في العالم. وبالتأكيد، فإن المستغـَلين والمقموعين لن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يساقون نحو كوارث تهدد مستقبلهم لا بل حياتهم نفسها. ولقد قام الملايين من النساء والرجال في السنوات الأخيرة بالمشاركة في التحركات ضد الحرب والأسلحة النووية، والنزعة العسكرية، ومن أجل الدفاع عن البيئة والقوميات المظلومة، وضد العنصرية والفاشية الجديدة، ولمناهضة التقشف والبطالة، وضد الإمبريالية والجوع والديون التي ترهق كاهل "العالم الثالث" وضد الامتيازات والديكتاتوريات والبيروقراطية. إننا نناضل من أجل مخرج عالمي للأزمة من شأنه أن يحمي فرص التحرير الاجتماعي للبشرية ويحمي بالكامل حقوق الرجل والمرأة، ليس بوصفها حقوقاً مدنية وسياسية وحسب، بل أيضاً الحق في العمل وفي مستوى لائق للعيش والصحة والتعليم والسكن. لا مجتمع قوانين الغاب الرأسمالي ولا الدكتاتورية البيروقراطية قادران على الاستجابة لهذا التحدي. وإن الحل الاشتراكي، الأممي لأزمة الحضارة التي تعلن عن نفسها يمر عبر إطاحتهما. وهذه الإمكانية قائمة على الطاقة النضالية والتجديدية الكامنة لدى البروليتاريا والمضطهدين. إنه وهمٌ ذلك التصور القائل إن تضحيات صَبورةً وإصلاحات حكيمة من شأنها أن تدرأً الأخطار. وكما أن الماضي يشهد على أن المواعظ الإصلاحية لم تنجح قط في منع الأزمات وتجنب الحروب واحتواء الإنفجارات الاجتماعية، ففي المستقبل أيضاً لن يحصل ذلك. إن الرضوخ قد كلف دوماً أكثر مما كلف النضال بما لا يقاس.
إن الذين أسكرهم الازدهار الذي أعقب الحرب فراهنوا على رأسمالية سليمة واجتماعية تؤمِّن العمل للجميع والارتفاع المستمر للمداخيل الفعلية قد رأوا بأم عينهم أوهامهم وهي تندثر. وأولئك الذي يراهنون اليوم على مخرج هادئ من الركود استنادا إلى الصبر والتضحيات المتزايدة من جانب المستـَغـَلين، لا يدركون العلاقة الوثيقة بين الأخطار التي تهددنا والمنطق الداخلي لاقتصاد السوق المعمم، الذي يشكل جوهر الرأسمالية بالذات: المنافسة الحادة من دون الأخذ في الاعتبار النتائج التي تترتب عليها إزاء المجتمع برمته، الركض الدائم وراء الربح والاغتناء الفردي في أقصر فترة من دون أي اعتبار للأكلاف البشرية لهذا السباق الأحمق، وللجراح التي تثخن بها الطبيعة؛ توسيع السلوك التنافسي والعدواني بين الأفراد في علاقات بعضهم بالبعض الآخر، كما بين المجموعات الاجتماعية والدول؛ الأنانية والفساد المعممان؛ حرب الكل ضد الكل؛ و"الويل ثم الويل للضعفاء والمهزومين !". إن الركود الطويل هو نتيجة لهذا المنطق الذي لا يرحم للاقتصاد الرأسمالي. وهو لا يستبعد مراحل ازدهار على صعيد النشاط الاقتصادي. ولكن حالات الازدهار هذه تستتبع تحويلا متزايدا لتكاليف الأزمة إلى كاهل "العالم الثالث" والفئات الأكثر فقرا في المتروبولات. إنها لا تفلح حتى في الحد من البطالة في البلدان الغنية ذاتها. إن استمرار الركود يشكل رعبا لا نهاية له بالنسبة للبؤساء والمنبوذين. وإذا كان الركود في العقود الأولى بعد الحرب أقل زخما مما كان عليه في الخمسين سنة التي سبقت الحرب فإنه ما لبث أن بدأ بالتعمق منذ السبعينات. إن الاقتصاد الرأسمالي العالمي عاجز عن تجاوز المأزق: فإما التضخم المفرط وإما أزمات فائض الإنتاج المفرط. وبالرغم من أن أزمة مصرفية-مالية على شاكلة تلك التي وقعت في 1931 تظل احتمالا بعيدا إلا أن هذا الاحتمال يبقى قائما. إن ما يهدد بجرّنا إلى كوارث خطيرة ليس ما يزعم أنه الانحراف الكامن في صميم التكنولوجيا والذي لا يمكن السيطرة عليه بل هو تطور التكنولوجيا الخاضعة لمتطلبات المنافسة والربح أو للإهمال البيروقراطي. إن ما يسبِّب الجموح التقني الذي يبدو كما او أن مقاومته مستحيلة، وازدهار التكنولوجيات الحبلى بالأخطار في صميمها، إنما هو الميل لإخضاع العلم إلى المتطلبات الضيقة للربح في المدى القصير. فمع الرأسمالية ينتصر، في جميع الميادين، مزيج من عقلانية جزئية، ومشذرة، ومشوهة، ولاعقلانية كلية تزداد تفجرا. وإذا كان من الوهم الإيمان بالنتائج المفيدة من تلقاء ذاتها للتقدم العلمي فإنه لا بد من الاعتراف بأن الإنسانية بحاجة إلى المزيد من العلم والعقل والتكنولوجيا. علم متصالح مع الوعي بالمصالح الاجتماعية على المدى الطويل وتكنولوجيا خاضعة إلى الذكاء والتقدير الجماعيين للمنتجين والمنتجات المتشاركين والمتشاركات، وذلك بما يخدم الهدف المرجو، ألا وهو التحرير والتضامن الإنسانيان في عموم الكرة الأرضية. وليست هناك حاجة للعودة إلى الخرافات والأساطير الظلامية. ويقع في صلب هذا الكفاح النضال من أجل تحقيق حقوق الرجل والمرأة في جميع القارات. وفي مجتمع يسود فيه مبدأ احترام الملكية الرأسمالية وأولوية الربح، من المستحيل الضمان الكامل والفعلي للحقوق الديمقراطية والاجتماعية الأساسية لجميع السكان. يجب على الحركة العمالية أن ترد إلى نحر البرجوازية الحملة من أجل حقوق الرجل والمرأة وأن تصبح المدافع الأكثر حزما من أجل الحريات والديمقراطية. ولكن لن يكون في وسعها أن تنال الثقة والسلطان، ما لم تعمد إلى تطبيق تلك المبادئ في صفوفها بالذات وتمتنع عن انتهاك أي من تلك الحقوق في البلدان التي تمارس فيها الحكم. إن مصالح قوية تعارض نزع السلاح الشامل على النطاق العالمي، كما أنها تحول دون التوقف عن تلويث الهواء والبحار والقارات والقضاء على المجاعة والبؤس والقلق المثير لليأس في الحياة اليومية، المعالجات القاتلة المستخدمة لدرء هذا القلق مثل الكحول والمخدرات. من الوهم أن نتخيَّل رأسمالية من دون أزمات فائض الإنتاج، وهذه الأزمات تشكل تحديا حقيقيا للبشرية آخذين بعين الاعتبار آلاف الملايين من الناس الذين يعجزون عن تلبية أبسط حاجاتهم. ومن الوهم أن نتصور رأسمالية بدون بطالة وفقر وتمييز ضد النساء والشباب والمسنين والمهجرين والأقليات القومية، من دون عنصرية ونزعة كره الأجانب. إن نمط الانتاج الرأسمالي لن يقدر على تجنب كل ذلك في المستقبل تماما مثلما أنه لم يقدر على ذلك في الماضي. إن النزوع المتنامي للقوى الانتاجية نحو العالمية يستتبع ميلا نحو عالمية الرأسمال، وهذا يعني أكثر من أي شيء آخر أن المشاكل المركزية للبشرية تكتسي بعدا عالميا، مشاكل لا يمكن حلها إلا على النطاق العالمي وذلك عبر قيام اتحاد فيدرالي اشتراكي عالمي. فالامبريالية، ورغم هيمنتها المؤقتة على المسرح السياسي العالمي، عاجزة عن السيطرة على هذه العولمة. كما أن الامبريالية – الممزَّقة بالتنافس المتفاقم في مرحلة الركود، والأسيرة للدولة القومية الباقية على قيد الحياة، والمعترض عليها من جانب قطاعات مهمة من سكان العالم – لا يمكنها أن تسحق في الوقت الراهن شعوبها الخاصة بها، كما سبق أن فعلت الفاشية. غير أن الدولة القوية تتنامى ويظهر خليط من الثقافة العنصرية ما قبل الفاشية إلى العلن. وإزاء هذه الاتجاهات لا يمكن البقاء مغمضي الأعين: إن الامتناع عن رؤية هذه الأخطار اليوم يعني انعداما للمسؤولية أو جبنا بقدر ما كان الأمر قبل أوشفيتز وبعد هيروشيما.
3- الكارثة حلّت وهي تتقدم في "العالم الثالث" إن الأخطار التي تحيق بالبشرية باتت تظهر بوضوح وجلاء في البلدان التابعة. فالهمجية تفعل فعلها هناك. وليس من المقبول الحكم على الرأسمالية فقط من مرآة الشروط الحياتية لأقلية ضئيلة من سكان الكرة الأرضية أي البرجوازية والطبقات الوسطى والشرائح التي تحصل على أعلى الأجور في البلدان الأكثر غنىً. وباستثناءات محدودة، شهدت بلدان "العالم الثالث" تدهوراً خطيراً في مستوى العيش الوسطي خلال العقد الأخير، الأمر الذي أدى إلى أوضاع معيشية ما دون إنسانية. إنّ طواهر الإفقار المطلق تتجاوز أحياناً تلك التي شهدتها سنوات الثلاثينات، وغالبا ما تنخفض القدرة البشرية للمأجورين بنسبة تصل إلى الـ 50%. وفي البلدان الأكثر فقراً، ينحدر استهلاك الوحدات الحرارية (الكالوري) من جانب النصف الأكثر فقراً من السكان نحو المستوى الذي كان سائداً في معسكرات الاعتقال النازية قبل عام 1940. وتستفحل البطالة وتطول 40،5 من القدرات السكانية الفعالة. في هذه البلدان يموت كل عام 15 مليوناً من الاطفال نتيجة المرض وسوء التغذية. وكل خمس سنوات تحصد هذه المذبحة الصامتة ما يتجاوز ضحايا الحرب العالمية الثانية بما في ذلك ضحايا هيروشيما. إن الأمر يعادل خوض عدة حروب عالمية ضد الأطفال منذ عام 1945، ذلك هو ثمن بقاء الرأسمالية العالمية. إن الموارد التي من شأنها أن توفر الغذاء والعناية والسكن والتعليم لهؤلاء الأطفال متوفرة مع ذلك بيسر على النطاق العالمي، شرط عدم تبذيرها على نفقات التسلح وبشرط إعادة توزيعها لمصلحة الأكثر حرماناً، وشرط الكف عن العهد في توزيعها لروحية الربح لدى التروستات الكيميائية والصيدلانية وتلك المهتمة بالصناعات الغذائية، وللتعطش إلى الإثراء لدى صانعي الأسلحة. تقوم المتروبولات الإمبريالية بتصدير مقصود للتلوث نحو بلدان "العالم الثالث" الذي أصبح سلة مهملات رخيصة للنفايات الصناعية الخطيرة. ويجري تحويل الأراضي التي ظلّت لالآف السنين مكرّسة لانتاج الغذاء الأساسي للفلاحين إلى الاستعمال التجاري للزراعات المخصصة للتصدير، الأمر الذي ينتج عنه تصحير متزايد وتدمير متسارع للغابات الاستوائية، وجعل هذه البلدان (أي بلدان العالم الثالث) قاعدة للصناعات الهدّامة بشكل خاص، أي تلك التي سرعان ما تحدث كوارث بيئية أسوأ بكثير من تلك التي أصابت البلدان الغنية. إن مطاردة العملات الصعبة المعدة لتمويل خدمة الدين، والتطوير المنهجي للزراعات التصديرية على حساب إنتاج المواد الغذائية الأساسية، يزيدان من حدة سوء التغذية والمجاعة. وفي الوقت الحاضر باتت البلدان الفقيرة تصدر الرساميل إلى البلدان الغنية من دون الأخذ في الاعتبار الآثار الناجمة عن تخريب شروط التبادل وعن الفساد وقيام الطبقات المالكة في بلدان "العالم الثالث" بتحويل الأموال والقروض العامة لصالح اغتنائها الخاص. إن الأصفاد الحديدية للدّين الخارجي، بما هي تركيب للتبعية والتخلف، إنما يرزح تحت ثقلها قبل أي كان الأفقر من بين الفقراء. إن النضال ضد دفع الديون ومن أجل إلغائها النهائي – بما في ذلك إلغاء خدمتها – إنما يبدأ على النطاق اليومي من خلال معارضة سياسات التقشف على مستوى الأجور، التي تمارس ضغطاً رهيباً على القدرة الشرائية، وكذلك معارضة الاقتطاعات المرهقة من الميزانية العامة المخصصة للتعليم والصحة، وهو الأمر الذي يشرف عليه صندوق النقد الدولي FMI، هذا فضلاً عن معارضة تفكيك القطاع العام والأذى الذي يلحق بالبيئة من جرّاء الاختراق الوحشي للرأسمال. إن العمال والفلاحين والمحرومين في المدن ومدن الصفيح يقاومون هذا الانحدار المريع في شروطهم الحياتية. وفي أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا تتلاحق موجات الإضرابات والاستيلاء على الأراضي والتمردات الفلاحية والانفجارات المدينية للسكان المفقرين والمهمشين، والنضالات الكومونية، ولكن أيضاً النجاحات الانتخابية والإضرابات العامة والجهود الرامية إلى التنظيم السياسي والنقابي المستقبل عن الدولة البرجوزاية، هذا فضلا عن الجهود من أجل بناء معاقل للمقاومة المسلحة.
4- الأزمة في الاتحاج السوفياتي وبلدان الشرق هذه الأزمة كانت تنضج منذ سنوات. وسياسة ميخائيل غورباتشوف لم تتسبب بها، بل عملت فقط على كشفها. وسواء في الاتحاد السوفياتي وفي أوروبا الشرقية فغن الأزمة قد تكشفت بشكل خاص من خلال تباطؤ النمو الاقتصادي والتخلف التكنولوجي الصارخ، مقارنة مع البلدان الامبريالية، والركود والتفسخ الاجتماعيين وظهور فقر جديد على نطاق واسع وفقدان المؤسسات السياسية لأي مصداقية، وانفجار أزمة أخلاقية وايديولوجية عميقة. يضاف إلى ذلك الانحدار المضطرد لحوافز العمل، وكذلك حوافز الالتزام الاجتماعي، والنزوع نحو الحياة الخاصة، لدى قطاعات مهمة من الجماهير – وهذا ما أدى دون شك إلى إطالة عمر الدكتاتورية البيروقراطية – هذه الاتجاهات لم تعوّض إلا جزئياً وبطريقة غير كاملة من خلال انبعاث ثقة ذاتية لدى العمال فقط على المستوى المصنعي وانبعاث رأي سياسي مستقل في بعض "الأوساط الصغيرة". لم تكن هذه الأزمة أزمة الرأسمالية وأزمة الاشتراكية. إن الرأسمالية تفترض سلفاً ليس فقط في قوة العمل بل كذلك في وسائل الانتاج الكبيرة أن تكون سلعاً تباع في السوق. وهي تفترض أن يكون الرأسمال – النقود نقطة البداية والنهاية بالنسبة للانتاج. والحال أن اقتصاد الاتحاد السوفياتي لم يتميز بشيء من هذا. أما الأشتراكية فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى مرتفع من إنتاجية العمل وإشباع الحاجات الاستهلاكية للجماهير. وهي تقتضي أوسع الديمقراطية لأكبر عدد من الناس وتصارعاً حرّاً للآراء، واستقلال المنظمات الجماهيرية عن الأحزاب والدولة وممارسة الجماهير بنفسها للسلطة والإدارة الذاتية. إن الاشتراكية الأصلية لم توجد قط في هذه البلدان. إنها جريمة ستالين أنه عمد إلى ربط اسم الاشتراكية بالفظاعات البيروقراطية، مثل الدكتاتورية البوليسية والغولاغ واللامساواة المتزايدة والفساد المعمم وفرض الوصاية على الشباب والعلم والإبداع الأدبي والفني. على أن هذه البلدان لم تكن تمثّل أيضاً أي صنف من أصناف الرأسمالية. إن أزمتها خاصة بالمجتمعات المابعد رأسمالية التي ابتليت بفئة بيروقراطية طفيلية وذات امتيازات عمدت إلى اغتصاب السلطة من العمال. ولقد تميزت هذه البلدان بتناقض يزداد انفجاراً يوماً بعد يوم بين العناصر والقوى التي تسير في اتجاه التقدم الاجتماعي والفوضى الاقتصادية واللامساواة والقمع والفساد الناتجة من الدكتاتورية البيروقراطية. إن البيروقراطية، ومن أجل إنقاذ سلطتها السياسية التي هي المصدر الأساسي لامتيازاتها، قد تلجأ إلى الإصلاحات. ولكن، رغم بعض النجاحات الأولية فإن جميع المحاولات الإصلاحية التي قام بها تيتو وخروشوف وماو ودنغ (سياوبنغ) قد أفضت إلى مأزق. وقد لقيت جهود غورباتشوف المصير ذاته. إلا أنها شجعت من جهة حدوث تمايزات اجتماعية عميقة، بما في ذلك في صفوف البيروقراطية، مع ظهور قوى سياسية واجتماعية مناصرة للرأسمالية، ومن جهة أخرى فإنها أدت إلى انبعاث نشاط جماهيري في القاعدة بشكل لا سابق له في الاتحاد السوفياتي منذ الثورة المضادة الستالينية. إن الطريقة التي تصرفت بها الجماهير في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي إزاء الأزمة المنظومية المتنامية في هذه البلدان قد تعدلّت بدءاً من نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. ولقد تأخر الماركسيون الثوريون كثيراً في إدراك هذا التعديل. وفي الوقت نفسه فإنهم قد أخطأوا بصدد الإمكانيات المتاحة لمخرج سريع من تلك الأزمة لما فيه مصلحة الاشتراكية. إن عاملاً مهماً يشرح هذا التبدل في سلوك الجماهير يكمن دون شك في القمع الذي بدأ ينهال منذ تلك اللحظة على "المعارضة" في تلك البلدان، سواء المعارضة العمالية والمعارضة الثقافية. هذا القمع أطاح، مثلاً، الطاقة الاشتراكية التي كانت كامنة في منظمة "لتضامن" [البولونية] عام 1980 – 1981. ولكن يضاف إلى نتائج هذا القمع النتائج الموضوعية للأزمة المنظومية المتصاعدة منذ تلك الفترة، ليس فقط انحدار شروط العيش لدى الجماهير بل أيضاً الوعي المعمم بإفلاس "اقتصاد الأمر والنهي" الذي اعتبروا زوراً اشتراكيةً، نظراً للجوء أركان النظام إلى استعمال مفهوم "الاشتراكية القائمة فعلياً" والدعاية الامبريالية التي كانت تعتبر هذه البلدان "اشتراكية". وواقع أن الحركة العمالية الأممية لم تتحرك لمساندة النضالات المناهضة للبيروقراطية في أعوام 1953 – 1981 قد ساهم في اتجاه الجكاهير في تلك البلدان لتلقي الدعم الإيديولوجي والمادي من البرجوازية وليس البروليتاريا الأممية، في الوقت الذي كانت فيه الدكتاتورية البيروقراطية تتفتت وتنهار. لقد كانت هناك استمرارية بدأت مع الانتفاضة العمالية في ألمانيا الشرقية عام 1953، والتحركات العمالية في بولونيا، والثورة الهنغارية عام 1956، و"ربيع براغ" 1968 – 1969، والمخزون الاشتراكي القائم على التسيير الذاتي في انبثاق "التضامن" في بولونيا عام 1980 – 1981. إن هذه الاستمرارية قد انقطعت. إن أزمات الانهيار التي أصابت الدكتاتوريات الستالينية والما بعد ستالينية في 1989 – 1991 لم تدفع الجماهير في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي للقيام بأي مبادرة سياسية طبقية مستقلة. لقد تركت الساحة خالية، على المستوى السياسي المباشر، لأقسام من البيروقراطية، بما فيها الأقسام المناصرة للرأسمالية ولـ"الليبرالية" من البرجوازية الصغيرة والوسطى الذين يعتبرون "اقتصاد السوق" وسيلة للانخراط في التراكم البدائي للرأسمال. علاوة على ذلك، فإن الأنظمة البيروقراطية، وبعد أن سحقت الحريات الديمقراطية الأولية والحرية الفردية، قد أدت بالجماهير إلى إعادة تقويم مجمل مؤسسات الدولة البرجوازية، التي تماهت في نظرها مع الديمقراطية. إلا أن المحاولات الأولية للتمليك الخاص الاقتصادي والانفتاح على الرأسمال العالمي والبدء بإعادة الرأسمالية، إنما تتم في ظل سياسة تقشفية ولا مساواة متزايدة، وهذا شئ حتمي، الأمر الذي يهدد بتحويل مثل هذه الإعادة إلى كارثة حقيقية ترمي عشرات الملايين من الأشخاص في لجة التخلف والبؤس الاجتماعي والثقافي. وكلما ازدادت هذه الأنظمة مضيّاً في هذا الاتجاه كلما اشتدا مقاومة واسعة لمحاولات التضييق على الشروط الاجتماعية للنساء وخاصة في ما يتعلق بحق الإجهاض. وفي وجه هذه المقاومات يقع المشرفون على اللبرلة الاقتصادية المفرطة، بدلاً من قرنها بمواصلة الانفتاح الديمقراطي، تحت إغراء القمع السلطوي، إذا ما سمحت موازين القوى بذلك. إن تعميم هذه الحريات وتعزيزها يتطلبان سلطة عمالية شعبية دستورية. وفي غياب مثل هذه السلطة ونظرا للمدى الذي ستأخذه المقاومة الجماهرية، فإن هذه البلدان سوف تشهد فترة طويلة من عدم الإستقرار والفوضى يمكن أن تنضج في سياقها الشروط الكفيلة بانتصار العمال. ولكن الأمر يتطلب مزيدا من الوقت والخبرة النضالية، قبل أن يتمكن العمال من إحراز استقلالهم السياسي الطبقي ومستوى الوعي الضروري لمثل هذا النصر.
إزاء اشتداد حدة الأزمة في الإتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، استسلمت قطاعات هامة من السكان العاملين، سواء في الشرق أو في الغرب، لفكرة أن اللجوء الكثيف إلى آليات السوق يشكل شراً أقل، مقارنةً بالفساد البيروقراطي. ولهذا لم تكن هناك سوى خطوة واحدة لرفع شعار: "اشتراكية السوق"، وهي الخطوة التي خطاها الايديولوجيون الإصلاحيون والإصلاحيون الجدد في العالم كله. على أن فكرة "اشتراكية السوق" بذاتها تنطوي على تناقض، ففي مجتمع اشتراكي حقاً يقومون المنتجون المتشاركون بحرية تحديد ما ينتجونه وكيفية الإنتاج وتوزيع المنتجات، على الأقل بنسبها الأساسية. إن الإدارة الديمقراطية للإقتصاد والتقرير الواعي والجماعي للحاجات الأولية ولسبل تلبيتها لا تتفق مع حكم السوق والمنافسة. وما لم يحل مجتمع الوفرة الشيوعي، أي مجتمع يلبي كل الحاجات المعقولة، فإن كل نظام اقتصادي محكوم بأن يبقى دوماً تحت ضغط فقر نسبي في المواد الإنتاجية. ويعني ذلك أن حاجات معينة تلبّى على حساب أخرى. ومن يتحكم بالفائض الإجتماعي – الطبقات أو الشرائح المهيمنة – إنما يملك سلطة تعيين الأولويات في استخدام الموارد النادرة نسبياً. في المجتمع الرأسمالي، تحدِّد هذه القرارات الشركات والثروات الكبيرة أي متطلبات الربح وتراكم الرأسمال الخاص. هذا وتخضع "قوانين السوق" لهذه الضغوط والمتطلبات التي تحرّف اتجاهها، فيتم تشييد مساكن رفاهية فاخرة في الوقت الذي يفتقر فيه الملايين إلى السكن في البلدان المسماة غنية. هنالك 1،7 مليار نسمة يفتقرون إلى المياه الصحية في الوقت الذي توجد فيه مئات الآلاف من المسابح الخاصة في كاليفورنيا وحدها. ويجري القيام باستثمارات هائلة من أجل إنتاج أدوات يقل نفعها أكثر فأكثر لا بل إنها مؤذية، في الوقت الذي يُحرَم فيه المليارات من البشر من تلبية حاجاتهما لأولية. في الإقتصاد الذي كانت تهيمن عليه البيروقراطية السوفياتية والتشكيلات المشابهة، كان يجري تقرير هذه الأوليات في استخدام المصادر بطريقة اعتباطية ومفروضة قسراً، الأمر الذي أدى إلى اختلالات كبيرة وتبذيرات هائلة ومتزايدة. أمّا في اقتصادٍ مشرَّك، مُدارٍ من قبل المنتجين – المستهلكين – المواطنين أنفسهم فإن هذه الأوليات ستقررها ديمقراطياً الجماهير الكادحة. وستنطلق الخطة من تلبية الحاجات الأكثر إلحاحاً. ولن يكون هناك غنىً عن التخطيط الإشتراكي الديمقراطي لضمان احترام هذه الأولويات. وعلى هذا التخطيط أن يتأكد من أن اتجاهات التطور الإقتصادي لا تنبع من "القوانين الإقتصادية" التي تفرض نفسها عفويا من وراء ظهر المنتجين/المنتجات. وعليه أن يتأكد أن هذه الإتجاهات تتقرر بشكل واع، ولا سيما في ما يتعلق بموضوع الإستخدام، ومدة وكثافة العمل، والمساواة المتزايدة وأولويات الصحة، والتعليم، وحفظ البيئة، والثقافة، إن هذه العلاقات بين التسيير المخطط ديمقراطياً وتلبية حاجات المستهلكين هي التي تجعل من الإقتصاد الإشتراكي الحقيقي متفوقاً على الإقتصاد الرأسمالي، بما في ذلك "الإقتصاد الإجتماعي الخاص بالسوق". وهذا الأمر يتحقق عبر الجمع بين أشكال متعددة من الملكية المشرّكة، غير الدولانية بالنسبة لوسائل الإنتاج الكبيرة، والتعاونية والخاصة بالنسبة للوسائل الأصغر. لن يقوم المنتجون/المنتجات بتحرير طاقة هائلة خلاقة، وابتكارية لقائمين بالتسيير مسؤولين ومقتصدين، إلا عندما سوف يدركون عملياً أنهم يملكون سلطة الحصول على الخيرات والخدمات ذات النوعية الراقية الموزعة من دون عقبات. ومنذ ذلك الحين، فإن "روح المبادرة" بالمعنى العقلاني للكلمة، المحصورة، في النظام الرأسمالي وفي ظل السوق، بأقلية صغيرة من الملاكين الخاصين، سوف تتوسع لتشمل الغالبية الكبيرة من المنتجين/المنتجات. وبالإستناد إلى الطاقة الكامنة الهائلة للمعلوماتية التي تحركها، فضلاً عن ذلك، إمكانية التخفيض الجذري ليوم العمل وأسبوع العمل، والتشريك المتزايد للعمل المنزلي، ومع أخذ كل الإهتمامات البيئوية بالإعتبار، سوف يكون في وسع الإقتصاد الإشتراكي المسيًّر ذاتياً والمخطط ديمقراطياً، أن يثبت كونه أكثر فعالية بصورة نوعية، وأكثر عقلانية وإنسانية من الإقتصاد الرأسمالي الأكثر تقدماً. لقد أظهرت التجربة اليوغسلافية بطريقة دراماتيكية أن التسيير الذاتي العمالي – حتى إذا كان مقتصراً على مستوى المعمل – واقتصاد السوق إنما ينفي أحدهما الآخر على المدى البعيد. فلقد كان في وسع العمال أن يحققوا امتيازات مهمة على مستوى المصنع، بما في ذلك تمكنهم من صرف مديرهم. ولكن طالما أن مصير المصنع يبقى معلقاً بتجليته التي تحددها السوق، والتي تتوقف بدورها على مجموعة من العوامل المستقلة عن قرار الشغيلة (من ذلك، الحالة التقنية الأولية، درجة احتكار المنتجات المبيعة، التفاوت في فرص القروض، وكذلك التفاوت في فرص الحصول على العملات الصعبة التي تتيح استيراد الآلات والمواد الأولية وقطع الغيار)، فإن العمال يمكن أن يتعرضوا لعقاب السوق، بغض النظر عن جهودهم الخاصة. بل يمكن لمصنعهم أن يواجه الإفلاس. فماذا يبقى عندئذ من التسيير الذاتي، غير "حق" الشغيلة في أن يصرفوا أنفسهم بأنفسهم من العمل ؟ أثناء الإنتقال من الرأسمالية إلى الأشتراكية، يبقى اللجوء إلى آليات السوق أمرا ضروريا ومفيدا في القطاعات التي تعاني من نقص في التشريك الضروري للعمل مما يجعلها غير مهيّأة بالشكل المطلوب للملكية الجماعية: الحرف اليدوية، بعض قطاعات التوزيع والخدمات (كقطاع التصليحات)، الخ. ويمكن هذا اللجوء أن يقضي على النقص، وذلك من خلال كسر الاحتكارات التي لا تأخذ في الإعتبار بشكل كافٍ حاجات المستهلكين في الزراعة والتجارة بالمفرق وبعض الخدمات، على أن لا تحل الاحتكارات الخاصة محل احتكار الدولة. ولكن هذا اللجوء لا يكون إيجابيا إلا في إطار توجه واعٍ نحو الاضمحلال التدريجي لعلاقات السوق والارتباط، بوجه خاص، بديمقراطية اشتراكية تعددية حيث تبقى سلطة القرار في جميع هذه الميادين في أيدي الجماهير. إن استعمال مقياس نقدي ثابت والاشتغال الجزئي والمؤقت للسوق يجب أن يتم ضمن اقتصاد مدارٍ ديمقراطيا، أي في إطار جملة من القرارات السياسية الحريصة على ألا تزيد آليات السوق الجزئية من حدة التمايزات الاجتماعية، وألا تـُحدث تحويلات على حساب الفئات الأكثر فقرا من السكان، وألا تشدخ نضام الحماية الإجتماعية الذي يضمن لجميع المواطنين/المواطنات تلبية حاجاتهم الأساسية، وألا تؤدي إلى تدهور أحوال النساء، الدقيقة بشكل خاص بوصفهن عاملات ومستهلكات. إن كل ذلك يتطلب تعزيز آليات الديمقراطية الإشتراكية والرقابة العامة على كل مفاصيل الحياة الإقتصادية والإجتماعية. من دون سلطة سياسية يمارسها الشغيلة فعلياً، فإن تقوية مقاييس السوق ولو جزئياً لن تشجع الشفافية والدمقرطة بل ستزيد من حدة البقرطة والفساد في جهاز الدولة، وتعزز قدرة الشرائح ذات الإمتيازات على مصادرة سلطة البروليتاريا السياسية. من غير الممكن حل كل هذه المشاكل عن طريق خطط جاهزة وصيغ تبسيطية. إن الإشتراكيين الثوريين يتناولونها بذهنية منفتحة غير دوغمائية، مستوعبين التجارب العملية ومكيفين مواقفهم بشكل تدريجي مع هذه التجارب، ويلجأون إلى حوار مستمر مع التيارات التقدمية الأخرى والقطاعات الأكثر كفاحية من الجماهير. إن بناء الإشتراكية يتطلب زمناً طويلاً. إنه مختبر تاريخي فعلي لا تقود إليه طريق سهلة مرسومة سلفاً، وليس هناك من عصمة بابوية تكفل عدم الوقوع في الأخطاء. إن الأخطاء أمر حتمي. إن قدرة الجماهير على تصحيح الأخطاء عبر الديمقراطية الإشتراكية الأوسع وعزم الثوريين على التوفيق الدقيق بين ممارستهم ومبادئهم، إنما يشكلان الضمانة الرئيسية في أن تصحح هذه الأخطاء بسرعة وأن لا تشكل عقبة في وجه التقدم.
ثانيا: العقبات التي لابد من تخطيها:
7- أزمة الثقة بالمنظور الاشتراكي إن مقاومة المستغَلين والمضطهدين/المستغَلات والمضطهدات، لإساءات الرأسمالية والامبريالية والدكتاتوريات البيروقراطية ما تنفك تظهر. إلا أنها اليوم تنطبع بنتائج الأزمة العامة لمصداقية المشروع الاشتراكي وآفاقه، هذه الأزمة التي ما برحت تشتد منذ عقد على الأقل. أزمة الثقة هذه تتعزز بشكل أساسي، سواء لدى الجماهير أو لدى طليعتها، بوعي السقوط العملي الموازي لكل من الستالينية والتدرجية الاشتراكية-الديمقراطية والنزعة القومية الشعبوية في "العالم الثالث". وينتج من ذلك أنه لم يعد هناك في وعي الجماهير "نموذج للمجتمع" ذو طابع كلي يشكل بديلاً من الرأسمالية. وهذا الأمر يلقي الشك ليس فقط على الإحالات الى ثورة أوكتوبر في الوعي الجماهيري بل أيضاً على الإحالة إلى الأمل الذي لاح قبل عام 1914 وبعده بتحقيق مجتمع لارأسمالي من دون طبقات عن طريق تراكم النجاحات الانتخابية والإصلاحات المتتابعة. ومنذ ذلك الحين بدأت النضالات العمالية، في قسم كبير منها، تتعرض للتشذر والتجزئة. وغالباً ما يشارك العمال/العاملات في هذه النضالات باعتبارهم مواطنين لا بل أفراداً من دون أن ينظروا إلى انفسهم كجزء من الحركة العمالية. هذا وإن النساء لم يتماهين يوماً بقوة مع المنظمات العمالية التقليدية لأن هذه المنظمات تجاهلت المسائل الخصوصية للنساء، خلال عقود من الزمن، واتخذت قياداتها ذات الهيمنة الذكورية قرارات أبوية واستحقارية بشكل دائم تقريباً. لهذا السبب فإن النساء المنخرطات اليوم في النضالات أقل عرضة للإحباط بسبب أزمة الثقة هذه. وتلك هي أيضاً حال الأجيال الجديدة، مقارنة بالقديمة. وبالتأكيد ليست أزمة الثقة بالأفق الاشتراكي أزمة شاملة، إنها تمس بشكل خاص البلدان التي تشهد حركة عمالية تقليدية جماهيرية، حيث ذاقت هذه الجماهير خيبات كبرى في العقود الماضية. لكنها تمس بشكل أخفَّ البلدان التي فيها حركة عمالية يافعة نسبياً لا تثقل كاهلها تشويهات الماضي: البرازيل، أفريقيا الجنوبية، كوريا الجنوبية. وهي أقل حدة في جنوب آسيا. على أن هذه الآثار المضعِفَة إلى هذا الحد أو ذاك، تشمل كل الأقطار وإن بنسب متفاوتة. ولمعرفة السبب في ذلك ينبغي أخذ أمرين أساسيين بعين الاعتبار. فمن جهة، وانطلاقاً من بداية الثمانينات بدأت الجماهير تعي الجرائم الحديثة للستالينية (قمع حركة "تضامن"، جرائم نظام بول بوت في كمبوديا، غزو أفغانستان، قمع ساحة تيان آن مين... إلخ)؛ وفي الفترة ذاتها تصاعدت النزعة الاستسلامية المشينة للاشتراكية-الديمقراطية الحاكمة (فرنسا، الدولة الاسبانية، البرتغال، اليونان، السويد، فنلندا، هولندا، سان دومينيك، فنزويلا، استراليا، زيلاندا الجديدة... الخ) أمام سياسة التقشف وتخفيض الأجور المباشرة وغير المباشرة. ضمن هذه الشروط، فإن التشبث – النسبي على أي حال – بهذه الأحزاب التقليدية كان يترافق مع فقدان تدريجي للأمل في اعتبارها وسائل نضالية من أجل مجتمع اشتراكي. لقد اتخذ الأمر بشكل جوهري صيغة خيار أقل الشرور، الخاضعة في كل حال لتقبات انتخابية أكثر فأكثر اتساعاً. لكن من جهة أخرى، فإن الجماهير نفسها لم تقم في العقد الأخير بخوض نضالات إجمالية ذات دينامية واضحة مناهضة للرأسمالية، وذلك مقارنة مع سنوات الستينات والسبعينات. ومنذ الثورة النيكاراغوية عام 1979 لم تنتصر أي ثورة أخرى. ولم تشهد البلدان الإمبريالية إضراباً عاماً طويلاً أو انفجاراً ثورياً وذلك منذ الثورة البرتغالية. ولم تشهد أوروبا الشرقية صعوداً جماهيرياً عاماً ضد الديكتاتورية البيروقراطية بزخم انفجار "التضامن" في 1980-1981. وهكذا فإن شكوكية الجماهير حيال "نموذج كلي للمجتمع" لا تعود فقط الى إفلاس الأجهزة الستالينية والإصلاحية. إنها تعكس أيضاً تقديراً غريزياً لاختلال موازين القوى على المستوى العالمي لغير صالح البروليتاريا، وهو اختلال أكيد ولو أنه أقل حجماً مما يشيعه مختلف الأيديولوجيين. وهذا الإدراك يكبح بدوره انخراطاً اجتماعياً سياسياً كلياً من جانب هذه الجماهير ذاتها.
8- مجتمع الاستهلاك والتمليك الخاص إن الازدهار الاقتصادي الطويل بعد الحرب العالمية الثانية في المتروبولات (الحواضر الرأسمالية)، وانعكاساته الجزئية في البلدان التابعة ونصف الصناعية، اتسم بتوسع في استهلاك الخيرات طويلة الأمد من جانب الطبقات الوسطى والشرائح العليا من البروليتاريا. وفي الواقع فإن السكن والتجهيزات الكهربائية المنزلية والسيارة، التي غالباً ما تشترى بالتقسيط، أي من خلال انتفاخ عالمي على صعيد الاستدانة، كل هذا يفسر هذا "الازدهار" في جزء كبير منه. إن تبدل العادات والتقاليد الذي آل اليه "مجتمع الاستهلاك" يستتبع تمليكاً خاصاً وانكفاءً على الذات متنامياً على مستوى الأفراد. هذا وينبغي الامتناع عن الإدانة الشاملة لهذا التطور الاستهلاكي لدى قطاعات من الجماهير الشعبية، فأهميته التحريرية، لا سيما بالنسبة إلى النساء، اللواتي كن حتى وقت قريب حبيسات أعمال منزلية مرهقة، هذه الأهمية لا تقبل الجدال. إن الفكرة القائلة بأن أي اكتساب للرفاهية، مهما كانت ضئيلة هو علامة على التبرجز هي فكرة رجعية في الأساس. إن الاشتراكيين ليسوا قط دعاة الزهد والتنسك. وليس قدر الرجال والنساء أن ينتجوا خبزهم بعرق جبينهم. إن إعادة إنتاج هذه الخرافة لدى بعض التيارات البيئوية الراديكالية ليس له ما يبرره. فليس صحيحاً أن الموارد شحيحة بحيث لا تكفي لسد الحد الأدنى من حاجات الترف لدى السكان على الكوكب الأرضي. وإن الأمر لا يتطلب أكثر من القيام بتخطيط عقلاني لاستخدام الموارد والكف عن انتاج المواد المؤذية، بدءاً بالأسلحة ووقف كل أشكال التبذير الكبرى وإعطاء الأولوية لحفز أبحاث مكرسة للمنتجات الجديدة بما يتفق مع المتطلبات البيئية وإنتاج منتوجات بديلة للموارد الطبيعية النادرة. إن الفكرة القائلة بضرورة التضحية الواعية بمصالح الأجيال الحاضرة بحجة عدم تعريض الأجيال القادمة للخطر هي فكرة غير انسانية. إلا أن الآثار الإيجابية لتطور الاستهلاك لدى قطاعات شعبية محددة إنما تنطوي على ظواهر سلبية تضع عقبات جديدة في وجه التحرر. إن إشراف رأس المال على إنتاج المواد الاستهلاكية الدائمة يؤدي إلى الازدياد الكبير في التبذير والاستخدام اللاعقلاني للثروات. ويتم حفز الاستهلاك الفردي بشكل منهجي على حساب الاستهلاك الجماعي (استهلاك الخدمات الاجتماعية). هذا ويتم إنتاج المواد بنوعية سيئة أكثر فأكثر لكي يتسنى استبدالها بشكل مستمر، ويجري حفز "حاجات" اصطناعية. وأمام هذا العرض لـ"المنتوجات الجديدة" يجري تشجيع حمَّى الاستهلاك المفرط. ويتم التلاعب بالحاجات عن طريق الدعاية الشاملة، الأمر الذي نزع القناع عن أسطورة "حرية المستهلك". إن "الرأسمالية المتأخرة" بحاجة إلى مناخ دائم من الحاجات غير المشبعة يخلق إحباطاً معمماً. وفضلاً عن ذلك، فإن التخصيص المتزايد للاستهلاك يجرد الأفراد من الأنسجة الأولية للعلاقات البشرية. إن شعار "كل لنفسه"، الذي يشكل مصدراً لاختلال التوازن والأزمات واللاعقلانية المتزايدة في ميدان الانتاج والتشغيل وتوزيع المداخيل، هذا الشعار يمد مساوئه إلى ميادين الاستهلاك وأوقات الفراغ. إن التمليك الخاص الذي ما ينفك يُضيق من نطاق المخاطبة الشفوية والحياة المشتركة ويُجرِّد الكائن الانساني من العاطفة والحنان اللذين ينجمان عن المجموعات الصغيرة والكبيرة بوصفها مراكز حياتية، يدفع الرجل والمرأة إلى أعماق العزلة والتهكم. وتعد هذه الأمور عقبات جديّة وجديدة على طريق اكتساب الوعي الاشتراكي والكفاح من أجل مجتمع أفضل نوعية. ليست هذه العقبات قاهرةً، ولكنها فعلية وينبغي البحث عن استراتيجيات ملموسة للتغلب عليها. وفي بلدان "العالم الثالث" يظهر التوق الى "مجتمع الاستهلاك" في الأوساط المدينية بشكل خاص، ليس بسبب ارتفاع المداخيل – ماخلا فئة قليلة من السكان – بل لانتشار "النمط الاستهلاكي" السائد في الحواضر الامبريالية، عن طريق وسائل الإعلام (الإذاعة والتلفزيون). أما في الوسط الريفي فإن هذه الظاهرة أقل تعميماً.
إن النزوع نحو التمليك الخاص والانحدار البليغ لأنماط التفكير والعمل الجماعي الذي يرافقه، قد أديا بالشكل الأكثر شؤماً إلى انحطاط "الثقافة المضادة" العمالية في البلدان الأكثر تصنيعاً. إن الأيديولوجية السائدة في كل مجتمع طبقي هي ايديولوجية الطبقة السائدة. ومن الوهم الأمل بأن البروليتيريا تستطيع وهي مجردة من الموارد المادية الكافية، أن تتغلب عليها في المجتمع البرجوازي. ولكن عندما نقول "ايدولوجية مهيمنة" فهذا لا يعني "ايديولوجية وحيدة". ففي قلب العالم الرأسمالي تعيش جنباً الى جنب الايديولوجية الرأسمالية المهيمنة، مع ايديولوجية الطبقات
إنّ الحل الجذري للأزمة العالمية يمر عبر إعادة النظر في الاقتصاد المعمم للسوق والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتبادل، والإنتاج الموجَّه نحو الربح، وسيادة الدول القومية وهيمنة البيروقراطية على منظومات الحماية الإجتماعية. وهذا الحل يندرج في منظور اتحاد فيدرالي اشتراكي ديمقراطي تعددي ومسيَّر ذاتيا. إن الطاقة التي يخزنها الذكاء والسخاء البشريان لن تتفتح وتزدهر إلا في ظل نظام اشتراكي وديمقراطي حقيقي، حيث سيكون العلم والتكنولوجيا في خدمة الرجال والنساء وخاضعين لرقابة عامة ونقدية. سوف تكون الثقافة والتعليم لأول مرة متاحين للجميع. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى انطلاق الابداع الثقافي وتحرير المخزون الهائل للطاقات التي مازالت غير مكتشفة. وسوف يساهم التطور العلمي في تحرير الرجل والمرأة من عبء العمل الجزئي، والمكرر، والآلي، والرتيب، والمنهِك جسديا ونفسيا. ولكن الأمر سيتطلب تطبيقا مبدعا وإنساني، الأمر الذي لا يمكن تصوره من دون سلوك جماعي مسؤول من قبل المنتجين\المنتجات المتشاركين\المتشاركات بشكل حر، وتسيير ذاتي مخطط ومعمم. إن تحفيزا مختلفا للمسلك الاقتصادي يمكن أن يَنتـُج شيئا فشيئا من مصلحة الجميع في التخفيض المستمر للعمل الآلي المكرر الذي يعيشه غالبية المنتجين بوصفه عملا قسريا. وإن قيام شكل جديد للمواطنة، مقيما لأول مرة إشراف المجتمع على جهاز دولاني وإداري مقدر له أن يضمحل، يتطلب تخفيضا جذريا ليوم العمل. إن يوم عمل من 4 ساعات سوف يزيل عمليا الحاجة إلى بيروقراطية مهنية وسيسمح للعمال بإدارة المجتمع بأنفسهم. ومن دون ذلك فإن التسيير الذاتي مجرد حلم. إنه سيترك أثرا قويا في العالم بأجمعه. هذا الإجراء الريادي للثورة الإشتراكية في كل بلد مصنـَّع نسبيا ليس وهما. إنه يمتلك مقومات ذاتية وموضوعية قوية. إن جهات محافظة ترى أن 50% على الأقل من الطاقة الإنتاجية العالمية لا يستخدم أو أنه يستخدم لغايات تدميرية (إنتاج الأسلحة) ومؤذية. إن الاستخدام العقلاني لهذه الموارد الموجودة من قبل لغايات انتاجية ومفيدة وبما يحافظ على مقومات البيئة، سيمكّن من السير نحو إلغاء البؤس والتخلف في "العالم الثالث" من دون الاضطرار إلى تخفيض مستوى حياة العمال في أي بلد. لا بل سوف يتم تطويره نوعيا في كل مكان، بما في ذلك البلدان المصنـَّعة المتقدمة. وباستخدام كل الموارد البشرية المتوفرة، يكون هذا الهدف متلائما تماما مع تخفيض جذري لوقت العمل على المستوى العالمي، بحيث يُعطى هكذا الوقت الضروري لديمقراطية فاعلة كليا وقائمة على مشاركة الجميع. إن أقليات مهمة بدأت توّاً في التشكيك بـ"أخلاقية العمل" ومراكمة الخيرات المادية باعتبارهما هدفا أقصى للحياة الاجتماعية. وبالنسبة للملايين من العمال فإن العمل أقل للعيش بطريقة نوعية أخرى له الأولوية على العمل أكثر من أجل المزيد من الاستهلاك، وبالنسبة إلى الملايين من الرجال والنساء الذين يكتسبون الوعي بالأخطار الإيكولوجية، فإن نوعية الحياة وحماية البيئة واحترام طبيعة نحسّ بالإهتمام به، والفوز بالكرامة الإنسانية، إن ذلك أهم من التراكم غير المحدود للخيرات المادية. إن الهدف الكلي الذي نسعى إليه هو التحرير المعمم أكثر فأكثر للرجال والنساء من كل أشكال الاستغلال والاضطهاد والاستلاب والتمييز التي تثقل كاهلهم. إن الاشتراكية ستكون تعددية، متعددة الحزب، مدارة ذاتيا، تلغي العمل المأجور، وتكون مناصرة للبيئة والنساء وأممية وسلمية ومتعددة الثقافة، وإلا فهي لن تكون. وهذا يقتضي قبل كل شيء تحقيق كل متطلبات الديمقراطية الاشتراكية الأوسع وأن يتوقف انتخاب الحكومات وتبديلها على القرارات الحرة الحقيقية – مع الاختيار إذاً بين احتمالات معتددة – عن طريق الاقتراع العام.
12- البروليتاريا وحدها تستطيع أن تبني مجتمعا من دون طبقات إن الرجال والنساء المأجورين، أي كل أولئك المجبرين اقتصاديا على بيع قوة عملهم، يمثلون القوة الاجتماعية الوحيدة القادرة على شل المجتمع الرأسمالي وقلبه، وبناء مجتمع قائم على التعاون والتضامن من جانب الغالبية العظمى للسكان. ولهذا السبب بالذات تشكّل الطبقة العاملة المعرفة على هذا النحو العمود الفقري لاتحاد جميع المضـطـَهدين\المضـطـَهدات والمستـغـَلين\المستغـَلات في الصراع من أجل الاشتراكية. صحيح أنه في البلدان المصنعة قديما بات دور المأجورين/المأجورات العاملين في الصناعة المانيفاكتورية الكبيرة وفي المناجم يتضاءل مقارنة مع دور العاملين في ما يسمى بقطاع الخدمات. ولكن ينبغي ألا نعمم بطريقة تعسفية ثقل هذه التحويلات الموضوعية ونتائجها والآثار الذاتية التي تتمخض عنها وسط العمال\العاملات. وإذا كانت معاقل عمالية تقليدية في صناعة السيارات والحديد والصناعات الميكانيكية قد ضعفت فهي لم تختف على أي حال. وإذا كان هناك انتقال جماعي نحو قطاع الخدمات فإن الكثير من هذه الخدمات تمثل في الواقع قطاعات صناعية (النقل، الاتصالات غير السلكية) وساهمت فضلا عن ذلك في انبثاق تجمعات جديدة مهمة من المأجورين. إن التصنيع ومكننة العمل يخترقان القطاعات التي كانت في ما مضى أقل كفاحية مثل الوظائف العامة والبنوك، والتي باتت قادرة اليوم على شل الاقتصاد الرأسمالي بفعالية أكثر مما كانت عليه المعاقل العمالية في السابق. إن البروليتاريا العالمية الأكثر عددا والأفضل تأهيلا مما كانت عليه في أي زمن مضى، يبلغ تعدادها اليوم أكثر من مليار إنسان. وإن المنحى المهيمن هو توسع العمل المأجور وليس تقلصه في العالم بما في ذلك في البلدان الأكثر تطورا. وليس هذا التنامي بالطبع متجانسا في جميع البلدان وفي جميع المناطق والقطاعات والفروع الصناعية. فالنمو في هذا البلد أو القطاع يرافقه انحدار نسبي في جهة أخرى. ولكن حاصل هذه الحركات يمضي في اتحاه تطور طبقة المأجورين وليس انحدارها ومن أجل مساعدة البروليتاريا لكي تكسب تدريجا التجربة والوعي المطلوبين لخوض كفاح مظفر ضد الرأسمالية في لحظات حاسمة من الأزمة ما قبل اثورية والثورية، فإن المسعى العام يبقى ذلك الذي يمثله البرنامج الانتقالي: الانطلاق من الهموم المباشرة للجماهير لتوجيهها عبر التجربة الخاصة لنضال هذه الجماهير نفسه، نحو إطاحة الرأسمالية. إن الأمر يتطلب اليوم مطالب من مثل إشراف العامل\المستخدَم على الانتاج، والإزالة النهائية للميزانية الحربية، والتملك الجماعي للبنوك والمنشآت الكبيرة، والضريبة المصادرة للملكية على الثروات الأهم. هذا ولا تزال سياسة الجبهة الموحّدة العمالية مناسبة ولا سيما لأجل الرد على الاعتداءات التي تطول الحريات الديمقراطية وتصاعد اليمين المتطرف.. إلخ. إن المطالب الانتقالية النوعية الخاصة يجب أن تنطلق دوما من الهموم اليومية الحقيقية للجماهير من أجل أن تدرك من تلقاء ذاتها ضرورة النضال لقلب الرأسمالية والظفر بالسلطة. إن تنافر البروليتاريا قائم منذ الأصول الأولى للعمل المأجور. وهذا يترافق مع انقسامات ناجمة عن تجزئة سوق العمل. هذا وإن التطور غير المتساوي والمركب للقوى الانتاجية، ومخططات البرجوازية ودولها، قد تضافرت معا دوما من أجل الإبقاء على ذلك التنافر وتعزيزه. وهو يعبّر بدرجات مختلفة عن الاختلافات في شروط العيش والمداخيل لدى العمال\العاملات من الأصول المختلفة الإثنية و"العرقية"، وبين الشباب والشيوخ، والرجال والنساء، والعاملين والعاطلين عن العمل و "المقيمين في الوطن" والمهاجرين، وذوي الخبرة وعديمي الخبرة، والعمال اليدويين والعمال الذهنيين، في كل أصقاع الأرض. إن الأزمة تعمل على تعميق الاختلافات واللامساواة. وإن انتشار البطالة في صفوف الشباب في العديد من البلدان يؤدي إلى ظهور شريحة اجتماعية لم يحدث قط أن مارست العمل، وهي ما تنفك تتهمش، وهي تشكل، إلى جانب العمال المهاجرين والنساء المنبوذات من سوق العمل والمحرومين من كل صنف، شريحة ما تحت بروليتارية بعيدة عن تقاليد التضامن العمالي. إن رسم ما يسمى بالمجتمع الثنائي، أو الأكثر تجزؤا في البلدان المصنعة، مع قطاع غير محمي من البروليتاريا تعيش في ظروف حياتية قاسية شبيهة بتلك التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر في المتروبولات أو بما هو سائد الآن في "العالم الثالث"، إنما يتطابق مع مشروع واع لدى رأس المال يرمي إلى الغضعاف المستمر للحركة العمالية. وإن مواجهة ذلك بمطلب امتصاص البطالة عن طريق الخفض الجذري لوقت العمل من دون خفض الأجور أو تسريع الوتائر، هي إذا مهمة مركزية للحركة العمالية. إلا أن إضفاء الطابع العالمي على القوى الانتاجية، وظهور المجتمعات متعددة القومية، والثورة التكنولوجية الثالثة، من شأنها على المدى الطويل، أن تعمل في اتجاه التلاقي التدريجي للمطالب وللترابط في ما بين النضالات والتنظيمات في شتى البلدان. إن البروليتاريا تشمل جمهور المأجورين الزراعيين الذين يشكلون مئات الملايين في العالم. وقد استطاع الوزن الاجتماعي الذي يشكلونه أن ينحدر بالنسبة إلى العدد الإجمالي للسكان العاملين، في الوقت نفسه الذي استمر فيه يتزايد في بلدان معينة مثل الهند وأندونيسيا والبرازيل ومصر والبكاستان والمكسيك. علاوة على ذلك، فإن حدّا رقيقا يفصل ويوحّد في آن معا بروليتاريا المدن وأصناف البروليتاريا الريفية (الفلاحين المستقلين الذين يملكون القليل من الأراضي بما يكفيهم بالكاد لإعالة أنفسهم طوال السنة، وهم مضطرون، لهذا، إلى اللجوء إلى العمل المأجور المؤقت). إن الطاقة التعبوية الكامنة لدى هذه الطبقات والشرائح الاجتماعية سبق أن عبّرت عن نفسها في حركات صاخبة لاحتلال الأراضي، بل لاستثمارها في الانتاج. وهي ستصبح جزءا لا يتجزأ من الثورة الاشتراكية في البلدان المعنية. وفي الوقت نفسه، فإن الكتلة المهمة لأنصاف البروليتاريا المهمشة في مدن "العالم الثالث" إنما تمثل إحدى القوى الأكثر قابلية للإنفجار والقطيعة مع النظام الاجتماعي. وفي مقدورها أن تقوم مقام العملاء أو الكتلة الخام لمناورات القوى الشعبوية الرجعية. ولكن ما أن تتولى المنظمات العمالية الدفاع المنهجي عن هؤلاء المحرومين، وتأخذ مصالحهم على عاتقها، وتحفظ تنظيمهم المستقل وتساعد عليه، فإن الكفاح من أجل "الإصلاح المديني" من شأنه أن يتحول، إلى جانب الكفاح من أجل الإصلاح الزراعي إلى إحدى القوى المحركة للثورة الدائمة في البلدان المتخلفة. في العديد من البلدان الرأسمالية الأساسية، ولاسيما في الولايات المتحدة والهند والمكسيك والأرجنتين ومصر وإيران، لم تحصل البروليتاريا على استقلالها السياسي كطبقة. بل هي لا زالت في غالبيتها العظمى تحت القيادة السياسية لقوى شعبوية، بل برجوازية تقليدية. في تلك البلدان يبقى النضال من أجل هذا الاستقلال السياسي المهمة الأساسية.
13- البروليتاريا، وحلفاؤها و"الحركات الاجتماعية الجديدة" إن طبقة الفلاحين الكادحين في بلدان "العالم الثالث" التي، رغم التضاؤل التدريجي لنسبتها العددية، مازالت تعد أكثر من مليار شخص، هي الحليف الأهم للبروليتاريا في نضالها ضد حكم رأس المال. وهي مهيأة للتحرك، جنبا إلى جانب قسم من السكان المهمشين في المدن وجزء من البرجوازية الصغيرة، من أجل أهداف معادية للإمبريالية. هي جزء أساسي إن لم نقل أولوي من مهام التحرر في هذه البلدان. وقد شهدت العقود الأخيرة تطوّر حركات اجتماعية من مثل الحركات النسوية، والبيئوية والداعية للسلم والمعادية للعنصرية والداعية لحرية المثليين جنسيا، على هامش الحركة العمالية، بل أحيانا في تناقض معها. وهذه الحراكت تستجيب لتناقضات جديدة أو فاقمتها نتائج الأزمة، سواء في المجتمعات الرأسمالية أو في تلك الراضخة للهيمنة البيروقراطية. إنها تعكس وعيا أعمق وأوسع لأوجه الاضطهاد المتعددة، وهي نجحت في رفد النضال بقطاعات شعبية واسعة. يجب على الطبقة العاملة والحركة العمالية المنظمة الاضطلاع الكامل بهذا النضال. وإذا كان هذا الأمر لم يتحقق حتى الآن، وإذا كانت هذه الحركات، من جرّاء ذلك، قد رسّخت مواقعها بطريقة مستقلة ذاتيا إلى حد كبير، فإن المسؤولية تقع قبل كل شيء على عاتق القيادات التقليدية للحركة العمالية، وإلى حد أقل على ضعف اليسار الثوري وتأخره في التدخل في الأمر. وإذ نشارك بفعالية في هذه الحركات، ونعي طاقاتها المناهضة للرأسمالية، نناضل من أجل حلف استراتيجي مع النضالات العمالية والحركة العمالية. وفي الوقت نفسه نحترم الاستقلال الذاتي المشروع لهذه الحركات الاجتماعية التي لا يمكن دمجها ببساطة في الحركة العمالية بما هي كذلك. إن البروليتاريا، المتحالفة مع الفلاحين الفقراء، هي القوة الوحيدة القادرة على وضع الأسس لمجتمع جديد قائم على الحرية والتضامن العالميين. مع هذا، فإنه بالرغم من أن البرجوازية هي أكثر تنظيما على المستوى العالمي مما كانت عليه في القرن الماضي، لم تعد هناك أممية عمالية جماهيرية. ويمكن التغلب على هذا الجانب من أزمة القيادة السياسية البروليترية بفضل ظهور أجيال مناضلة جديدة واستيعاب تجارب الأمس ومراكمة انتصارات جديدة كفيلة بتجديد الثقة وإقامة حوار طال انقطاعه بين الطبقات العمالية في البلدان الرأسمالية ومجتمعات الشرق، وإعادة تنظيم في العمق للحركة الجماهيرية ولطليعتها السياسية.
الحركة النسائية هي جواب عن أقدم اضطهاد عرفته البشرية وهي تدافع عن مصالح أكثر من نصف البشرية، وتشكّل بعدا جوهريا لكل نضال يسعى إلى تحرير الإنسان. تشكّل النساء 53% من سكان العالم. وإذا أخذنا في الاعتبار العمل المنزلي إلى جانب العمل مدفوع الأجر، فإنهن يشتغلن غالبية ساعات العمل المبذولة على المستوى العالمي. وبالمقابل، فإن العمل النسائي، حين يكون مدفوع الأجر، يكون أجره بخسا جدا مقارنة مع عمل الرجال. إن النساء عموما هن خارج مسؤوليات السلطة والقرار، وهن يحتفظن بوضع تابع، ولا يملكن السيطرة على وضعهن الخاص. وعلى النساء تقع مسؤولية الاهتمام بالأطفال، وتحقيق استمرارية الجنس البشري. وهن يقمن بهذا الأمر من دون الوسائل والبنى التحتية الضرورية وفي غالب الأوقات من دون المشاركة الجوهرية للرجال. هذا الوضع يدفع بهن إلى وضع هش جدا اقتصاديا واجتماعية،. يكنَّ فيه عرضة للإذلال ولما يتهدد صحتهن وللعنف والاعتداءات الجنسية. وبالرغم من أن وضعهن يختلف من بلد إلى آخر- وأن تطورا ملحوظا قد طرأ على مستوى منع الحمل وحق الإجهاض، جنبا إلى جنب مع ارتفاع في الاستخدام المأجور في البلدان الأكثر تطورا - فإن النساء هن دائما ضحايا لاستغلال اقتصادي مفرط، ولتبعية اجتماعية وسياسية في العالم أجمع، وهن من تصيبهن جميع الكوارث: القحط، والبؤس، والحروب، وإجراءات التقشف الاقتصادي والركود والبطالة. وهن يشكلن القطاع الأكثر هشاشة من الجماهير العاملة. ومع الأطفال فإنهن يشكلن 85% من عشرات اللاجئين اليوم على مستوى الكوكب. لهذا، فإن النضال ضد اضطهاد النساء يشكل بعدا أساسيا من أبعاد النضال من أجل التحرر الاجتماعي في مجموعه. ولا يتعلق الأمر فقط بمسألة مطالب ديمقراطية أو حقوق مدنية، رغم الأهمية التي ينطوي عليها هذا البعد. إن القضاء على اضطهاد النساء هو أمر ضروري لكل النضال المظفر من أجل مجتمع أفضل. وذلك يستتبع الحق المطلق للنساء في التحكم بأجسادهن، والتداول الحر لوسائل منع الحمل، وحق الإجهاض الحر، والمساواة الكاملة في سياق العمل، كما في التكوين المهني، وفي مسائل الأجور والحرية الجنسية، وإمكانية العيش من دون تجاوزات جنسية، أو اعمال عنف جنسي وذكوري، وإلغاء المسؤولية الحصرية للنساء في العمل المنزلي، وحق التمتع بالدعم المادي المناسب من أجل الولادة وتربية الأولاد. إننا ندعم ونشجع دون قيد نضال النساء وتنظيمهن الذاتي سعيا وراء إنهاء تبعيتهن. ونعترف من دون تحفظ بحق النساء في أن يأخذن مصيرهن بأيديهن. وهذا النضال جزء لا يتجزأ من النضال من أجل الاشتراكية. لا حرية للنساء من دون الاشتراكية، أي من دون إلغاء الملكية الخاصة سواء الرأسمالية أو البطريركية. ولا اشتراكية حقيقية من دون تحرر المرأة فطالما بقي نصف البشرية يضطهد بالعنف الآخر، فإن النصفين سوف يظلان محرومين من الحرية. إن الثوريين، نساءً ورجالاً، يناضلون من أجل تأنيث الهيئات الاجتماعية بما فيها تنظيماتهم الخاصة بهم والحركة العمالية نفسها وسائر تنظيماتها السياسية والنقابية.
15- من دون اشتراكية ليس من نضالٍ فعّال لحماية البيئة كان ماركس وانجلز قد استشفّا المنحى التدميري للاقتصاد الرأسمالي في علاقته بالطبيعة. وفي أواخر أيام حياته طور انجلز رؤية شفافة للكلفة الباهظة التي تخاطر البشرية بدفعها للهيمنة الميكانيكية على القوى الطبيعية، ولكن بذور الوعي البيئوي لم تحظ بالاهتمام والتطوير من قبل الحركة العمالية المنظمة ولا من قبل المنظرين الماركسيين من بعد إنجلز. بالعكس، فهذه الحركة العمالية، بما في ذلك جناحها الثوري، انجرفت مع مفهوم عن الاشتراكية، كان يطرح جانبا الأكلاف البيئوية لنموذجه الاقتصادي. لذا فإن اشتراكيي اليوم مدينون حقا للبيئويين المعاصرين. بما في ذكل الأحزاب الخضراء، الذين تناولوا وطوروا الوعي البيئوي لاشتراكيي القرن التاسع عشر: إن مراجعة العقيدة الاشتراكية في هذا الاتجاه إنما هي عمل من أعمال النقد الذاتي والمسؤولية الحتمية. ولكن من المحتم أيضا الاشارة إلى الانحراف التدرجي والإصلاحي الجديد للأحزاب الخضراء، الذي ينبع كما هو الحال عند الاشتراكيين-الديمقراطيين والأحزاب الشيوعية الستالينية في المتروبولات، من انعطافهم نحو "السياسة الواقعية"، ومن مشاركتهم في الإدارة اليومية للدول البرجوازية والاقتصاد الرأسمالي. هذا الانحراف يجعلهم عاجزين أكثر فأكثر عن البقاء أوفياء لفعل إيمانهم البيئوي الأصلي، وعن استيعاب حقيقة أنه من دون إطاحة الحكم الرأسمالي ليس بالإمكان القيام بنضال جماعي فعّال ضد الأخطار التي تتهدد البيئة الطبيعية. من الواضح أن العقبة الرئيسية التي تعترض حل مثل هذه المشكلات لا تكمن في قلة المعارف العلمية بل في واقع أن التلوث ما زال أكثر ربحية من الخيارات الأخرى الأكثر بيئوية، وعلاوة على ذلك، فإن دور الإمبريالية بإبقائها شعوب "العالم الثالث" في البؤس وبالتالي في الحاجة إلى الحلول العاجلة للمشاكل الأولية من أجل البقاء وفي عدم القدرة على أخذ الأجيال المستقبلية بالاعتبار يساهم في خلق مشاكل من مثل تدمير الغابات الاستوائية، والإبادة غير القانونية للأجناس التي تواجه الخطر أو الممارسات الزراعية\الفلاحية التي تؤدي إلى التصحر. في مجتمع قائم على البحث عن الربح والركض وراء الاغتناء الخاص في ظل المنافسة والأنانية والسعي خلف "الفعالية" الاقتصادية على المدى السريع، يتم استعمال الموارد من دون الأخذ بالاعتبار النتائج طويلة الأمد لاستعمالها، وبالتالي آثارها على البيئة. سيكون هناك دوما مقاولون لن يتورعوا عن الاتفاف على كل إجراء قانوني في حقل البيئة لزيادة أرباحهم الخاصة. وكل تشريع يهدف إلى البحث عن سبيل لتخفيض التكاليف البيئوية للمنتوجات الحالية من خلال "تغريم مسببي التلوث" لن يعطي في أفضل الأحوال سوى نتائج جزئية. فبمقدار ما أن هؤلاء "المسببين للتلوث" شركات قوية فإنها ستنتقل وزن هذه التكاليف إلى كاهل المستهلكين. إن نضالا فعالا ضد هذا التلوث ودفاعا منهجيا عن البيئة وبحثا دائما عن المنتوجات البديلة للثروات الطبيعية النادرة واقتصادا صارما في استخدامها، تتطلب إذا أن تنتقل القرارات بالتوظيفات وخيارات التقنية الانتاجية من هيمنة المصالح الفردية إلى الجماعة التي تديرها ديمقراطيا. كما أنها تتطلب ألا تتدخل المصالح الفردية في هذه الخيارات والأولويات. ولذلك فإنها تتطلب قيام مجتمع لا طبقي. ولكن الأمر يتعلق بمجتمع اشتراكي حقيقي مدار ديمقراطيا وليس بمجرد إزالة الملكية الخاصة لوسائل الانتاج والتبادل الكبير أو، أكثر من ذلك، إقامة مجتمع ما بعد رأسمالي تحت الهيمنة البيروقراطية. إن تجربة الاتحاد السوفياتي السابق وما شابهها من البلدان تُظهر، بطريقة مأساوية، أن التعسف والقدرة الكلية والفوضى واللامسؤولية البيروقراطية يمكن أن تتسبب بكوارث بيئية شبيهة بتلك التي تسببها الرأسمالية. وينظر البعض إلى الانفجار الديموغرافي في "العالم الثالث" على أنه أحد الأسباب الرئيسية للأخطار التي تهدد البيئة. هذا التحليل القائم على استنتاجات متسرعة لهو أمر يدعو إلى الحذر. ففي الواقع، ليس الانفجار الديموغرافي ظاهرة دائمة بصورة حتمية، ولا هو مرتبط بقدرية إثنية "عرقية"، أو حتى "ثقافية". إنه مرتبط بالبؤس، وبغياب البنية التحتية الكفيلة بتحقيق الحماية الاجتماعية. وسيترتب على الأطفال أن يستبدلوا هذه البنية التحتية. كما هو مرتبط أيضا بالاضطهاد الذي يلحق بالنساء وبحالات الحمل المفروضة عليهن فرضا، والأمية والتربية الناقصة في مجال التخطيط العائلي، ناهيك عن عدم تمكنهن من الوصول بشكل كاف إلى وسائل منع الحمل. هذا، ويتحمل الجناح الأصولي في الكنائس، وبالأخص الفاتيكان، وليس وحده، مسؤولية خطيرة في هذا المجال. لن يكون هناك سيطرة عقلانية على النمو الديموغرافي من دون اشتراكية ومن دون سير حاسم على طيق تحرر النساء.
تشكل المسألة القومية إحدى المسائل الأكثر تفجرا في الوضع العالمي. وإضا تركنا جانبا المستعمرات الباقية (بورتوريكو، جزر الأنتيل، الكاناك ..) ، فإن بلدان "العالم الثالث" قد شهدت عملية "نزع استعمار" لم تؤد إلى سيادة وطنية حقيقية، بل هي بقيت تحت الهيمنة الإمبريالية بأشكال متعددة، سواء عبر الهيمنة السياسية-العسكرية المباشرة أو من خلال التبعية المالية، والتقنية والثقافية. وتحت عبء الديون تزداد تبعيتها نتيجة إجراءات التمليك الخاص ونزع التأميم، ولاسيما تلك التي يفرضها صندوق النقد الدولي (ص.ن.د.). وبحجة محاربة المخدرات فإن الإمبريالية تعمّق من جديد حضورها العسكري المباشر في أميركا اللاتينية وفي مقدورها أن تفعل ذلك في أماكن أخرى من العالم. وإن تحكم الشركات متعددة الجنسية والدول الإمبريالية بوسائل الإتصال السمعية- البصرية وإنتاج البرامج ونشرها عبر الأقمار الصناعية، هي وسيلة إضافية للتحكم الثقافي. وفضلا عن ذلك، فإن البتر الكولنيالي الجديد لدول "العالم الثالث"، والأصول الخاصة لنخبها القيادية، سواء النخب القومية أو تلك التي فرضتها الإمبريالية، قد عملت على ظهور أمم ممزقة وأقليات قومية وإثنية مضطهدة. وفي الحواضر الإمبريالية ذاتها، حيث امتدت عملية تشكّل الدول-الأمم على قرنين أو أكثر، تعيش قوميات مضطهدة (الشعوب الهندية، والسوداء، واللاتينية وغيرها في الولايات المتحدة؛ الكيبيكيون، والإيرلنديون والشعوب المضطهدة في إسبانيا.. إلخ.). وفي حالات معينة، فإن الإضطهاد يؤدي إلى ظهور حركات جماهيرية قوية للتحرر القومي. إن محاولات حل هذه المسائل من خلال الجمع بين إجراءات القمع الوحشي والإصلاحات السياسية المحدودة تصطدم بمقاومة الشعوب المعنية. وإن الفكرة التي تقول إن هذه القضايا ستلقى حلا في الإطار الذي تعيد ترتيبه الجماعة الأوروبية هي محض وهم. على العكس، فما هو واضح أن الاختلالات الاقتصادية والإجتماعية والمناطقية التي تمخضت عن القانون الموحد من شأنها أن تؤدي إلى انبثاق مطالب قومية، لم تحل أو جرى حلها بشكل سيّئ. إن الأزمة الحالية في الإتحاد السوفياتي السابق ويوغوسلافيا تنعكس أيضا في تفجر مطالب وحركات جماهيرية قومية. وهذا يعكس التناقض بين احترام الحقوق الديمقراطية القومية والدكتاتوري البيروقراطية والبوليسية التي تشكل الشوفينية عنصرا مكونا من عناصرها. إن الأشكال المحتفظ بها للقمع القومي كانت ولا تزال متنوعة جدا، وغالبا ما وجدت الطموحات المناهضة للبيروقراطية لدى الجماهير في المطالب القومية تعبيرا سياسيا شاملا يجمع إلى التطلعات اللغوية والثقافية والاقتصادية والبيئوية مطلب السيادة والاستقلال الوطنيين. إن الحلول السياسية الملموسة للمسألة القومية لايمكن أن تتحدد بطريقة عامة، بل فقط حالة فحالةً، وعلى أساس المبادئ. إن الثوريين الإشتراكيين هم أمميون قبل كل شيء. وهم يدافعون دائما عن المصالح المشتركة للعمال والعاملات من جميع القوميات من دون إخضاعها لمصالح خاصة. إنهم يناهضون العرقية ونزعة كره الأجانب والشوفينية والحقد والإزدراء والتمييز الإثني والقمع وكل أشكال العنف ضد مجموعة قومية أو "عرقية" أو إثنية، مهما كان الأصل الموضوعي أو الدافع الذاتي لذلك. إن نقطة الانطلاق لكل سياسة أممية حقة يجب أن تتم استنادا إلى التمييز الجذري بين قومية المضطهَدين وقومية المضطهـِدين، ومعارضة صارمة لهذه الأخيرة، والتضامن مع نضالات المضطهَدين. هذا الموقف يترجم عبر الدفاع غير المشروط عن حق تقرير المصير للأمم المضطهَدة، أي حقها في الاستقلال أو التنظيم ذاتيا في إطار فيدرالي أو كونفدرالي مع الأمم الأخرى، بطريقة حرّة وقابلة للتراجع بحرية. ولهذه الغاية يتحتم على العمال في الأمة السائدة أن يظهروا تضامنهم الكامل مع نضال الأمة المضطهَدة، ليس فقط لتعزيز هذا النضال بل أيضا لإضعاف دولة مضطهـِدهم الطبقي الخاص بهم. على أنه ينبغي إجراء تمييز بين الحركة الجماهيرية الداعية إلى حق تقرير المصير التي ندعمها من دون قيد أو شرط والنزعة القومية بوصفها إيديولوجيا وعقيدة سياسيتين، حتى ولو كانت في صفوف القوميات المضطهَدة. وعلى أرض الواقع، فإن النزعة القومية ذات الأصول البرجوازية والبرجوازية الصغيرة قد غذّت دائما انحرافا شوفينيا معاديا للديمقراطية بالنسبة إلى الشعوب الأخرى. والمبرر جاهز: توفير الأمن للدولة المستقلة حديثا، وصيانة الوحدة أو التجانس أو بقاء الأمة؛ الدفاع عن "حدودها الطبيعية" (التاريخية) أو استعادتها... إلخ. وهكذ، فإنّ هذا النوع من النزعة القومية سرعان ما يتحول بها إلى اضطهاد القوميات الأخرى، وتصبح غالبا توسعية بعد أن تحرز استقلال دولتها، كما يبين مثال يوغوسلافيا بشكل مأساوي. أكثر من هذا، يعارض الماركسيون الثوريون كل إيديولوجية قوموية، حتى ولو كانت للأمة المضطهَدة، قائمة على أساس الإيمان بالتعاون الطبقي والتضامن بين أرباب العمل في الأمة وبين المأجورين (أو بين البيروقراطيين والعمال) ضد "العدو الخارجي". إن هذا يتعارض مع حاجة التضامن الأممي بين جميع العمال والعاملات من دون اعتبار للون والقومية والجنس والدين. فقط في بلدان دمجت النضال من أجل الاستقلال الوطني مع النضال من أجل الاشتراكية – مثل كوبا ونيكاراغوا – أمكن تجنب مثل هذه الأخطار بطريقة حاسمة. والمثال الساطع لذلك هو الحومة الساندينية التي، بعد أن ارتكبت أخطاء فادحة في تعاملها مع السكان الهنود على الساحل الشرقي لنيكاراغوا، عرفت كيف تصحح سياستها وتسعى إلى إقامة علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والتضامن مع أولئك السكان، بالرغم من الظروف الخطيرة للحرب التي كان يشنها الكونترا. وهذا برهان ساطع على واقع أن شعار الاستقلال الوطني وتعبئة الجماهير حول هذه المسألة لا يتناقضان بالضرورة مع الأهداف والآفاق الوطنية. نحن نناضل من أجل عالم بدون حدود، ومن أجل إلغاء الإمتيازات من أي نوع تكون، ومن أجل دمج كل الأمم في ديمقراطية اشتراكية عالمية حيث تزدهر معا ثقافة عالمية مشتركة إلى جانب كل الثقافات القومية الخاصة. هذه الغاية الطَّموح لا تتطلب فقط إلغاء جميع الإمتيازات القومية واللغوية وكل أشكال الوصاية على الأمة الأضعف، بل أيضا تصحيح جميع الأخطاء المزمنة الناتجة من الاضطهاد القومي أو العنصري، من خلال "تمييز إيجابي" لصالح القوميات المضطهَدة. بذلك يمكن تحقيق مساواة كاملة بين جميع الأمم. إن النضال ضد الاضطهاد القومي يندرج هكذا في منظور الاشتراكية الديمقراطية. ينبغي على الطبقة العاملة والحركة العمالية أن تقودا النضال ضد الاضطهاد القومي، وأن لا تعتبرا نفسيهما خارج هذه القضية، بل أن تثبتا نفسيهما كطليعة للأمم و"الأعراق" المضطهَدة، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالتضامن الأممي مع نضالات العمال والعاملات بما في ذلك الأمة التي تمارس الاضطهاد.
منذ الستينات، ظهرت معارضة واسعة في البلدان الإمبريالية ضد إعادة التسلح والاعتداءات العسكرية التي تقوم بها برجوازيتها. وفي حالات مثل الجزائر وفييتنام لعبت هذه المعارضة دورا هاما لإجبار الإمبريالية على وقف المجزرة. نمت حركة قوية مناهضة للصواريخ في بلدان عديدة من أوروبا في الثمانينات مشكـّلة أوسع تعبئة للشباب في هذه البلدان. وقد كان هذا دافعا أيضا لتنظيم النساء بصفتهن تلك. وبالنسبة إلى الاشتراكيين الثوريين، كل عمل جماهيري يضع العقبات في طريق الاعتداءات أو التدخلات الإمبريالية في شؤون البلدان الأخرى، يشكل ظاهرة سياسية جديرة بالتأييد. إننا نتعاون بإخلاص مع جميع التيارات التي تعمل في هذا الاتجاه، مركّزين بشكل خاص على حق الأمم المعتدى عليها في تقرير المصير. نحن نعارض كل محاولة إمبريالية، بما في ذلك تلك التي تتم تحت غطاء الأمم المتحدة، لتقرير مصير بلدان في "العالم الثالث" أو أوروبا الشرقية، بالتعارض مع مبدأ حق تقرير المصير لكل قومية. إن الولايات المتحدة وأوروبا الرأسمالية أو اليابان لا تملك أي حق لتقرير مستقبل بلدان آسيا، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية، أو أوروبا الشرقية أو جزر المحيط الهادي. في الفترة الأخيرة ظهرت في صفوف الشبيبة في بلدان مختلفة في أوروبا، وكذلك في اليابان، حركة راديكالية مناهضة للجيش البرجوازي والخدمة العسكرية والتسلح بمختلف أشكاله. هذه الحركات تضرب جذور الدولة البرجوازية التي يشكل الجهاز العسكري أساسها الجوهري. وهي تهدد بصورةٍ كامنةٍ، المجمّعَ العسكري الصناعي، العمود الفقري الآخر للدولة البرجوازية. هذه الحركات تستحق إذا، هي الأخرى، دعما كاملا من جانب الإشتراكيين الثوريين.
18- إطلاق الكفاح الأممي من جديد إن عولمة القوى الإنتاجية عرفت في العقود الأخيرة تسارعا جديدا. فالشركات متعددة الجنسية، التي يهيمن أقل من 700 منها على السوق العالمية، تخرج أكثر فأكثر من هيمنة كل حكومة، بما في ذلك الحكومات الإمبريالية القوية. وهي تنقل من بلد إلى بلد استثماراتها ومراكزها الإنتاجية ومستودعاتها ومراكز توزيعه، تبعا لمقياس واحد هو البحث عن أقصى الربح. إن عولمة قوى الإنتاج، ورأس المال، والخدمات، وقسمة العمل تفضي إلى إضفاء الطابع الأممي بصورة متنامية على النضال الطبقي. إن الحركات العمالية التي أقامت الأمميات العمالية الأولى منذ أكثر من قرن كانت عرفت كيف تأخذ المبادرة في يديها. إن النزعة المحافظة والشوفينية لدى الأجهزة البيروقراطية قد أدتا إلى انكفاء إلى الوراء، وإلى التعاون مع أرباب العمل "القوميين"، وذلك بإدارة الظهر لاستراتيجية أممية فعّالة كفيلة بالرد على التروستات. وفي البلدان الإمبريالية، يمكن أن يرتدي هذا التراجع الأممي شكلا من الشوفينية الكلاسيكية: "الـ" ألمان أو "الـ" يابانيون أو "الـ" مكسيكيون، أو "الـ" أميركيون، المستغـِلون والمستـَغلون وقد اندمجوا، هم المسؤولون عن البطالة التي تستفحل "بيننا" ! كما أنها يمكن أن تأخذ شكل الانحياز
(*) كانت هناك فقرة في هذا النص
(الفقرة 15 الأصلية)، بعنوان النضال لأجل حقوق المثليين جنسياً، إلا
أننا برغم إدانتنا أي انتهاك لتلك الحقوق، حذفنا تلك الفقرة، لكون ذلك
النضال لم يقم بعد في مجتمعاتنا، ولم تنطرح للآن هذه المشكلة من جانب
المعنيين بها مباشرةً (الناشر). |