الفصل الخامس |
|||
يستنجد راديك بلينين مدّعيا أن الديكتاتورية الديموقراطية قد تحققت في بلدنا على شكل السلطة المزدوجة، أجل، إني أعترف أن لينين قد طرح السؤال على هذا الشكل أحيانا وبشروط. "أحيانا ؟" يحتج راديك ويتهمني بالتهجم على إحدى أفكار لينين الأساسية. غير أن راديك يغضب لأنه على خطأ ليس إلاّ. ففي كتابي "دروس أكتوبر" الذي ينقده راديك بدوره بعد تأخير ما يقارب الأربع سنوات، فسّرت كلمات لينين عن "تحقيق" الديكتاتورية الديموقراطية على النحو التالي: "إن تحالف العمال والفلاحين يتخذ شكلا غير ناضج من
أشكال السلطة العاجزة عن بلوغ السلطة الحقيقية؛ إنه يتخذ شكلا كاتجاه
فقط وليس كواقع محدد" وقد كتب راديك بصدد هذا التفسير: "إن هذا التفسير لمضمون أحد أروع الفصول النظرية في مؤلفات لينين لا يساوي شيئا البتة". ويعقب هذه الكلمات نداء يستدر العطف على التقاليد البلشفية ثم تأتي الخاتمة أخيرا: "إن هذه القضايا من الأهمية البالغة بحيث لا يمكن الإجابة عليها بالإشارة إلى ما كان يقوله لينين أحيانا". ويريد راديك بهذا أن يوحي أني أعالج باستخفاف "إحدى أروع" أفكار لينين. إلاّ أن راديك يهدر استنكاره وغيضه بدون سبب. إن قليلا من التفهم يفيده أكثر هنا. إن ما عرضته في "دروس أكتوبر"، رغم ابتساره، لا يعتمد على وحي مفاجئ هبطت به نصوص ليست مأخوذة عن مصادرها الأصلية، وإنما يعتمد على دراسة أصلية مستفيضة لكتابات لينين. إنها تستخرج جوهر فكرة لينين حول هذه المسألة، في حين لا يحتفظ عرض راديك اللفظي بمقطع حيّ واحد من فكر لينين رغم غزارة الإستشهادات فيه. لماذا استعملت هذا التحفظ: "أحيانا" ؟ لأن الأمر كان كذلك. لقد أشار لينين إلى أن الديكتاتورية الديموقراطية قد "تحققت" على شكل السلطة المزدوجة ("بشكل معين وإلى حدٍّ ما") في الفترة بين أبريل وأكتوبر عام 1917، أي قبل أن تتحقق الثورة الديموقراطية فعليا. إن راديك لم يلاحظ هذا الأمر ولم يفهمه ولا تقييّمه. وفي معرض صراعه ضد رجال الصف الثاني الحاليين، تكلم لينين بشكل جد مشروط عن "تحقيق" الديكتاتورية الديموقراطية(1). وهو لم يفعل ذلك ليقدّم وصفا تاريخيا لحقبة السلطة المزدوجة، فلو فعل ذلك على هذا الشكل لبدا الأمر سخيفا، ولكن ليردّ على أولئك الذين يتوقعون طبعة منقحة ثانية عن الدكتاتورية الديموقراطية المستقلة. إن كلمات لينين قد عنت فقط أنه لم يوجد دكتاتورية ديموقراطية خارج عملية إجهاض السلطة المزدوجة البائسة وأن هذا هو السبب الذي يدعوا إلى "إعادة تسليح" الحزب أي إلى تغيير الشعار. أما الإدعاء أن تحالف المنشفيك والاشتراكيين-الثوريين مع البرجوازية، الذي رفض إعطاء الأرض للفلاحين واضطهاد البلاشفة، هو "تحقيق" للشعار البلشفي؛ فهو يعني إما أن نعمد عن قصد إلى تسمية الأبيض أسود وإما أن نكون قد فقدنا عقولنا. وفيما يتعلق بالمنشفيك، بالإمكان أن نردّ عليهم بحجة مشابهة لتلك التي ردّ بها لينين على كامنييف" "هل تنتظر من البرجوازية أن تضطلع بتحقيق رسالة "تقدمية" في الثورة ؟ لقد سبق لهذه الرسالة أن تحققت: فالدور السياسي الذي لعبه رودزيانكو وغوشكوف ومليوكوف هو أقصى ما تستطيع البرجوازية أن تقدمه، كما أن الكرنسكية هي الحد الأقصى من الثورة الديموقراطية الذي يمكن تحقيقه في طور مستقل". إن السمات الشِراحية(2) (Anatomical) التي لا تخطيء – الترسبات – تبيِّن أن أجدادنا كان لهم ذيل. وهذه السمات كافية للتأكيد على وحدة العالم الحيواني التكوينية (Genestic). ولكن فلنقل بسلامة نية أن لا ذيل للإنسان. لقد أظهر لينين لكامنييف ترسبات الدكتاتورية الديموقراطية في نظام السلطة المزدوجة محذّرا إياه من أنه لا أمل بنمو عضو جديد من هذه الترسبات. ولم تتحقق عندنا دكتاتورية ديموقراطية مستقلة، رغم أننا قد أنجزنا الثورة الديموقراطية بطريقة أعمق وأعند وأصفى من جميع الثورات الأخرى. يتوجب على راديك أن يتأمل هذه الحقيقة: لو أن الدكتاتورية الديموقراطية قد تحققت فعلاً في الفترة ما بين فبراير وأبريل لكان حتى مولوتوف اعترف بها. لقد فهم الحزب والطبقة الدكتاتورية الديموقراطية على أنها نظام حكم يحطم بلا هوادة آلة الدولة القديمة التابعة للملكية ويصفي نهائيا نظام ملكيات الأرض. ولكن لم يكن ثمة من أثر لهذا في فترة حكم كرينسكي. وكان الأمر بالنسبة للحزب البلشفي يتعلق بالتحقيق الفعلي للمهام الثورية ولم يكن يتعلق بتبيان بعض "الترسبات" السوسيولوجية والتاريخية. وفي سعيه لتنوير خصومه نظريا، أبرز لينين ببراعة هذه السمات التي لم تبلغ مرحلة النضوج، وكان هذا كل ما فعله في هذا الصدد. إلاّ أن راديك يسعى بكل جدية لإقناعنا أن "الدكتاتورية" كانت موجودة في فترة السلطة المزدوجة، أي في فترة انعدام السلطة، وأن الثورة الديموقراطية قد تحققت. على أنها كانت "ثورة ديموقراطية" كما نرى بحيث كانت بحاجة إلى كل عبقرية لينين للتعرف إليها. ولكن هذا هو ما يثبت أنها لم تتحقق. إن الثورة الديموقراطية الحقيقية هي ثورة يسهل على كل فلاح أمي في روسيا أو الصين أن يتعرف إليها. أما فيما يتعلق بالسمات المورفولوجية(3) (Morphological) ، فالأمر يزداد صعوبة. فمثلا، يستحيل على راديك، رغم العبرة من حادثة كامنييف في روسيا، أن يلاحظ أن الدكتاتورية الديموقراطية قد "تحققت" في الصين أيضا بالمعنى الذي يستعمله لينين (خلال الكيومنتانغ)؛ وأنها قد تحققت بشكل أكمل وأجلى مما كان الحال في بلدنا خلال وجود السلطة المزدوجة. إن السذّج البائسين هم وحدهم الذين يتوقعون طبعة منقحة ثانية عن "الديموقراطية" في الصين. لو أن الدكتاتورية الديموقراطية قد تحققت فقط في بلدنا على شكل الكرينسكية، التي لعبت دورا أجير للويد جورج وكليمانصو ،إذن لكان علينا أن نقول إن التاريخ يهزأ من شعار البلاشفة الستراتيجي. ليس الأمر كذلك لحسن الحظ. لقد تحقق شعار البلاشفة فعلا كحقيقة تاريخية عظيمة وليس كسمة مرفولوجية. إلاّ أنه لم يتحقق قبل أكتوبر وإنما بعده. إن حرب الفلاحين، على حد تعبير ماركس، قد دعمت دكتاتورية البروليتاريا. ولقد تحقق تعاون الطبقتين على نطاق واسع خلال أكتوبر. وفي ذلك الحين استوعب كل فلاح جاهل وشعر أن الشعار البلشفي قد أصبح حيا، حتى بدون الاستعانة لشروحات لينين. ولقد اعتبر لينين أن الطور الأول من ثورة أكتوبر هو التحقيق الحقيقي للثورة الديموقراطية، وأن هذه الثورة هي التجسيد الفعلي، وإن يكن قد طرأ عليه تغيير، لشعار البلاشفة. يجب النظر إلى لينين ككل. وبخاصة لينين ما بعد أكتوبر عندما كان يراقب الأحداث ويقيمها من موقع أفضل. وأخيرا، يجب النظر إلى لينين من وجهة نظر لينينية وليس من وجهة نظر رجال الصف الثاني. لقد تعرض لينين لمسألة الطابع الطبقي للثورة "ولنضوجها" في كتابه ضد كاوتسكي (بعد ثورة أكتوبر). وفيما يلي أحد مقاطع هذا الكتاب الذي يجب على راديك أن يتمعّن فيه بعض الشيء: "أجل، إن ثورتنا [ثورة أكتوبر] هي ثورة برجوازية ما دمنا نسير جنبا إلى جنب مع الفلاحين ككل. إن هذا أمر في غاية الوضوح بالنسبة إلينا، ولقد رددناه مئات وآلاف المرات منذ عام 1905 فلم نحاول أن نقفز عن الطور الضروري في العملية التاريخية ولا أن نلغيه بالمراسيم". ويقول فيما بعد: "لقد سارت الأمور مثلما توقعنا أن تسير. ولقد أكّدت
مسيرة الثورة صحة تفكيرنا. في البدء: مع الفلاحين "ككل" ضد
الملكية، ملاّك الأرض، والنظام الموروث عن القرون الوسطى (إلى هذا
المدى تبقى الثورة ثورة برجوازية وثورة برجوازية ديموقراطية). ثم مع
الفلاحين الفقراء ومع أشباه البروليتاريا ومع جميع المضطهدين ضد
الرأسماليين بما فيهم أغنياء الريف والكولاك والمرابون، وإلى هذا
المدى تصبح الثورة ثورة اشتراكية". هكذا كان لينين يتكلم، ليس "أحيانا" بل دائما وأبدا عندما قدّم تقييمه الكامل العام الممتاز للثورة بشكل عام ولثورة أكتوبر بشكل خاص. "لقد سارت الأمور مثلما توقعنا لها أن تسير". لقد تحققت الثورة الديموقراطية-البرجوازية كتحالف يضم العمال والفلاحين. خلال فترة كرنسكي ؟ كلا، خلال الفترة الأولى بعد أكتوبر. أصحيح هذا ؟ نعم إنه صحيح. ولكننا نعلم الآن أنه لم يتحقق على شكل دكتاتورية ديموقراطية وإنما على شكل دكتاتورية البروليتاريا. بهذا تختفي أيضا الحاجة إلى المعادلة الجبرية القديمة. إذا وضعنا نقاش لينين المشروط ضد كامنييف عام 1917 إلى جانب وصف لينين الشامل لثورة أكتوبر في السنوات التي تلتها، وفعلنا هذا بطريقة غير نقدية، ينتج عن ذلك أن الثورتين الديموقراطيتين قد تحققتا في روسيا. إن هذا الأمر فظيع خاصة وأن انتفاضة البروليتاريا المسلحة تفصل بين الثورة الأولى والثورة الثانية. والآن فلنقارن بين المقطع الذي استشهدنا به لتوه من كتاب لينين. "ثورة البروليتاريا والمرتد كاوتسكي" وبين هذا المقطع من الفصل عن "نظام حكم البروليتاريا" في مقالتي "نتائج وتوقعات" حيث عرضت الطور الأول من الدكتاتورية وتوقعات تطورها اللاحق: "سيلقى إلغاء الإقطاعي تأييد الفلاحين ككل لكونهم
الطائفة المظلومة. وستلقى الضريبة التصاعدية كذلك تأييد غالبية
الفلاحين الساحقة. غير أن أي تشريع يهدف إلى حماية البروليتاريا
الزراعية لن يفشل في اكتساب التأييد الحيّ للأغلبية فحسب، ولكنه سيجابه
بمعارضة حيوية من طرف أقلية من الفلاحين أيضا. ما أبعد ذلك عن "تجاهلي" للفلاحين، وما أبعده عن "التناقض" التام بين موقفين: موقفي وموقف لينين ! ليس المقطع الذي استشهدنا به أعلاه المقطع الوحيد في مؤلفات لينين. بل على العكس من ذلك، فكما هو الحال دوما بالنسبة للينين، تصبح الصيغة الجديدة التي تنفذ بشكل أعمق إلى الأحداث محورا لخطبه ولمقالاته خلال مرحلة بكاملها. ففي مارس من عام 1919 قال لينين: "في أكتوبر 1917، استلمنا الحكم بالتعاون مع الفلاحين ككل. كانت تلك ثورة برجوازية إلى مدى ما كان الصراع الطبقي في المناطق الريفية لم يتطور بعد". (لينين: "المؤلفات الكاملة" – المجلد 15 – ص 143 – الطبعة الروسية). وفيما يلي ما قاله لينين في مؤتمر الحزب في مارس عام 1919: "لقد ظلت ثورتنا ثورة برجوازية إلى حد بعيد حتى صيف
عام 1918 أو بالأحرى حتى خريف ذلك العام عندما تمّ تنظيم "لجان
الفلاحين الفقراء"، ذلك لأننا كنا في بلد اضطرت فيه البروليتاريا إلى
استلام الحكم بمساعدة الفلاحين وحيث قيّض لها أن تكون واسطة قيام
الثورة البرجوازية الصغيرة". لقد ردّد لينين هذه الكلمات في مناسبات مختلفة وبأشكال متنوعة. إلاّ أن راديك يتهرّب ببساطة من فكرة لينين الرئيسية هذه التي تلعب دورا حاسما في المساجلة. يقول لينين أن البروليتاريا قد استلمت الحكم في أكتوبر بالتعاون مع الفلاحين. وبهذا وحده كانت الثورة ثورة برجوازية. هل هذا القول صحيح ؟ إنه صحيح إلى حدّ ما. غير أن هذا يعني أن دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية الحقيقية أي تلك التي حطّمت بالفعل نظام الحكم الفردي والرق وانتزعت الأرض من الإقطاعيين قد تحققت بعد أكتوبر وليس قبله؛ لقد تحققت، على حد تعبير ماركس، على شكل دكتاتورية البروليتاريا التي تدعمها الحرب الفلاحية ثم بدأت بالنضوج إلى دكتاتورية اشتراكية بعد بضعة أشهر. هل من الصعب فهم هذا حقا ؟ وهل يمكن أن تستمر الخلافات في الرأي حول هذه النقطة إلى اليوم ؟ يعتبر راديك أن النظرية "الدائمة" تزني إذ تخلط الطور البرجوازي بالطور الاشتراكي. في الواقع خلطت القوى الطبقية الدافعة بشكل كامل بين هذين الطورين، أي أنها قد مزجتهما بحيث لم يعد باستطاعة هذا الغيبي السيئ الحظ أن يهتدي إلى خيوط كل منها. من المؤكد أن "نتائج وتوقعات" تحتوي على عدة فجوات وعلى عدة أقوال خاطئة. ولكن لا يجب أن ننسى أن هذا الكتاب لم يكتب عام 1928، لقد كتب قبل ثورة أكتوبر بمدة طويلة أي قبل أكتوبر عام 1905. إن راديك لا يتعرض مطلقا لمسألة الفجوات في نظرية الثورة الدائمة وإذا ابتغينا المزيد من الدقة لقلنا أنه لم يتعرض لمناقشاتي الأساسية دفاعا عن هذه النظرية في ذلك الحين؛ إنه يسير على خطى أساتذته، رجال الصف الثاني، فلا يهاجم الفجوات وإنما يهاجم الجوانب المنيعة من هذه النظرية، تلك التي أثبت سير التطور التاريخي صحتها، وهو يهاجمها باسم استنتاجات جد مغلوطة يستنبطها من صيغ لينين الذي لم يدرسه راديك الدراسة الكافية ولا نفذ إلى أعماق فكره. إن اللعب بالنصوص القديمة هو من عادات مدرسة رجال الصف الثاني كلها، تقوم به على صعيد خاص لا يتقاطع مطلقا مع العملية التاريخية الحقيقية. ولكن عندما ينشغل خصوم "التروتسكية" بتحليل التطور الحقيقي لثورة أكتوبر وعندما ينشغلون بهذا التحليل بجدية ودأب، الأمر الذي يحدث لهم بين الحين والآخر، نجد أنهم يصلون حتما إلى صيغ مستوحاة من روح النظرية التي يرفضون. إن مؤلفات أ. ياكوفليف المكرسة لتاريخ الثورة الروسية لهي مثال واضح على هذا. إن هذا المؤلف، الذي هو حاليا عضو في الزمرة الحاكمة والذي هو على قدر أكبر من الثقافة من الستالينيين الآخرين ومن ستالين نفسه، يصوغ العلاقات الطبقية في روسيا القديمة على هذا الشكل(4): "نلاحظ محدودية مزدوجة في انتفاضة الفلاحين (مارس إلى
أكتوبر عام 1917). وعندما ارتقت الانتفاضة إلى مستوى الحرب الفلاحية،
لم تتمكن من التغلب على محدوديتها، ولم تتجاوز مهمتها العاجلة تحطيم
مالك الأرض المجاور؛ ولم تتحول إلى حركة ثورية منظمة؛ ولم تتخط طابع
الفورة العفوية التي تميّز الحركة الفلاحية." ويقول فيما بعد: "… إن جوهر الأمر كله هو هذا: بحكم ظروف تاريخية محدّدة تحالفت روسيا البرجوازية عام 1917 مع مالكي الأرض. وحتى أكثر الأجنحة يسارية ضمن البرجوازية، كالمنشفيك والاشتراكيين-الثوريين، لم يستطع أن يذهب إلى أبعد من تأمين صفقة لصالح مالكي الأرض. هنا يكمن أهمّ فارق بين ظروف الثورة الروسية وظروف الثورة الفرنسية التي اندلعت منذ ما يقارب القرن… لم يكن بإمكان الثورة الفلاحية أن تنتصر كثورة برجوازية عام 1917. [تماما ! – ل. ت.] كان أمامها طريقان. فأما أن تنهزم تحت الضربات التي يوجهها إليها البرجوازيون ومالكو الأرض، وإما أن تنتصر كحركة مواكبة ومناصرة لثورة البروليتاريا. إن الطبقة العاملة في روسيا قد أمنت احتمال قيامها بثورة بروليتارية ناجحة عندما حملت الرسالة التي حملتها البرجوازية في الثورة الفرنسية العظمى عوضا عنها، وعندما اضطلعت بمهمة قيادة الثورة الديموقراطية الزراعية. ("الحركة الفلاحية عام 1917" – ص10-11، و11-12، دار الدولة للنشر – 1927). ما هي العناصر الرئيسية في حجج ياكوفليف ؟ عجز الفلاحين عن لعب دور سياسي مستقل؛ ما ينتج عن ذلك من حتمية أن تلعب الطبقة في المدن دورا قياديا؛ عدم تمكن البرجوازية الروسية من قيادة الثورة الزراعية؛ ما ينتج عن ذلك من حتمية أن تلعب البروليتاريا دورا قياديا؛ استيلاؤها على الحكم بوصفها قائدة الثورة الزراعية؛ وأخيرا، دكتاتورية البروليتاريا التي تعتمد على الحرب الفلاحية وتفتتح حقبة الثورة الإشتراكية. إن هذا ينسف من الأساس الطرح الغيبي لمسألة الطابع "البرجوازي" أم "الاشتراكي" للثورة. إن جوهر الموضوع يكمن في أنه لا يمكن حلّ القضية الزراعية، التي هي أساس الثورة البرجوازية، في ظل حكم البرجوازية، لم تظهر دكتاتورية البروليتاريا على الساحة بعد إتمام الثورة الديموقراطية الزراعية، ولكنها ظهرت كشرط مسبق ضروري لإتمامها. وبكلمة: ففي نهج ياكوفليف الذي يلتفت إلى الماضي نجد جميع العناصر الأساسية المكونة لنظرية الثورة الدائمة كما صغتها عام 1905. كانت المسألة بالنسبة لي مسألة توقّع تاريخي؛ أما ياكوفليف، الذي يعتمد على دراسات تحضيرية حضرها جهاز كامل من الباحثين الشباب، فقد أجرى عملية كشف حساب لأحداث الثورات الثلاث بعد الثورة الأولى باثنتين وعشرين سنة وبعد ثورة أكتوبر بعشر سنين. ثم ماذا ؟ يردّد ياكوفليف حرفيا تقريبا ما قلته عام 1905. ومع ذلك، فما هو موقف ياكوفليف من نظرية الثورة الدائمة ؟ إنه موقف جدير بأي موظف ستاليني يريد أن يبقى في منصبه وحتى أن يرقى إلى منصب أعلى. ولكن كيف يوفق ياكوفليف، والحالة هذه، بين تقييمه للقوى الدافعة لثورة أكتوبر وبين الصراع ضد "التروتسكية" ؟ إنه يفعل ذلك ببساطة متناهية إذ انه لا يعير مثل هذا التوفيق أي اهتمام. إنه شبيه ببعض الموظفين الليبراليين القيصريين الذين كانوا يقرّون نظرية داروين ويذهبون في نفس الوقت للمناولة في الكنيسة؛ لذا فهو يشتري حق التعبير عن أفكار ماركسية بين الحين والآخر بثمن اشتراكه في شعائر التجريح بالثورة الدائمة. ويمكن إعطاء العشرات من الأمثلة المشابهة. يبقى أن نضيف أن ياكوفليف لم يكتب هذا الكتاب عن تاريخ ثورة أكتوبر بمبادرته الخاصة وإنما فعل ذلك بناءً على قرار اللجنة المركزية التي أوكلت إليّ في الوقت نفسه مهمة مراجعة كتاب ياكوفليف(5). كان شفاء لينين من مرضه ما زال متوقعا في ذلك الحين، فلم يخطر ببال أي من رجال الصف الثاني أن يثير خلافا مصطنعا حول الثورة الدائمة على أي حال، بوصفي المحرر السابق للتأريخ الرسمي لثورة أكتوبر، أو بالأحرى المحرر المقترح لهذا التأريخ، أستطيع أن أكد برضا تام أن المؤلف، فيما يتعلق بجميع المسائل التي هي موضع خلاف، قد استعمل حرفيا بوعي منه أو بدون وعي، الصياغات الموجودة في كتابي الهرطقي الملعون حول الثورة الدائمة: "نتائج وتوقعات" إن تقييم لينين الشامل للمصير التاريخي للشعار البلشفي يؤكد أن الخلاف بين الاتجاهين: إتجاه "الثورة الدائمة" واتجاه لينين كان ذا طابع ثانوي وفرعي؛ وأن ما يجمع بينهما هو أساسي للغاية. وإن أساسي كلا الإتجاهين للذين اندمجا اندماجا كليا في ثورة أكتوبر لا يتناقض تناقضا تاما مع اتجاه ستالين بين فبراير ومارس، ومع اتجاه كامنييف وريكوف وزينوفييف في الصين فحسب ولكن مع اتجاه راديك الحالي بخصوص الصين أيضا. وعندما يتهمني راديك، الذي بدّل حكمه على القيم بشكل جذري بين عام 1925 والنصف الثاني من عام 1928، بأني لا أفهم "تعقيد الماركسية-اللينينية" أجيبه: إني أعتبر أن الاتجاه الفكري الأساسي الذي بلورته منذ اثنين وعشرين عاما في "نتائج وتوقعات" قد أكدت صحته وهو، لهذا السبب بالذات، منسجم مع خط البلاشفة الستراتيجي. وإني –بشكل خاص، لا أرى أي سبب يدعوني للتراجع عمّا قلته عام 1922عن الثورة الدائمة في مقدمة كتابي "العام 1905" الذي قرأه الحزب كله وتدارسه في عدة طبعات ونسخ عندما كان لينين ما يزال على قيد الحياة، والذي بدأ "يزعج" كامنييف في خريف عام 1924 وبدأ "يزعج" راديك لأول مرة في خريف عام 1928. ففي هذه المقدمة أقول: "في الفترة بين 9 يناير وإضراب أكتوبر بالتحديد كوّن
المؤلف هذه الآراء التي سمّيت فيما بعد (نظرية الثورة الدائمة) ؟ إن هذا
الإسم الغريب بعض الشيء يعبّر عن الفكرة القائلة أن الثورة الروسية
التي تواجهها مهام برجوازية لا تستطيع أن تتوقف عند هذه المهام بأي حال
من الأحوال. فلا يمكن للثورة أن تنجز مهامها البرجوازية العاجلة
إلاّ إذا أتت بالبروليتاريا إلى الحكم… أريد أن أستشهد بالإضافة إلى ذلك بأحكام سجالية أكثر حدّة أطلقتها على شعار "الدكتاتورية الديموقراطية". ففي عام 1909، كتبت في مجلة روزا لوكسمبورغ في بولونيا ما يلي: في حين ينطلق المنشفيك من الفكرة المجردة التي تقول أن ثورتنا "ثورة ديموقراطية" ويصلون إلى فكرة تكييف تكتيك البروليتاريا كله مع سلوك البرجوازية الليبرالية بما فيه استلام الحكم، ينطلق البلاشفة من التجريد العقيم نفسه: "الدكتاتورية الديموقراطية وليس الديكتاتورية الاشتراكية" ويصلون إلى الفكرة القائلة بأن تقتصر البروليتاريا الحاكمة على تحقيق الثورة الديموقراطية البرجوازية. إن الفرق بينهما حول هذه المسألة لهو فرق على جانب كبير من الأهمية: في حين تتجلّى الآن الجوانب المعادية للثورة الكامنة عند المنشفيك، تمدد السمات المعادية للثورة الكامنة عند البلاشفة بأن تغدو خطرا كبيرا فقط في حال إنتصار الثورة" لقد أضفت في يناير 1922 إلى هذا المقطع من المقالة، الذي أعيد طبعه في الطبعة الروسية من كتاب "عام 1905"، ما يلي: "إن هذا لم يحصل، كما هو معلوم، لأن البلشفية حققت بقيادة لينين (ولكن بعد فترة من الصراع الداخلي) إعادة تسلحها الإيديولوجي حول هذه المسألة البالغة الأهمية في ربيع عام 1917 أي قبل الاستيلاء على الحكم". لقد تعرّض هذان المقطعان منذ عام 1924 إلى وابل عنيف من النقد. والآن، وبعد تأخير أربع سنوات، إنضم راديك إلى صف النقاد. ومع ذلك، فإذا تعمّقنا بدأب في هذه الأسطر، لا بد من أن نقرّ أنها كانت تحتوي على توقع هام وعلى تحذير لا يقل عنه أهمية. ويبقى الأمر التالي: عند حدوث ثورة فبراير كانت ما تسمى القيادات البلشفية القديمة ما تزال تتخذ موقف مجابهة الدكتاتورية الإشتراكية بالدكتاتورية الديموقراطية. وحوّل أقرب تلامذة لينين معادلته "الجبرية" إلى بنيان غيبي بحث موجهين إياه ضد المسيرة الحقيقية للثورة. وعند هذا المنعطف التاريخي البالغ الأهمية، تبنت القيادات البلشفية العليا في داخل روسيا موقفا رجعيا ولولا مجيء لينين في الوقت المناسب لكانت اغتالت ثورة أكتوبر باسم الصراع ضد التروتسكية مثلما اغتالت فيما بعد الثورة الصينية. إن راديك يصف، بخشوع، هذا الموقف الخاطئ الذي اتخذه القطاع القيادي للحزب بأنه نوع من "الصدفة". ولكن هذا لا قيمة له كتفسير ماركسي للموقف الديموقراطي المبتذل الذي اتخذه كامنييف، وزينوفييف، وستالين، ومولوتوف، وريكوف، وكالينين، وفوجين، ومليفين، وكرتنسكي، وفرونز، وبارالافسكي، وأردجو، وبريوبراجنسكي، وسميلغا وعشرات غيرهم من "البلاشفة القدماء". أليس من الأصح أن نعترف أن المعادلة البلشفية الجبرية القديمة كانت تحوي بعض المخاطر في داخلها ؟ وكما يحدث دائما للصيغ السياسية المبهمة، فقد ملأها التطور السياسي بمضمون معاد للثورة البروليتارية. ومن البديهي لو أن لينين عاش في روسيا وراقب تطور الحزب يوما بعد يوم، وخاصة خلال الحرب، لكان أدخل التصحيحات والتوضيحات واللازمة في الوقت المناسب. ومن حسن حظ الثورة أن لينين وصل في الوقت المناسب، وإن كان متأخرا، لتولي إعادة التسليح الإيديولوجي الضرورية. إن حسّ البروليتاريا الطبقي والضغط الثوري الذي مارسته قواعد الحزب، الذي مهّد لهما نضال البلشفية السابق بمجمله، قد مكّنا لينين من أن يغيّر سياسة الحزب إلى اتجاه جديد وفي الوقت المناسب، ذلك في صراعه مع قيادات الحزب العليا وبالرغم من مقاومتها. هل يعني هذا أن علينا أن نقبل الآن صيغة لينين كما كانت عليه عام 1905 بشكلها الجبري وبكل إبهامها بالنسبة للصين والهند والبلدان الأخرى؛ وأن علينا أن نترك أمر ملء هذه الصيغة بمضمون وطني-ديموقراطي وبرجوازي صغير لامثال ريكوف وستالين في الصين والهند (تانغ بينغ-شان، روي، وغيرهم)، ثم ننتظر إلى حين ظهور لينين جديد ليتولى القيام بالتصحيحات اللازمة مثلما فعل في الرابع من أبريل ؟ ولكن هل إن هذا التصحيح مضمون بالنسبة للصين والهند ؟ أليس من الأفضل أن ندخل إلى هذه الصيغة تلك التصحيحات المحددة التي أثبتت تجربة روسيا والهند كليهما ضرورة إدخالها ؟ هل يعني ما سبق أنه يجب أن ننظر إلى شعار دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية على أنه مجرد "خطأ" ؟ كما نعلم، فإن آراء الإنسان وأفعاله تقسم الآن إلى فئتين: الصحيحة منها وتمام الصحة، أي تلك التي تنسجم مع "الخط العام"؛ والمغلوطة منها تمام الغلط، أي تلك التي تنحرف عن هذا الخط. إلاّ أن هذا لا يحول "طبعا" دون أن يعلن أن ما كان صحيحا تماما بالأمس قد غدا مغلوطا تماما اليوم. ولكن قبل ظهور "الخط العام" عرف التطور الحقيقي للآراء أسلوب التقريبات المتتالية من الحقيقة. حتى في القسمة البسيطة في الحساب نجد أنه من الضروري الاختبار في انتقاء الآحاد؛ فيبدأ المرء بآحاد كبيرة أو صغيرة ثم يرفضها جميعا إلاّ واحدة خلال عملية الاختبار. وفي تحديد الهدف في قصف المدفعية يسمى أسلوب التقريبات المتتالية من الهدف "التجميع". ولا مفر مطلقا من اعتماد أسلوب التقريب في السياسة كذلك. إن القضية كلها هي أن نفهم في الوقت المناسب أننا قد أخطأنا الهدف وأن ندخل التصحيحات اللازمة دون تأخير. إن الأهمية التاريخية العظيمة لصيغة لينين تكمن في كونها قد تفحصت إلى النهاية أهم القضايا النظرية والسياسية، في ظروف حقبة تاريخية جديدة، وبخاصة قضية مدى الإستقلال السياسي الذي قد تبلغه مختلف التجمعات البرجوازية الصغيرة بشكل عام والفلاحون بشكل خاص. وبفضل كمالها فإن التجربة البلشفية بين عام 1905 و1917 قد أوصدت الباب بإحكام في وجه "الدكتاتورية الديموقراطية". وكتب لينين بيده فوق الباب هذه العبارة: "لا دخول –لا خروج". ولقد صاغها بهذه الكلمات: إما أن يسير الفلاح مع البرجوازي وإما أن يسير مع العامل. ومع ذلك فقد تغافل رجال الصف الثاني عن هذا الاستنتاج الذي تؤدي إليه الصيغة البلشفية القديمة تغافلا تاما، وعلى عكس هذه الصيغة رسموا فرضية مؤقتة بإدخال هذه الصيغة في البرنامج. هنا، بشكل عام، يكمن جوهر ذهنية رجال الصف الثاني. (1) راجع لينين "أطروحات أبريل" –
1917 – ص14 والصفحات التي تليها. (الطبعة الفرنسية – موسكو). (المترجم) (2) الشراحة anatomy علم يبحث في
تركيب بناء الإنسان العضوي وأجزائه – مرجع العلايلي (المترجم) (3) المورفولوجيا علم الشكل الخارجي
للكائنات الحية. (المترجم) (4) لقد عيّن ياكوفليف مؤخرا مفوضا
للشعب لشؤون الزراعة في الإتحاد السوفييتي. (ل. ت.). (5) مقطع من محاضر اجتماع مكتب
التنظيم التابع للجنة المركزية في 22 ماي 1922 –رقم 21: "يطلب من
الرفيق ياكوفليف… بتأليف كتاب عن تاريخ ثورة أكتوبر تحت إشراف ومراجعة
الرفيق تروتسكي". (ل. ت.) (6) في 3 يونيو عام 1907 تم
الإنقلاب الذي افتتح بشكل رسمي حقبة الثورة-المضادة المنتصرة. (المترجم
الإنكليزي). |
|||