مقدمة الطبعة الأولى |
|||
هذا الكتاب مكرّس لبحث موضوع يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ الثورات الروسية الثلاث؛ غير أنه لا يقتصر على هذا فحسب. خلال السنوات الأخيرة، لعب هذا الموضوع دورا هاما في الصراع داخل الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفييتي، ومنه انتقل إلى الأممية الشيوعية، ولعب دورا حاسما في تطور الثورة الصينية وحدد سلسلة كاملة من القرارات البالغة الأهمية المتعلقة بالنضال الثوري في بلدان الشرق. هذا الموضوع يتعلق بنظرية الثورة الدائمة التي تمثل بالنسبة "للصف الثاني" من اللينينيين (زنوفييف(1) وستالين وبوخارين(2) وغيرهم) خطيئة "التروتسكية" الأصلية. أثير موضوع الثورة الدائمة مجددا عام 1924 بعد استراحة طويلة بحيث بدا مفاجئا للوهلة الأولى. فلم يكن ثمة من تبرير سياسي لاستمرار النقاش حوله: كان الأمر يتعلق بخلافات في الرأي ترجع إلى الماضي البعيد. ولكن كانت هنالك دوافع نفسية عديدة لإثارته. فالمجموعة التي تدعو نفسها "البلاشفة القدامى" التي فتحت المعركة ضدي قد تصدت لي بوصفها "التيارات البلشفية الأصلية" إلاّ أن عام 1917 كان يشكل عقبة كبرى أمامها. فمهما بلغت أهمية تاريخ الصراعات الإيديولوجية السابقة والتهيئة الثورية، فقد واجهت هذه الحقبة الأولى بمجموعاتها وأفرادها امتحانها الكبير الفاصل في ثورة أكتوبر. ولم يتمكن أي من أفراد "الصف الثاني"(3) من الصمود في وجه هذا الامتحان. فقد تبنوا جميعا، وبدون استثناء، مواقف اليسار الديموقراطي المبتذلة إبان ثورة فبراير عام 1917. ولم يرفع أي منهم شعار العمال من أجل استلام الحكم. واعتبروا الاتجاه نحو الثورة الإشتراكية ضربا من العبث، بل أسوأ من ذلك: نعتوه "بالتروتسكية". بهذه النفسية قاد هؤلاء الحزب إلى حين وصول لينين من الخارج ونشره "أطروحات أبريل" الشهيرة. فحاول كامنييف(4) الذي كان يخوض معركة مباشرة ضد لينين أن ينظم بشكل علني الجناح الديموقراطي داخل الحزب البلشفي. فانضم إليه زينوفييف الذي كان قد وصل مع لينين. بينما تنحى ستالين جانبا بسبب الورطة التي أوقعته فيها مواقفه الوطنية-الإجتماعية. وانتظر حتى ينسى الحزب مقالاته وخطبه البائسة في أسابيع مارس الحاسمة. ثم شرع في الانحياز تدريجيا إلى موقف لينين. إن كل هذا يدعونا إلى طرح السؤال التالي: ماذا تعلم قادة "البلاشفة-القدامى" هؤلاء من اللينينية إذا لم يسطع أي منهم أن يستفيد من تجارب الحزب النظرية والعملية في أحرج لحظة تاريخية وأكثرها امتلاء بالأعباء ؟ كان من الضروري صرف النظر عن هذا السؤال بأي ثمن والاستعاضة عنه بسؤال آخر. لهذا تقرر فتح النار على نظرية الثورة الدائمة. إلا أن خصومي لم يتوقعوا أنهم، بخلقهم محورا اصطناعيا للصراع، سوف يضطرون شاؤوا أم أبوا، أن يدوروا حول هذا المحور وأن يخلقوا بذلك مفهوما جديدا لهم. لقد وضعتُ نظرية الثورة الدائمة، بمعالمها الأساسية، قبل أحداث عام 1905 الحاسمة. كانت روسيا في ذلك الحين على عتبة ثورة برجوازية. وكنا نسمي أنفسنا في ذلك الوقت الاشتراكيين-الديموقراطيين. ولم يشك أي من أفراد قاعدة الحركة الاشتراكيين الديموقراطيين في أننا على أبواب ثورة برجوازية، ثورة تنتج عن التناقض بين قوى الإنتاج في المجتمع الرأسمالي وبين العلاقات الطبقية والإدارية المتهرئة، الموروثة عن عهود الرق والقرون الوسطى. وقد اضطررت في معرض صراعي ضد الشعبيين والفوضويين أن أكرس عددا لا بأس به من الخطب والمقالات لتحليل الطابع البرجوازي للثورة القادمة على أسس ماركسية. ومهما يكن من أمر، فتأكيد الطابع البرجوازي للثورة لا يجيب سلفا على السؤال: أي الطبقات ستنجز مهام الثورة الديموقراطية، وماذا ستكون العلاقة المتبادلة بين هذه الطبقات ؟ وقد بدأت المشكلات الستراتيجية الأساسية، انطلاقا من هذه النقطة. لقد انطلق بليخانوف وأكسلرود وزاسوليتش ومارتوف وجميع المنشفيك الروس من بعدهم من الفكرة القائلة بأن البرجوازية الليبرالية هي التي ستلعب الدور القيادي في الثورة البرجوازية لكونها المطالبة الشرعية بالحكم. ووفق هذا المنهج، اعتبروا أن دور حزب البروليتاريا هو دور الجناح اليساري في داخل الجبهة الديموقراطية. كان على الاشتراكيين-الديموقراطيين أن يدعموا البرجوازية الليبرالية ضد الرجعية وأن يدفعوا عن مصالح البروليتاريا ضد البرجوازية الليبرالية في آن واحد. وبكلمات أخرى، فقد اعتبر المنشفيك أن الثورة البرجوازية هي في الأساس عملية إصلاح ليبرالي- دستوري. أما لينين، فقد طرح المسألة على نحو مختلف. إن تحرير قوى الإنتاج من حواجز نظام الرق كان يعني بالنسبة إليه الحل الجذري للقضية الزراعية بالتصفية الكاملة للطبقة المالكة للأرض وبإعادة توزيع الأرض على أسس ثورية. فقد كان تحطيم الملكية مرتبطا ارتباطا وثيقا بهذه القضية. أما بالنسبة للقضية الزراعية، التي تمس المصالح الحيوية لغالبية السكان الساحقة وتشكل القضية الأساسية بين قضايا السوق العالمية، فقد تصدى لينين لها بشجاعة ثورية حقة. فما دامت البرجوازية الليبرالية، التي تناصب العامل العداء، ترتبط بالملكيات الزراعية الكبيرة بوشائج عديدة، يبقى تحرر الفلاحين الديموقراطي الحقيقي رهنا بتحقيق التعاون الثوري بين العمال والفلاحين. وكان لينين يعتبر أن انتصار ثورة هاتين الطبقتين ضد المجتمع القديم سوف يؤدي إلى قيام "ديكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية". إن هذه الصيغة ترد الآن في "الأممية الشيوعية" على شكل صيغة جامدة مفصولة عن التاريخ، دون أي محاولة لتحليل التجارب التاريخية الحيّة خلال ربع قرن الأخير. فكأننا لم نشهد ثورات عام 1905 وفبراير 1917 وأكتوبر 1917 وكأننا لم نشترك فيها. إن هذا التحليل التاريخي يكتسي أهمية متزايدة لأن التاريخ لم يعرف نظاما تحققت فيه "ديكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية". ففي عام 1905 كانت هذه الصيغة ما تزال بالنسبة للينين مجرد فرضية استراتيجية بحاجة إلى أن تؤكد صحتها مسيرة الصراع الطبقي ذاته. لذا اكتست صيغة "دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية" عن قصد، وإلى حد بعيد، طابع المعادلة الرياضية الجبرية. ولم يجب لينين سلفا على السؤال: ماذا سيكون نوع العلاقات السياسية بين طرفي الديكتاتورية الديموقراطية، أي العمال والفلاحون ؟ فهو لم يستبعد أن يمثل الفلاحون في الثورة حزب مستقل بالمعنى المزدوج للكلمة، أي أنه مستقل عن البرجوازية وعن البروليتاريا معا، وقادر في الوقت ذاته على تحقيق الثورة الديموقراطية بالتحالف مع حزب البروليتاريا الذي يناضل ضد البرجوازية الليبرالية. وقد ترك لينين المجال مفتوحا حتى لاحتمال أن يكون حزب الفلاحين هو الأغلبية في حكومة الديكتاتورية الديموقراطية كما سنرى عما قريب. منذ خريف عام 1902، أي منذ هربي الأول إلى الخارج، كنت تلميذا للينين في التأكيد على الأهمية الحاسمة للثورة الزراعية. فالقول بأن الثورة الزراعية وبالتالي الثورة الديموقراطية عامة لا يمكن أن تتحقق إلا بتوحيد قوى العمال والفلاحين في نضالهما المشترك ضد البرجوازية الليبرالية، إن هذا القول كان فوق أي شيء عندي، على عكس ما تقوله الأساطير التافهة التي ترددت في السنوات الأخيرة. إلاّ أني عارضت صيغة "ديكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية". لماذا ؟ لأني تبنيت نواقصها في كونها لم تجب على السؤال: أي طبقة ستمارس الدكتاتورية الفعلية ؟ وحاولت أن أبرهن على أن الفلاحين، بالرغم من أهميتهم الإجتماعية والثورية البالغة، لن يستطيعوا تكوين حزب مستقل بالفعل ولن يستطيعوا حصر السلطة الثورية بهذا الحزب. فمثلما ساعد الفلاحون، في الثورات الماضية منذ "الإصلاح الألماني" في القرن السادس عشر وحتى قبل ذلك، فصائل من برجوازية المدن وأمنوا انتصارها في حالات عديدة، كذلك يستطيع الفلاحون في ذروة نضالهم أن يقدموا مساعدات مشابهة للبروليتاريا للوصول إلى الحكم في ثورتنا البرجوازية المتأخرة. من هنا، خلصت إلى أن ثورتنا البرجوازية لن تنجز مهامها بشكل جذري إلا إذا استطاعت البروليتاريا، بدعم من ملايين الفلاحين، أن تحصر الديكتاتورية الثورية بين يديها. ماذا سيكون المضمون الإجتماعي لهذه الديكتاتورية ؟ يتوجب عليها في المكانة الأولى أن تحقق الثورة الزراعية إلى أبعد مداها وأن تعيد بناء الدولة على أساس ديموقراطية. وبكلمات أخرى، تصبح ديكتاتورية البروليتاريا أداة لإنجاز مهام الثورة البرجوازية المتأخرة تاريخيا. غير أن المسألة لا تقف عند هذا الحد. فالبروليتاريا عند استلامها الحكم ستجد نفسها مجبرة على أن تصطدم اصطداما عنيفا بعلاقات الملكية الفردية عامة، أي أنها ستجد نفسها مجبرة على السير في طريق الإجراءات الإشتراكية. وقد تساءل ستالين وريكوف(5) ومولوتوف(6) وأمثالهم عشرات المرات بين عام 1905 وعام 1917: "ولكن، هل تعتقد حقا أن روسيا ناضجة لقيام ثورة اشتراكية فيها ؟" وكنت أجيب دائما: كلا. إني لا أعتقد ذلك. ولكن الاقتصاد العالمي بمجمله والاقتصاد الأوروبي بالدرجة الأولى ناضجان النضج الكافي لقيام الثورة الاشتراكية. هل ان ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا ستؤدي إلى بناء الاشتراكية أم لا ؟ وبأية سرعة سيتم هذا البناء ؟ بأية مراحل سوف يمر ؟ كلها أسئلة تتوقف على المصير الذي تنتهي إليه الرأسمالية في أوروبا والعالم. كانت تلك السمات الرئيسية لنظرية الثورة الدائمة عند ظهورها في الأشهر الأولى من عام 1905. منذ ذلك التاريخ قامت ثلاث ثورات. اعتلت البروليتاريا الروسية سدة الحكم على رأس انتفاضة فلاحية عارمة. وأصبحت دكتاتورية البروليتاريا واقعا ملموسا في روسيا قبل أن تتحقق في أي من الدول الأكثر تقدما في العالم. وفي عام 1924، أي بعد ما لا يزيد عن سبع سنوات من ثبوت التوقع التاريخي الذي تضمنته نظرية الثورة الدائمة بقوة ليس لها مثيل، يشن "رجال الصف الثاني" هجوما مسعورا على هذه النظرية، مجتزئين جملا مبتورة وهجمات سجالية Polemic من كتاباتي القديمة كنت نسيتها تماما. لا بد من أن نتذكر هنا أن الثورة الروسية قامت بعد أكثر من نصف قرن من موجة الثورات البرجوازية التي اجتاحت أوروبا، وبعد خمسة وثلاثين عاما من ثورة "عامية باريس" التي لم تدم طويلا. كانت أوروبا قد نسيت طعم الثورات. أما روسيا فلم تكن قد شهدت ثورة قط. فجرى طرح قضايا الثورة على نحو جديد. فليس من الصعب أن نفهم كم من المجهولات والتخمينات الضخمة كانت الثورة القادمة تخفي علينا في ذلك الحين. فكانت الصيغ التي تبنتها المجموعات السياسية كلها، كل واحدة على طريقتها الخاصة، مجرد فرضيات عملية. ويجب أن يكون المرء خاليا من أي حس للاستجلاء التاريخي ومن أي تفهم لأساليبه لكي ينظر الآن، وبعد مرور الحدث، إلى تحليلات عام 1905 وتقديراته وكأنها كتبت البارحة. لقد قلت مرارا لنفسي ولأصدقائي: لست أشك مطلقا في أن توقعاتي عام 1905 كانت تحوي عدة نواقص ليس من الصعب إبرازها الآن بعد انقضاء الحدث. ولكن هل كانت توقعات نقادي أفضل من توقعاتي وأكثر نفاذا منها ؟ كنت مستعدا سلفا، لكوني لم أعد قراءة مؤلفاتي القديمة منذ زمن طويل، للاعتراف بوجود نواقص أكثر خطورة وأهمية مما هو فيها بالفعل. ولقد اقتنعت بهذا عام 1928 عندما سمحت لي الراحة السياسية التي فرضها علي منفاي في "ألما-آتا" أن أعيد قراءة كتاباتي القديمة حول قضايا الثورة الدائمة. وآمل أن القارئ سيقتنع بهذا اقتناعا كاملا عندما يقرأ الصفحات اللاحقة. ولكن من الضروري، في نطاق هذه المقدمة، أن نقدم بالقدر الممكن من الدقة وصفا لمقومات نظرية الثورة الدائمة ولأهم الاعتراضات عليها. فقد اتسع الخلاف وعمق بحيث يشمل اليوم في جوهره جميع القضايا الهامة في الحركة الثورية العالمية. إن الثورة الدائمة عند ماركس هي ثورة لا تساوم مع أي شكل من أشكال الحكم الطبقي ولا تقف عند المرحلة الديموقراطية بل تتجاوزها إلى الا جراءات الاشتراكية وإلى الحرب ضد الرجعية في الخارج، أي أنها ثورة تكون لكل مرحلة لاحقة منها جذورها في المرحلة التي سبقتها فلا تنتهي إلا بعد تصفية المجتمع الطبقي تصفية تامة. ولا بد كي نزيل الالتباس الذي وجد حول نظرية الثورة الدائمة، من تمييز المقوّمات الفكرية الثلاث التي تتكون منها هذه النظرية. أولا: تشمل نظرية الثورة الدائمة قضية الانتقال من الثورة الديموقراطية إلى الثورة الاشتراكية. وهذا في جوهره هو أساسها التاريخي. لقد تصدى الشيوعيون الكبار في منتصف القرن التاسع عشر، ماركس ورفاقه، بمفهوم الثورة الدائمة للأيديولوجية الديموقراطية التي تدّعي - كما نعلم- أنه بإنشاء دولة "عقلا نية" أو ديموقراطية يصبح بالإمكان حل جميع القضايا سلميا بواسطة إجراءات إصلاحية أو تطورية. لقد اعتبر ماركس ثورة 1848 البرجوازية تمهيدا للثورة البروليتارية. وقد "أخطأ" ماركس في ذلك. إلاّ أن خطأه يتعلق بالوقائع وليس بالمنهج. إن ثورة 1848 لم تتحول إلى ثورة اشتراكية. ولكنها لهذا السبب ذاته لم تستطع أن تحقق الديموقراطية. أما بالنسبة للثورة الألمانية عام 1918، فإنها لم تكن تكملة ديموقراطية للثورة البرجوازية، بل ثورة بروليتارية أجهضها الإشتراكيون-الديموقراطيون، أو بالأحرى ثورة برجوازية مضادة أجبرت على المحافظة على مظاهر ديموقراطية زائفة بعد انتصارها على البروليتاريا. إن "الماركسية" المبتذلة قد ابتكرت منهجا للتطور التاريخي يعتبر أن كل مجتمع برجوازي سيحقق نظامه الديموقراطي عاجلا أو أجلا، حينئذ، تنظم البروليتاريا نفسها وتستكمل ثقافتها الاشتراكية، في ظل الظروف الديموقراطية الملائمة. لقد جرى تبيان الانتقال الفعلي للاشتراكية بطرق مختلفة: فصوّر الاصلاحيون الصريحون هذا الانتقال على أنه عملية ملء الديموقراطية بمضمون اشتراكي بواسطة الإصلاحات (جوريس)، بينما اعترف الثوريون الرسميون بحتمية استعمال العنف الثوري في الانتقال إلى الاشتراكية (غسد). غير أن كلا الاتجاهين كان يعتبر أن الديموقراطية والاشتراكية، بالنسبة لجميع الشعوب والبلدان، مرحلتان في تطور المجتمع ليستا متمايزتين التمايز الكافي ولكنهما مفصولتان عن بعضهما البعض بحقبات زمنية طويلة. وكان هذا الرأي غالبا على الماركسيين الروس الذين كانوا ينتمون عام 1905 إلى جناح اليساري من "الأممية الثانية". وكان بليخانوف، رائد الماركسية الروسية اللامع، يعتبر فكرة ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا المعاصرة ضربا من الجنون. وقد اشترك في الدفاع عن هذا الموقف ليس المنشفيك فحسب، ولكن الأغلبية الساحقة من قادة البلاشفة أيضا، وخاصة قادة الحزب الحاليين بدون استثناء الذين كانوا في أيامهم ديموقراطيين ثوريين صلبين ولكن قضايا الثورة الاشتراكية ظلت بالنسبة إليهم ليس فقط عام 1905 ولكن عشية ثورة 1917 أيضا مجرد أصداء مستقبل بعيد. إن نظرية الثورة الدائمة التي ولدت عام 1905 أعلنت حربا شعواء على هذه الأفكار والأمزجة. وبيّنت أن المهام الديموقراطية في الأمم البرجوازية المتأخرة تقتضي في عصرنا هذا، قيام دكتاتورية البروليتاريا رأسا. وإن هذه الدكتاتورية تضع المهام الاشتراكية في حيز التنفيذ. هنا تكمن الفكرة الرئيسية في هذه النظرية. فبينما كان الرأي التقليدي يقول أن الطريق إلى دكتاتورية البروليتاريا تمرّ خلال مرحلة ديموقراطية طويلة، أكدت نظرية الثورة الدائمة على أن الطريق إلى الاشتراكية يمرّ بدكتاتورية البروليتاريا في الدول المتخلفة. وهكذا نرى أن الديموقراطية ليست نظاما يكفي نفسه بنفسه خلال عقود من الزمن، وإنما هو تمهيد مباشر للثورة الاشتراكية. وترتبط الواحدة بالأخرى بسلسلة متصلة من الأحداث. وهكذا ينشأ وضع من التطور الثوري الدائم بين الثورة الديموقراطية وبين بناء المجتمع الاشتراكي. المقومة الثانية لنظرية "الثورة الدائمة" تتعلق بالثورة الاشتراكية بحد ذاتها. خلال مدة طويلة، تتحول جميع العلاقات الاجتماعية خلال صراع داخلي مستمر. المجتمع هنا يخلع جلده العتيق ويستبدله بجلد جديد. وتنبثق كل مرحلة من مراحل التحول من المرحلة التي تسبقها مباشرة. وتتخذ هذه العملية بالضرورة طابعا سياسيا، أي أنها تتطور من خلال الاصطدامات بين مختلف الفئات في المجتمع الذي يمر بهذا التحول. إن الثورات في الاقتصاد والتقنية والعلم والعائلة والأخلاق والحياة اليومية تسير بشكل معقد متشابك فلا تسمح للمجتمع بأن يستعيد توازنه. هنا تكمن ديمومة الثورة الإشتراكية كثورة اشتراكية. إن الطابع الأممي للثورة الإشتراكية، المقومة الثالثة من مقومات الثورة الدائمة، ينبثق من الوضع الراهن للاقتصاد ومن البنيان الإجتماعي في العالم. ليست الأممية مبدأ مجردا وإنما هي انعكاس نظري وسياسي لطبيعة الاقتصاد العالمي ولتطور قوى الإنتاج وللصراع الطبقي على الصعيد العالمي. تبدأ الثورة الاشتراكية على أسس وطنية، ولكن لا ينمكن إنجازها ضمن هذا الإطار. لأن حصر ثورة البروليتاريا ضمن الإطار الوطني لا يمكن إلا أن يكون خطوة مرحلية، بالرغم من أن هذه الخطوة قد تستغرق زمنا طويلا كما تؤكد تجربة الإتحاد السوفيتي. ففي دكتاتورية البروليتاريا المنعزلة لا بد من أن تنمو التناقضات الداخلية والخارجية إلى جانب الانتصارات التي يجري تحقيقها. وإذا بقيت الدولة البروليتارية معزولة فإنها ستقع في النهاية ضحيّة لهذه التناقضات. وإذا نظرنا إلى الثورة الوطنية من هذه الزاوية نجد أنها ليست كلاّ متكاملا وإنما هي مجرد حلقة في سلسلة الثورات الأممية. إن الثورة عملية دائمة بالرغم من الانتكاسات والإنحسارات الآنية. إن هجوم "رجال الصف الثاني" موجه، وإن كان ليس دائما بنفس الوضوح، ضد المقوّمات الثلاث التي تتكون منها نظرية الثورة الدائمة. كيف لا والأجزاء الثلاثة أجزاء مترابطة.. إن "رجال الصف الثاني" يفصلون بشكل آلي بين الدكتاتورية الديموقراطية والدكتاتورية الإشتراكية، وبين الثورة الاشتراكية الوطنية والثورة الأممية. وهم يعتبرون أن الاستيلاء على الحكم ضمن الإطار الوطني ليس في جوهره الشرط الأولي للثورة وإنما هو نهاية المطاف تليه حقبة من الإصلاحات تؤدي إلى بناء المجتمع الإشتراكي الوطني. وفي عام 1905 لم يكن هؤلاء يقبلون حتى بالفكرة القائلة أن البروليتاريا في روسيا سوف تستلم الحكم قبل أوروبا الغربية. وفي عام 1917، كانوا يبشرون بثورة ديموقراطية في روسيا تكفي نفسها بنفسها، ويرفضون دكتاتورية البروليتاريا رفضا قاطعا. وفي الفترة بين 1925 و1927، اتجهوا في طريق الثورة الوطنية في الصين بقيادة البرجوازية الوطنية. وفي بعد ذلك، رفعوا شعار "دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية" في الصين مقابل شعار "دكتاتورية البروليتاريا". وأعلنوا عن إمكانية بناء مجتمع اشتراكي منعزل في الاتحاد السوفيتي يكفي نفسه بنفسه. وعوضا عن أن تكون الثورة العالمية، بالنسبة إليهم، شرطا لا غنى عنه لإحراز النصر أصبحت مجرد ظرف مساعد. لقد انتهى "رجال الصف الثاني" إلى هذا الانفصال الكامل عن الماركسية خلال صراعهم الدؤوب ضد نظرية الثورة الدائمة. هذا الصراع، الذي بدأ ببعث مصطنع لذكريات تاريخية وبتشويه الماضي البعيد قد أدى إلى التحول الكامل في النظرة الشاملة عند الفئة العليا من قيادة الثورة. لقد سبق وأكدنا أن إعادة النظر في القيم هذه إنما جرت تحت تأثير الحاجات الاجتماعية للبيروقراطية السوفيتية التي غدت محافظة أكثر من أي وقت مضى، تطمح إلى استتباب الأمن على الصعيد الوطني وتدعو إلى اعتبار ما تحقق حتى الآن من الثورة، والذي يضمن مراكز مميزة للبيروقراطية، كافيا للشروع في البناء السلمي للاشتراكية. لسنا نريد العودة إلى هذا الموضوع الآن. إنما نكتفي بالقول أن البرقراطية واعية كل الوعي للارتباط بين مواقعها الإيديولوجية والمادية وبين نظرية الاشتراكية الوطنية. وأوضح تعبير عن ذلك الآن هو أن ضغط التناقضات، التي لم تتحسب لها آلة الحكم الستاليني والتي تضغط بالرغم عنها أو بالأحرى بسببها، يجبرها على الاتجاه نحو اليسار بكل قوتها وعلى تسديد الضربات القياسية للجناح اليميني الذي كان ملهمها بالأمس. إن عداء البرقراطيين "للمعارضة الماركسية"، بعد استعارتهم لشعاراتها وحججها على عجل، لم يضعف كما هو معلوم عند الجميع. إن شجب نظرية الثورة الدائمة والاعتراف، وإن كان بشكل غير مباشر، بنظرية "الإشتراكية في بلد واحد" هو الشرط الأولي والأخير المفروض على أفراد المعارضة الذين يثيرون موضوع عودتهم إلى الحزب لتأييد الاتجاه نحو التصنيع، إلى آخره. بهذا تفصح البيروقراطية الستالينية عن الطابع التكتيكي المحض لاتجاهها نحو اليسار الذي يلازمه احتفاظ بالمبادئ الإستراتيجية المبنية على المنطق الوطني-الإصلاحي. ومن غير المجدي أن نفسر معنى هذا، ففي السياسة كما في الحرب يكون التكتيك مسخرا في المدى البعيد لخدمة الأهداف الإستراتيجية. لقد تعدّت المسألة، منذ زمن طويل، نطاق الصراع ضد "التروتسكية". ففي اتساعها التدريجي أصبحت تشمل الآن جميع قضايا النظرية الثورية العالمية. فإما الثورة الدائمة وإما الاشتراكية في بلد واحد. إن هذا البديل يضم في الوقت ذاته مشاكل الاتحاد السوفيتي الداخلية وتوقعات الثورة في الشرق وأخيرا مصير "الأممية الشيوعية" كلها. هذا الكتاب لا يعالج المسألة من جميع الجوانب، فليس من الضروري تكرار ما سبق وقلناه في مؤلفات أخرى. ففي "نقد مشروع برنامج الأممية الشيوعية" حاولت أن أثبت بشكل نظري تهافت الاشتراكية الوطنية على الصعيدين الإقتصادي والسياسي. فلم يتفوه مفكرو الكومنترن بكلمة واحدة حول هذا الموضوع. فهذا هو الدور الوحيد الذي بقي لهم. في هذا الكتاب سأستعيد نظرية الثورة الدائمة كما صيغت عام 1905 يصدد قضايا الثورة الروسية الداخلية. وسوف أظهر أين كان موقفي يختلف فعليا عن موقف لينين، ولماذا وكيف كنت أنسجم مع موقف لينين في كل وضع حاسم. وأخيرا، سأحاول أن أظهر مغزى هذه القضية بالنسبة للبروليتاريا في البلدان المتخلفة وبالتالي بالنسبة للأممية الشيوعية بشكل عام. ما هي التهم التي يوجهها "رجال الصف الثاني" ضد نظرية الثورة الدائمة ؟ إذا ما صرفنا النظر عن التناقضات العديدة التي يقع فيها نقادي يمكن تلخيص هذه المجموعة الضخمة من الكتابات بما يلي: 1- يتجاهل تروتسكي الفرق بين الثورة البرجوازية والثورة الاشتراكية. وحتى في عام 1905 كان يعتقد أن البروليتاريا الروسية مواجهة بمهام الثورة الاشتراكية. 2- إن تروتسكي قد نسي القضية الزراعية نسيانا تاما. فالفلاحون غير موجودين بالنسبة له. وهو يصور الثورة وكأنها معركة وحيدة بين البروليتاريا والقيصرية. 3- يعتقد تروتسكي أن البرجوازية العالمية لن تحتمل وجود دكتاتورية البروليتاريا الروسية واعتبر أن انهيار هذه الدكتاتورية أمر محتم إلا إذا استولت البروليتاريا في الغرب على الحكم خلال فترة وجيزة وهبت لنجدتها. بهذا يقلل تروتسكي من أهمية الضغط الذي مارسته البروليتاريا في أوروبا الغربية على حكومتها البرجوازية. 4- إن تروتسكي لا يؤمن بشكل عام بقوة البروليتاريا الروسية وبمقدرتها على بناء الاشتراكية بشكل مستقل، لهذا السبب وضع، وما زال يضع، كل آماله في الثورة العالمية. إن هذه اللازمات تتكرر في جميع كتابات زينوفييف وستالين وبوخارين وغيرهم وفي خطبهم العديدة وقد أدرجت في أهم القرارات التي اتخذها الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي والأممية الشيوعية. وبالرغم من ذلك فلا بد من القول أنها مبنية على مزيج من الجهل والكذب. إن الاتهامين الأولين اللذان يتقدم بهما نقادي عاريين من الصحة كما سيثبت للقارئ بعد قليل. لقد انطلقت، بالتحديد، من الطابع الديموقراطي-البرجوازي للثورة وخلصت إلى أن عمق الأزمة الزراعية سيرفع البروليتاريا في روسيا إلى سدة الحكم. أجل، كانت تلك هي الفكرة التي دافعت عنها عشية ثورة 1905. وتلك هي الفكرة التي اعبر عنها عندما أصف الثورة بأنها ثورة "دائمة"، أي غير متقطعة، ثورة تنتقل مباشرة من المرحلة البرجوازية إلى المرحلة الاشتراكية. وللتعبير عن الفكرة نفسها، استعمل لينين فيما بعد التعبير الرائع الذي يقول بنضج الثورة البرجوازية إلى ثورة اشتراكية. أما ستالين، فقد تصدى عام 1924 بمفهوم "نضج الثورة" لنظرية الثورة الدائمة التي صورها وكأنها قفزة مباشرة من القيصرية إلى الاشتراكية، إن هذا "المفكر" السيئ الطالع لم يقف برهة ليتساءل: أي معنى يبقى لديمومة الثورة، أي تطورها غير المتقطع إذا كان كل ما تشمله هو مجرد قفزة ؟ أما الاتهام الثالث، فقد كان مرده إيمان "رجال الصف الثاني" الذي لم يدم طويلا بإمكانية "إزالة مفعول". البرجوازية الإمبريالية لأمد طويل بمساعدة ضغط البروليتاريا المنظمة "بمهارة". كانت تلك هي فكرة ستالين الأساسية بين عام 1924 و1927. وكانت اللجنة الروسية-الإنكليزية ثمرة هذه الفكرة. ولكن خيبة الأمل بإمكان إزالة مفعول البرجوازية بمساعدة بورسيل ورادييه ولافوليت(7) وتشانغ كاي تشيك أدت إلى عارض مفاجئ من الخوف من خطر حرب مداهم. وما زال الكومنترن يمر بهذه المرحلة. وأما الاعتراض الرابع على نظرية الثورة الدائمة فإنه يتلخص في القول أني لم أدافع عام 1905 عن النظرية الاشتراكية في بلد واحد التي اخترعها ستالين للبيروقراطية السوفييتية عام 1924. إن هذا الاتهام لطرفة تاريخية ليس إلاّ. فكأني بخصومي يريدوننا أن نقتنع بأنهم كانوا يؤمنون عام 1905 بأن روسيا ناضجة لقيام ثورة اشتراكية مستقلة. وفي الواقع إنهم كانوا، خلال الفترة ما بين 1905 و1907 يكيلون لي التهم بأني طوباوي لأني توقعت أن تأتي البروليتاريا الروسية إلى الحكم قبل بروليتاريا أوروبا الغربية. ولقد اتهم كامنييف وريكوف لينين بالطوباوية في أبريل عام 1917 وحاولوا إقناعه أنه على الثورة الاشتراكية أن تتحقق أولا في بريطانيا والبلدان المتقدمة الأخرى ومن ثم يأتي دور روسيا. وكان ستالين يتبنى الموقف ذاته حتى 4 أبريل 1917. وهو لم يقتنع بشعار لينين "دكتاتورية البروليتاريا" الذي حلّ مكان شعار "الدكتاتورية الديموقراطية" إلاّ تدريجيا وبصعوبة بالغة(8) وفي ربيع عام 1924 كان ستالين ما يزال يردد ما قاله آخرون قبله: إن روسيا، بمفردها، ليست ناضجة النضج الكافي لبناء مجتمع اشتراكي. وفي خريف العام ذاته اكتشف ستالين لأول مرة، في صراعه ضد نظرية الثورة الدائمة، إمكانية بناء نظام اشتراكي منعزل في روسيا. وفي ذلك الوقت فقط، بدأ "الأساتذة الحمر" يجمعون القرائن التي تدين تروتسكي بأنه اعتقد عام 1905 – ويا للهول – بأن روسيا لا تستطيع أن تصل إلى الاشتراكية إلا بمساعدة بروليتاريا الغرب. إذا قدّر أن نأخذ تاريخ الصراع الأيديولوجي طوال ربع قرن ونمزقه نتفاً صغيرة ثم نمزق هذه النتف في جرن ونطلب من رجل أعمى أن يعيد تركيبها، لما خرجنا بفوضى نظرية أو تاريخية من التفاهات كالتي يغذي بها "رجال الصف الثاني" قراءهم ومستمعيهم. ولكي نلقي ضوءا على علاقة مشاكل الأمس بمشاكل اليوم لا بد لنا من أن نعود، ولو بشكل عام للغاية، إلى ما قامت به قيادة الكومنترن، ستالين وبوخارين، من أعمال في الصين. بحجة أن الصين تواجه ثورة وطنية أعطى الدور القيادي في عام 1924 للبرجوازية الصينية. واعترف رسميا بحزب البرجوازية الوطنية، الكيومنتانغ، حزبا قائدا. حتى المنشفيك لم يصلوا إلى هذا الحد عام 1905 في علاقاتهم مع "الكاديت" (حزب البرجوازية الليبرالية). ولكن قيادة الكومنترن لم تتوقف عند هذا الحد. فقد أجبرت الحزب الشيوعي الصيني على الدخول في الكيومنتانغ والانصياع لأوامره. وفي برقيات خاصة، طلب ستالين من الشيوعيين الصينيين أن ينسفوا الحركة الفلاحية. فمنع العمال والفلاحون من تكوين مجالس سوفييت خاصة بهم حتى لا ينفر تشانغ كاي-تشيك الذي دافع عنه ستالين بحرارة أمام "المعارضين" ووصفه بأنه "حليف يوثق به" ذلك في اجتماع حزبي في موسكو في أوائل أبريل 1927، أي قبل بضعة أيام من انقلاب شانغهاي المضاد-للثورة. إن إخضاع الحزب الشيوعي للقيادة البرجوازية رسميا ومنع تكوين مجالس السوفييت (كان ستالين وبوخارين يدّعيان أن الكيومنتانغ "قد حل مكان السوفييت") يشكلان خيانة أكبر وأبشع للماركسية من جميع أفعال المنشفيك بين أعوام 1905 و1917. بعد أن قام تشانغ كاي-تشيك بانقلابه في أبريل عام 1927، انشق الجناح اليساري بشكل آني من الكيومنتانغ بقيادة وانغ شينغ-وي. وحيّت جريدة "البرافدا" وانغ شينغ-وي رأسا على أنه حليف يعتمد عليه. كانت علاقة وانغ شينغ-وي بتشانغ كاي-تشيك في جوهرهاكعلاقة كرينسكي بمليوكوف(9)، مع وجود فارق واحد وهو أن شخصيتي مليوكوف وكورنيلوف كانتا متحدتين في الصين بشخص تشانغ كاي-تشيك. بعد أبريل 1927 صدرت أوامر للحزب الصيني بالدخول عي الكيومنتانغ "اليساري" والانصياع لأوامر "كرنسكي" الصين، عوضا عن التحضير لمعركة علنية ضده. فسحق وانغ-تشينغ-وي "الموثوق به" الحزب الشيوعي ومعه الحركة العمالية والفلاحية بوحشية لا تقل عن وحشية تشانغ كاي-تشيك الذي أعلن ستالين أنه حليف "موثوق به". رغم أن المنشفيك أيدوا مليوكوف في عام 1905 وبعد ذلك، إلاّ أنهم لم ينضموا إلى الحزب الليبرالي. ورغم أن المنشفيك تحالفوا مع كرنسكي عام 1917 إلاّ أنهم حافظوا على تنظيمهم. فكانت سياسة ستالين في الصين مسخا حقيرا للمناشفة. هكذا كان الفصل الأول والأكثر أهمية من القصة. وبعد أن برزت نتائجه الحتمية - انتكاسة كاملة في صفوف الحركة العمالية والفلاحين، تحطيم معنويات الحزب الشيوعي وتفتيته- أصدرت قيادة الكومنترن أمرها: "إلى اليسار در !" وطالبت بالتحضير الفوري لانتفاضة مسلحة يقوم بها العمال والفلاحون. حتى الأمس، كان الحزب الشيوعي الفتي المسحوق والمفتت يلعب دور العجلة الخامسة في عربة تشانغ كاي-تشيك ووانغ تشينغ- وي ويفتقر بالتالي إلى أي نوع من التجربة السياسية المستقلة، أما الآن فتصدر الأوامر فجأة لهذا الحزب بأن يقود العمال والفلاحين، الذين كان الكومنترن يؤخر مسيرتهم بإخضاعهم للواء الكيومنتانغ، في ثورة مسلحة ضد هذا الكيومنتانغ ذاته الذي كان قد وجد الوقت الكافي ليسيطر إلى الحكم والجيش معا.وخلال أربع وعشرين ساعة تم اختراع سوفييت وهمي في "كانتون". وجاءت الانتفاضة المسلحة، التي جرى توقيتها سلفا لتصادف موعد افتتاح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفييتي، تعبر عن بطولة العمال الصينيين المتقدمين وعن إجرام قادة الكومنترن في آن واحد. وقد جاءت انتفاضة "كانتون" في وسط فترة من المغامرات الثانوية. هكذا كان الفصل الثاني من قصة استراتيجية الكومنترن في الصين. ويمكن اعتبارها أحقر عملية فسخ للبلشفية. إن فصول الليبرالية-الإنتهازية وفصول المغامرات قد وجهت إلى الحزب الشيوعي الصيني ضربات لن يستطيع الشفاء منها إلا بعد عدة سنوات حتى ولو انتهج سياسة سلمية. عقد المؤتمر السادس للكومنترن لمحاسبة قيادته على هذه الأعمال. فأعلن موافقته غير المشروطة عليها. ولا عجب، فالمؤتمر قد دعي للانعقاد لهذا الغرض بالذات. بالنسبة للمستقبل طرح المؤتمر شعار "ديكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية". ولكن كيف تختلف هذه الديكتاتورية الديموقراطية عن اليمين أو اليسار في الكيومنتانغ ؟ بماذا تتميز عن دكتاتورية البروليتاريا ؟ إن مثل هذه الأسئلة لم تفسّر للشيوعيين الصينيين. ولا كان بالإمكان الإجابة عليها. بعد طرحه لشعار الديكتاتورية الديموقراطية، شجب المؤتمر الشعارات الديموقراطية (المطالبة بعقد الجمعية التأسيسية، وبحق الانتخاب للجميع، وبحرية الرأي والصحافة، إلى آخره). فجرّد بذلك الحزب الشيوعي الصيني من جميع أسلحته في وجه دكتاتورية الزمرة العسكرية. خلال عدة سنوات كان البلاشفة الروس يكتلون العمال والفلاحين حول شعارات ديموقراطية. وقد لعبت هذه الشعارات دورا بارزا في عام 1917. وفقط بعد أن ترسخت السلطة السوفييتية واصطدمت سياسيا بالجمعية التأسيسية بشكل عنيف وعلى مرأى من الشعب كله، بدأ حزبنا بتصفية المؤسسات الديموقراطية التقليدية، أي مؤسسات الديموقراطية البرجوازية، وألغى شعاراتها واستعاض عنها بالديموقراطية السوفييتية الحقيقية، أي بالديموقراطية البروليتارية. إن المؤتمر السادس للكومنترن، بقيادة ستالين وبوخارين، قلب كل هذا رأسا على عقب. فبينما اختارت هذه القيادة للحزب شعار "الديكتاتورية الديموقراطية" عوضا عن "الديكتاتورية البروليتارية" منعته في الوقت ذاته من استعمال الشعارات الديموقراطية للتحضير لهذه الديكتاتورية. فهي لم تجرّد الحزب الشيوعي الصيني من أسلحته فحسب ولكنها جردته من ثيابه أيضا. وللتعويض عن ذلك، سمحت أخيرا باستعمال شعار مجالس السوفييت في المرحلة التي سيطرت فيها الثورة-المضادة، هذا الشعار الذي كان ممنوعا منذ اندلاع الثورة. إن أحد الشخصيات المحبوبة جدا في الفلكلور الروسي ينشد أغاني الأعراس في المآتم وأغاني المآتم في الأعراس. وفي كلا الحالتين يجهز عليه الناس بالضرب. فلو كان الأمر يقتصر على الإجهاز بالضرب على المخططين في القيادة الكومنترن الحالية، لما كان الأمر بهذه الخطورة. إن أمورا أكثر خطورة يجري التلاعب فيها ومنها مصير البروليتاريا. كانت خطط الكومنترن تشكل، عن غير وعي منها، عملية تخريب منظمة للثورة الصينية. ولقد جرى تنفيذ هذا التخريب مع وجود ثقة كاملة بأنه سينجح، لأن الكومنترن غطى السياسة المنشفية-اليمينية بين الأعوام 1924 و1927 بهيبة البلشفية، وحمتها السلطة السوفييتية من انتقادات "المعارضة اليسارية" بآلة الإرهاب الضخمة الموضوعة تحت تصرفها. وكنتيجة لذلك، وجدنا أمامنا تجربة ناجزة للستراتيجية الستالينية، قامت من أولها لآخرها تحت راية الصراع ضد الثورة الدائمة. لذا كان من الطبيعي أن يكون ماتينوف هو المفكر الستاليني الرئيسي الذي قام بتبرير إخضاع الحزب الشيوعي الصيني للكيومنتانغ البرجوازي الوطني. فقد كان مارتينوف(10) الناقد المنشفيكي الرئيسي لنظرية الثورة الدائمة منذ عام 1905 حتى عام 1924 أي العام الذي بدأ فيه بتأدية رسالته التاريخية في صفوف الحزب البلشفي. لقد عالجتُ الوقائع الأساسية المتعلقة بأصل هذا الكتاب في الفصل الأول. في "آلما-آتا" كنت أكتب ردا نظريا على "رجال الصف الثاني". وكانت نظرية الثورة الدائمة ستحتل حيزا هاما من ذلك الكتاب. حتى وصلتني مخطوطة لراديك(11) مكرسة لتبيان تعارض نظرية الثورة الدائمة مع خط لينين الستراتيجي. كان راديك مضطرا إلى الانحراف في هذه الطريق فجأة لأنه كان غارقا حتى أذنيه في سياسة ستالين الصينية: فقد دافع (مع زينوفييف) عن إخضاع الحزب الشيوعي للكيومنتانغ قبل انقلاب تشانغ كاي-تشيك وبعده. ولكي يجد مبررا لوضع البروليتاريا في قيود البرجوازية، كان طبيعيا أن يتكلم راديك عن ضرورة التحالف مع الفلاحين وعن "سوء تقديري" لأهمية هذا التحالف. فحذا حذو ستالين في الدفاع عن سياسة منشفية بلفظية بلشفية. وكذا طرح صيغة "دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية" ليغطي، كما فعل ستالين من قبله، حرمان البروليتاريا الصينية من النضال المستقل من أجل الحكم على رأس الجماهير الفلاحية. وعندما فضحتُ هذه المهزلة الإيديولوجية، تولدت عند راديك حاجة ملحة لكي يثبت أن نضالي ضد الإنتهازية التي تستر فضائحها بالاستشهاد بمقتطفات من لينين نابع في الواقع من التعارض بين نظرية الثورة الدائمة وبين اللينينية. فتحول راديك من مدافع عن أخطاءه إلى مهاجم للثورة الدائمة. وما كان هذا سوى جسر يعبر عليه إلى الاستسلام. ومما شجعني على هذا الاعتقاد هو أن راديك كان ينوي، منذ بضع سنوات، أن يكتب منشورا يدافع فيه عن الثورة الدائمة. وبالرغم من هذا كله، لم أتسرع في الرد على راديك. فقد حاولت الإجابة على مقاله بصراحة ووضوح دون أن أقطع عليه خط الرجعة. إني أنشر ردي على راديك مثلما كتب مكتفيا بإضافة بعض الملاحظات الإيضاحية وبإجراء تصحيحات في الأسلوب. إن مقالة راديك لم تنشر في الصحف، وأظن أنها لن تنشر أبدا، لأنها لن تمرّ في مصفاة الرقابة الستالينية بالشكل الذي كتب في عام 1924. وحتى بالنسبة لراديك نفسه سيكون لهذه المقالة أثر فاجع عليه اليوم، لأنها تعطي فكرة واضحة عن تطوره الإيديولوجي الذي يذكرنا "بتطور" رجل يرمي بنفسه من نافذة في الطابق السادس. إن الدافع إلى تأليف هذا الكتاب يفسر بوضوح لماذا يشغل راديك فيه حيزا أوسع مما يحقّ له. فهو لم يتقدم بحجة جديدة واحدة ضد نظرية الثورة الدائمة. فقد برز كذيل "لرجال الصف الثاني". لذلك، فالمرجو من القارئ الاّ يرى في راديك مجرد راديك نفسه ولكن أن يرى فيه ممثلا لشركة اشترى فيها راديك عضويته بثمن تخليه عن الماركسية. وإذا شعر راديك أنه قد نال منا أكثر من نصيبه ما عليه إلاّ أن يوزع ما فيض عنه على الأعضاء الآخرين. إن هذا من الشؤون الخاصة بالشركة. ولست أبدي من جهتي أي اعتراض.
(2) نقولا بوخارين
(1888-1938) بلشفي قديم وعضو في اللجنة المركزية والمكتب السياسي. كان
رئيس المجموعة البلشفية في مجلس الدوما عام 1908. ترأس تحرير
"البرافدا" بين 1918 و1929، ترأس ا"لأممية الشيوعية" بين 1926 و1929،
قاد الإتحاد اليميني الذي سحقه ستالين عام 1929. استسلم لستالين فأصبح
رئيس تحرير "ازفيستيا" بين 1933 و1937. كان المتهم الرئيسي في محاكمة
موسكو الثالثة. أعدم رميا بالرصاص عام 1938. (المترجم). (3) يطلق تروتسكي لقب "رجال الصف
الثاني" على ستالين ومجموعته كرد على تسمية أنفسهم "البلاشفة القدماء"
وللإشارة إلى الدور الثانوي الذي لعبوه في أكتوبر عام 1917. (المترجم). (4) ليون كامنييف
(1883-1936) قائد بلشفي قديم. عضو اللجنة المركزية. قاد المجموعة
البلشفية في مجلس الدوما وترأس تحرير "البرافدا" عام 1904. نفي إلى
سيبريا خلال الحرب. عارض ثورة أكتوبر ثم ما لبث أن تراجع. انضم إلى
"المعارضة اليسارية الموحدة". فصل من الحزب في المؤتمر الخامس عشر.
استسلم لستالين عام 1928 فعاد إلى الحزب. أعيد فصله عام 1932. كان أحد
المتهمين الرئيسيين في محاكمة موسكو الأولى وأعدم عام 1936. (المترجم). (5) الكسي ريكوف (1881-1938)
بلشفي قديم. عضو اللجنة المركزية منذ أول لجنة للحزب. أحد مساعدي
لينين. ترأس المجلس الإقتصادي الأعلى بعد ثورة أكتوبر. عضو المكتب
السياسي من عام 1923 إلى 1929. رئيس مجلس مفوضي الشعب بين عام
1924-1929. قاد مع بوخارين وتومسكي الاتجاه اليميني الذي سحقه ستالين
عام 1929. كان حتى عام 1936 مفوض الشعب لشؤون البرق والبريد. أتهم بأنه
"إرهابي" في أول محاكمات موسكو عام 1936، ثم أعيد له الإعتبار. أعتقل
مرة أخرى وقدم لمحاكمة موسكو الثالثة ثم أعدم عام 1938. (المترجم) (6) مولوتوف (ولد عام 1890)
بلشفي قديم. كان يقود منظمة الحزب في بتروغراد عام 1917. وكان يرأس
تحرير "البرافدا"، فأزاحه ستالين وكامينيف اللذان أعطيا الصحيفة خطا
توفيقيا إلى حين عودة لينين في أبريل من العام ذاته. أنتخب عضوا في
اللجنة المركزية عام 1920. ترأس الأممية الشيوعية. ثم خلف "ليتفينوف"
في منصب مفوض الشعب للشؤون الخارجية، عام 1939. عارض "تصفية
الستالينية" بعد موت ستالين. طرد من اللجنة المركزية في يونيو عام 1957
وأتهم بأنه عضو في "المجموعة المعادية للحزب" وعين سفيرا في منغوليا.
(المترجم) (7) بورسيل هو أحد القادة
النقابيين البريطانيين، ورئيس المؤتمر العمالي العام ومندوبه في لجنة
النقابات الإنكليزية-الروسية المشتركة عام 1926. لافوليت سياسي أمريكي
أيده الحزب الشيوعي الأمريكي عام 1924. (المترجم) (8) راجع: لينين – "أطروحات أبريل".
(المترجم) (9) كرينسكي هو أحد قادة
الاشتراكيين-الثوريين (الحزب الفلاحي في روسيا) ورئيس الحكومة
البرجوازية المؤقتة التي أطاحت بها ثورة أكتوبر 1917. مليوكوف هو رئيس
حزب "الكاديت". وكورنيلوف هو أحد القادة العسكريين أيام ثورة فبراير
1917 الذي قاد العصيان القيصري للإطاحة بالحكومة المؤقتة. (المترجم) (10) ماتينوف قائد
اشتراكي-ديموقراطي روسي ولد عام 1865 وكان أحد الد أعداء صحيفة
"إيسكرا" (الشرارة). قائد المنشفيك عام 1905. ثم انضم إلى الجناح
الأممي في المنشفيك بقيادة مارتوف خلال أعوام الحرب وخلال ثورة أكتوبر.
انضم إلى الحزب البلشفي عام 1919. تحالف مع ستالين وبوخارين وقاد
الأممية الشيوعية بين عام 1925 و1929. وأصبح فيما بعد موظفا فيها. (11) كارل راديك (1885-1942)
قائد بلشفي من أصل بولوني. كان منذ عام 1910 في الجناح اليساري للحركة
الاشتراكية-الديموقراطية وأحد أنصار مؤتمر "زيمروالد ". كان أحد قادة
الأممية الشيوعية بين الأعوام 1919 و1923 حيت تسلم مسؤولية الشؤون
الألمانية. انضم إلى المعارضة اليسارية لبين ألأعوام 1923 و1928. فصل
من الحزب في المؤتمر الخامس عشر عام 1927. نفي إلى سيبريا ثم ما لبث أن
استسلم لستالين. ترأس تحرير "البرافدا". قدم إلى "محاكمة موسكو
الثانية" التي حكمت عليه بعشر سنوات سجن مع الأعمال الشاقة عام 1937.
توفي في المنفى عام 1942. (المترجم) |
|||