نبعت مجالس السوفيات لمندوبي العمال عندنا سنة 1905
وسنة 1917 من الحركة الثورية نفسها باعتبارها شكلا تنظيميا لها في درجة
معينة من مستوى النضال. ولكن الأحزاب الأوروبية الفتية التي اعتبرت
مجالس السوفيات "كعقيدة" أو "كمبدأ" تتعرض لخطر فكرة فتيشية تعتبر أن
السوفيات عامل من عوامل الثورة الذي له استقلاله الذاتي الخاص. إلا أن
الحقيقة غير ذلك، فرغم الفائدة الكبرى التي تمثلها السوفيات باعتبارها
منظمة نضال من أجل السلطة إلاّ أنه من الممكن تماما أن تنمو الانتفاضة
وتتطور على أساس تنظيمي آخر (لجان المصانع- نقابات) وبالتالي لا تظهر
السوفيات باعتبارها أداة سلطة إلاّ أثناء الانتفاضة أو بعد انتصارها.
ومن المفيد جدا بهذا الصدد معرفة النضال الذي شنه
لينين بعد أيام يوليوز ضد الفتسيشية السوفياتية، فقد أصبحت مجالس
السوفيات التي يسطر على الأغلبية فيها الاشتراكيون الثوريون والمناشفة
في شهر يوليوز منظمات تدفع الجنود علنا إلى الهجوم كما تقوم باضطهاد
البلاشفة، ولذلك وجب على الحركة الثورية لجماهير العمال أن تبحث وتجد
طرقا أخرى وقد اقترح لينين لجان المصانع لتكون منظمات للنضال من أجل
السلطة وكان من المحتمل جدا أن تسير الحركة الثورية في هذا السبيل لو
لم يحدث عصيان كورنيلوف الذي أجبر مجالس السوفيات التوفيقية على الدفاع
عن نفسها. وأتاح بذلك مرة أخرى للبلاشفة أن يعطوها نفسا ثوريا يربطها
بالجماهير ربطا حميما.
إن هذه القضية كما أبانتها تجربة ألمانيا لها أهمية
أممية بالغة. ففي هذا البلد تكونت مجالس السوفيات عدة مرات على اعتبار
أنها أدوات للانتفاضة، وعلى اعتبار أنها أدوات سلطة لا تملك السلطة.
فكانت النتيجة أن حركة الجماهير البروليتارية والنصف البروليتارية سنة
1924، بدأت تلتف حول لجان المصانع التي كانت في الجوهر تقوم بنفس الدور
الذي قامت به مجالس السوفيات عندنا في الفترة السابقة للنضال المباشر
من أجل السلطة. ومع ذلك طرح بعض الرفاق في غشت وسبتمبر البدء حالا في
ألمانيا بإنشاء مجالس سوفياتية إلاّ أنّ اقتراحهم هذا رفض بعد نقاش
طويل وحاد. وكان الرفض صائبا، ذلك أنه ما دامت لجان المصانع قد أصبحت
عمليا نقاط تجمع للجماهير الثورية فإن مجالس السوفياتية في فترة
الإعداد ستلعب دورا موازيا للجان المصانع وبالتالي سوف تكون شكلا خاليا
من كل محتوى. ولا يكون لها من مفعول سوى شغل الأذهان عن المهام المادية
للانتفاضة (الجيش، الشرطة، الفرق المئوية Centuries السكك الحديدية
الخ…) وتوجيهها نحو أشكال تنظيمية ذات استقلال ذاتي، ومن جهة أخرى فإن
إنشاء مجالس سوفياتية قبل الانتفاضة سوف تكون كإعلان للحرب لم يتبع
بإجراءات عملية. وإذا كانت الحكومة قد أجبرت على التسامح مع لجان
المصانع لأنها لفت حولها جماهير كبيرة، فإنها سوف تضرب المجالس
السوفياتية الأولى على اعتبار أنها أدوات رسمية تسعى للاستيلاء على
السلطة. وسوف يضطر الحزب الشيوعي للدفاع عن تلك المجالس بوصفها منظمات
لا أكثر ولا أقل. وهكذا سوف لا يكون للصراع الحاسم هدف اتخاذ أو الدفاع
عن موقف مادي وسوف يجري في وقت لم نختره نحن، وأن تكون الإنتفاضة قد
أخذت مجراها بحكم الضرورة من حركة الجماهير وانفجرت بسبب شكل تنظيمي هو
مجالس السوفيات في وقت اختاره العدو من العالمية أن العمل التحضيري
للانتفاضة كان بإمكانه أن يرتبط بنجاح مع الشكل التنظيمي للجان المصانع
التي أخذت الوقت الكافي لتصبح المنظمات الجماهيرية النامية، وتترك أيدي
الحزب طليقة في تحديد تاريخ الإنتفاضة. لا ريب أنه خلال مرحلة من
المراحل لابد أن تظهر مجالس السوفيات، إلاّ أنه من المشكوك فيه، ضمن
الظروف التي سنأتي على ذكرها أن تظهر زمن احتدام الصراع كأدوات مباشرة
للانتفاضة. إذ يترتب على ذلك أن توجد في الوقت الحرج ازدواجية في
القيادة الثورية، وكما يقول المثل الإنكليزي: لا تستبدل فرسك عندما
تعبر النهر. ومن الممكن بعد حصول النصر في المدن الرئيسية أن تبدأ
مجالس السوفيات بالظهور في جميع أنحاء البلاد. ومهما يكن من أمر فإن
الإنتفاضة المنتصرة سوف تثير حتما مسألة تكوين مجالس السوفيات
باعتبارها أداة للسلطة.
يجب أن لا ننسى أن مجالس السوفيات عندنا قد ولدت
أثناء المرحلة "الديمقراطية" للثورة، وأخذت صفة شرعية ما، ثم ورثناها
واستعملناها. ولن يكون الأمر كذلك في الثورة البروليتارية في الغرب.
فهنا في أغلب الحالات سوف تتكون مجالس السوفيات تحت دعوة الأحزاب
الشيوعية لتصبح بالتالي أدوات مباشرة للانتفاضة البروليتارية، وليس من
المستحيل طبعا أن يصبح اختلال الدولة البرجوازية قويا قبل أن تستولي
البروليتاريا على السلطة، الأمر الذي يسمح بتكوين مجالس سوفياتية تكون
أدوات معلنة للتحضير للانتفاضة. ولكن هناك حظا قليلا لكي يصبح ذلك هو
القاعدة. إن الحالة الأكثر حدوثا هي تلك التي لا تنشأ فيها مجالس
السوفيات إلاّ في آخر يوم لكي تصبح أدوات مباشرة للجماهير المستعدة
للانتفاضة، ومع ذلك فهناك حالة أخيرة ممكنة وهي تلك التي تنشأ فيها
مجالس السوفيات بعد اللحظة الحرجة للإنتفاضة أو حتى بعد انتصارها
كأدوات للسلطة الجديدة. يجب علينا أن نضع أمامنا جيدا كل هذه
الاحتمالات لكي لا نقع في القدسية التنظيمية Fetichisme d’organisation
ونحول السوفيات في شكل مرن حسي للنضال إلى "مبدأ" تنظيمي مفروض من
الخارج على الحركة يعيق تطورها المنتظم.
أخيرا وقعت التصريح في جرائدنا لأننا لا نعرف الباب
الذي ستأتي منه الثورة البروليتارية في بريطانيا: من الحزب الشيوعي أو
من النقابات، من غير الممكن اتخاذ قرار بشأن أحدهما. إن طرح المسألة
بهذه الصورة خاطئ وخطير لأنه يحجب عن الأنظار الدرس الرئيسي للسنوات
الأخيرة، ذلك أنه إذا لم تكن هناك ثورة منتصرة في أعقاب الحرب فإن ذلك
راجع إلى عدم وجود حزب وهذه الملاحظة تنطبق على أوروبا كلها ويمكننا أن
نتأكد من صحتها إذا تتبعنا الحركة الثورية خطوة خطوة في مختلف البلدان.
ففي ألمانيا كان من الواضح أن الثورة كان في إمكانها أن تنتصر سنة 1918
و1919، لو أن الجماهير اقتيدت كما يجب من قبل الحزب. كما أظهر مثال
فنلنده سنة 1917 بأن الحركة الثورية تطورت في ظروف مؤاتية للغاية تحت
الغطاء والمساعدة العسكرية المباشرة لروسيا السوفياتية، ولكن أغلبية
قيادة الحزب الفنلندي كانت اشتراكية ديموقراطية فأفشلت الثورة. وهذا
الدرس لا يبدو أقل وضوحا في التجربة الهنغارية. فهذا البلد لم يغتصب
فيه الشيوعيون المتحالفون مع يسار الاشتراكية الديموقراطية السلطة
وإنما استلموها استلاما من أيدي البرجوازية المذعورة. إن الثورة
الهنغارية الظافرة بدون قتال وجدت نفسها منذ البداية محرومة من قيادة
مقاتلة. فالحزب الشيوعي اندمج مع الحزب الديموقراطي-الاشتراكي وأظهر
بذلك أنه هو نفسه ليس شيوعيا حقيقيا. وبناء على ذلك لم يستطع رغم
النفسية المقاتلة للبروليتاريين الهنغار أن يحافظوا على السلطة التي
حصل عليها بسهولة. إن الثورة البروليتارية لا يمكن أن تنتصر بدون حزب،
ذلك أهم درس لقنته لنا السنوات الأخيرة. إن النقابات الإنكليزية يمكن
أن تكون - وهذا صحيح- عمدة قوية للثورة البروليتارية، وبإمكانها في ظل
شروط معينة وخلال فترة خاصة أن تحل محل مجالس السوفيات العمالية ولكنها
لا يمكن أن تكون كذلك من غير الحزب الشيوعي أو إذا كانت ضده. إنما لا
تستطيع أن تلعب هذا الدور إلاّ إذا أصبح نفوذ الحزب الشيوعي فيها
غالبا. إن هذا الدرس المتعلق بأهمية الحزب في الثورة البروليتارية
دفعنا ثمنه غاليا جدا ليبقى حاضرا في أذهاننا بتمامه.
في الثورة البرجوازية يلعب الوعي والإعداد والأسلوب
دورا أقل أهمية مما تلعبه هذه الأمور الآن أو مدعوة للعبة في الثورة
البروليتارية. صحيح أن القوة المحركة في الثورة البرجوازية كانت أيضا
الجماهير ولكنها كانت أقل وعيا وتنظيما مما هي الآن. وقد كانت القيادة
في أيدي مختلق أقسام البرجوازية التي كانت تملك الثورة والتعليم
والتنظيم (البلديات - الجماعات - الصحافة الخ..) ولما كانت الملكية
البيروقراطية تدافع عن نفسها بوسائل عشوائية وحسب ما تسمح به الظروف،
فإن البرجوازية تبقى مترصدة لتختار الوقت المناسب- مستغلة الحركة
الجماهيرية الشعبية- لتلقي بكل ثقلها الاجتماعي في كفة الميزان وتستولي
على الحكم. وأمّا في الثورة البروليتارية، فإن البروليتاريا ليست فقط
القوة الرئيسية المقاتلة و إنما أيضا ممثلة في طليعتها القوة القائدة.
إن الحزب البروليتاري وحده الذي يستطيع في الثورة البروليتارية أن يلعب
الدور الذي لعبته قوة البرجوازية بتعليمها وببلدياتها وبجامعاتها في
الثورة البرجوازية. وسيكبر دور الحزب بقدر نمو الوعي الطبقي عند العدو.
فالبرجوازية في السنوات الأخيرة من سيطرتها أقامت مدرسة ذات مستوى أرفع
بما لا يقاس مما كان لدى الملكية البيروقراطية. وإذا كانت البرلمانية
بالنسبة للبروليتاريا مدرسة إلى حد ما لإعداد الثورة فهي بالنسبة
للبرجوازية وعلى نطاق أوسع مدرسة للاستراتيجية المضادة للثورة. ويكفي
أن نعلم أن البرجوازية بواسطة البرلمانية أخرجت
الاشتراكية-الديموقراطية التي هي اليوم أقوى ملجأ للملكية الفردية. إن
عهد الثورة الاجتماعية في أوروبا كما أبانت التجارب الأولى سيكون ليس
فقط عهد قتال لا هوادة فيه، إنما سيكون أكثر ثباتا بكثير مما كان عندنا
سنة 1917.
ولذلك كله يجب علينا أن نتناول بالدرس أكثر مما
نفعل الآن مسائل الحرب الأهلية، وخاصة منها الانتفاضة. نحن نردد وراء
لينين كلمات ماركس "الانتفاضة فن" ولكي يبقى هذا الترديد كلاما أجوف
إذا لم ندرس العناصر الأساسية لفن الحرب الأهلية على ضوء التجربة
الواسعة التي تجمعت لدينا في هذه السنوات الأخيرة، يجب أن نقول صراحة
بأن عدم مبالاتنا تجاه مسائل الانتفاضة المسلحة تشهد على مدى القوة
الكبيرة التي تحتفظ بها التقاليد الاشتراكية-الديموقراطية داخل صفوفنا.
إن الحزب الذي ينظر نظرة سطحية إلى مسائل الحرب الأهلية تحت الأمل بأن
الأمور ستسوى من نفسها في الوقت الضروري سوف يكابد على التأكيد هزيمة
منكرة. يجب أن تدرس جماعيا وأن تهضم تجربة المعارك البروليتارية ابتداء
من سنة 1917.
********
وإن تاريخ كتل حزبنا سنة 1917 الذي مررنا على ذكره
يمثل جزءا أساسيا من تجربة الحرب الأهلية وله أهمية مباشرة في سياسة
الأممية الشيوعية، وقد قلنا ونعيد القول: بأن دراسة خلافات وجهات نظرنا
لا يمكن ويجب أن لا تعتبر بأي حال من الأحوال موجهة ضد أولئك الرفاق
الذين أتبعوا سياسة خاطئة. ومن جهة أخرى يكون من غير المقبول أن يشطب
من تاريخ الحزب فصل من أهم فصوله لسبب وحيد هو أن كل أعضاء الحزب لم
يسيروا جميعا متساوين جنبا لجنب مع الثورة البروليتارية. إن الحزب
يستطيع، ويجب، أن يعرف كل ماضيه ليقيمه كما يجب، ويضع كل شيء في نصابه.
إن تقاليد حزب ثوري ما لا ترسى من خلال التكتمات وإنما من خلال الوضوح
النقدي.
إن التاريخ قد أعطى حزبنا مزايا ثورية لا مثيل لها،
فقد أعطاه تقاليد نضالية بطولية ضد القيصرية، وعادات وأساليب ثورية
استمدها من ظروف العمل السري وصياغة نظريته للتجربة الثورية الإنسانية
بكاملها، ونضالا ضد المنشفية وضد التيار النارودنيكي، وضد التوفيقية،
وتجربة ثورة 1905، وصياغة تجربتها نظريا خلال سني الثورة المضادة.
وكشفا لمشاكل الحركة العمالية العالمية من خلال دروس 1905. وهذا في
مجموعه هو الذي أعطى حزبنا صلابة نادرة ووضوحا عاليا، ومستوى ثوريا
رفيعا ليس له مثيل، ومع ذلك ففي هذا الحزب الذي أعد جيدا، أو بالأحرى
في أوساطه القائدة تشكل في اللحظات الحاسمة فريق من البلاشفة القدامى
الثوريين وذوي التجربة يعارض معارضة شديدة الانتفاضة البروليتارية
ويتخذ مواقف اشتراكية-ديموقراطية تجاه القضايا الجوهرية، طوال الفترة
الحرجة التي مرتبها الثورة ابتداء من 1917 إلى فبراير 1918. ولم يحم
الحزب والثورة من نتائج تلك الوضعية سوى نفوذ لينين الاستثنائي داخل
الحزب. والأمر الذي يجب أن لا ينسى إذا كنا نريد أن تتعلم الأحزاب
الشيوعية في البلدان الأخرى شيئا من مدرستنا هو أن قضية انتقاء الأشخاص
القياديين لها في أحزاب أوروبا الغربية أهمية استثنائية وهو ما توضحه
بالذات تجربة الفشل الذريع الذي حصل في ألمانيا، أكتوبر 1923، بالإضافة
إلى تجارب أخرى. وهذا الانتقاء يجب أن يتم وفق مبدأ النشاط الثوري…
وقد كان لنا في ألمانيا مناسبات كافية برهنت على قيمة قادة الحزب في
أوقات النضال المباشر، وبدون هذا البرهان تبقى جميع المقاييس غير
أكيدة. وفي السنوات الأخيرة كانت فرنسا أقل البلدان مسرحا للاضطرابات
الثورية حتى المحدد منها. ومع ذلك فإن بعض الانفجارات الخفيفة حدثت
عندما قررت اللجنة القيادية للحزب وقيادة النقابات مواجهة بعض القضايا
الخطيرة والهامة (مثال ذلك: الاجتماع الدموي يوم 11 يناير 1924). إن
دراسة مثل هذه الحادثة دراسة دقيقة تمدنا بمعطيات ذات أهمية لتقييم
القيمة الحقيقية لقيادة الحزب ولمسلك زعمائه ومختلف أجهزته. إن عدم
الأخذ بهذا المقياس بانتقاء الرجال معناه السير حتما نحو الهزيمة، إذ
بدون قيادة ذكية حازمة وشجاعة للحزب لا يمكن كسب النصر للثورة
البروليتارية.
إن كل الأحزاب حتى أكثرها ثورية تضع لنفسها لا
محالة محافظتها التنظيمية Conservatisme d’organisation وإلاّ فقدت
استقرارها، وإلاّ أن الفرق بين تلك الأحزاب هو فرق في الدرجة فقط. وفي
الحزب الثوري يجب أن يقترن مقدار (Dose) المحافظة الضرورية مع التخلص
التام من الروتين، ومع مرونة التوجيه، والشجاعة الفعالة. ويقع التأكيد
الأفضل من هذه الخصال في المنعطفات التاريخية. وقد رأينا فيما سبق
لينين يقول بأن الأحزاب في أغلب الأوقات حتى أكثرها ثورية، عندما يحدث
تغيير مفاجئ في الوضعية وبالتالي في المهام تستمر في اتباع خطها القديم
وبذلك تنقلب إلى كابح للتطور الثوري. والمحافظة في حزب ما كما هي
مبادراته الثورية، تجد تعبيرها الأكثر كثافة في أجهزته القيادية. إن
الأحزاب الشيوعية الأوروبية ما زال عليها أن تحشر بمنعطفاتها الأكثر
مفاجأة وهو الوقت الذي تنتقل فيه من العمل الإعدادي إلى أخذ السلطة،
فهذا المنعطف يتطلب خصالا أكثر، ويفرض مسؤوليات أكبر باعتبار الأكثر
خطورة. أن ترك الأوان يفوت معناه بالنسبة للحزب أكبر نكبة يمكن أن
تصيبه.
إذا نظرنا إلى تجارب المعارك في أوروبا في السنوات
الأخيرة وخاصة في ألمانيا ومن خلال تجربتنا نحن، فإننا نلاحظ نوعين من
القادة الذين يميلون إلى جر الحزب للوراء في الوقت الذي يجب أن يحقق
فيه أكبر قفزة إلى الأمام. فأحد ذلك النوعين لا يرى بشكل رئيسي إلا
الصعوبات والعوائق، ولذلك تكون نتيجة تقديره للأمور هي الهروب من
العمل. والماركسية لدى هذا النوع تصبح أسلوبا صالحا للبرهنة على
استحالة العمل الثوري. والمناشفة الروس يمثلون العينية الأكثر تجسيدا
لهذا النوع من القادة. إلاّ أنه لا ينحصر فيهم ويظهر في الأوقات الحرجة
في الأحزاب الأكثر ثورية وبين المناضلين الذين يحتلون أكبر المراكز
رفعة. أما ممثلو النوع الآخر فهم أولئك المحرضون السطحيون الذين لا
يرون العراقيل إلاّ حين تصطدم بها جباههم. وإذا أرادوا تجنبها لجأوا
عادة إلى الشعوذة اللفظية. أمّا تفاؤلهم المتطرف تجاه كل القضايا
فينقلب دائما إلى ضعف وإلى تشاؤم عندما تحين لحظة الحسم. أمّا بالنسبة
للنوع الأول الثوري الركيك، القانع، فإن مصاعب الاستيلاء على السلطة
تصبح في عينيه تجمعا وتكاثرا لكل المشاكل التي اعتاد أن يراها في
طريقه، في حين أن النوع الثاني المتفائل السطحي تبرز أمامه مصاعب العمل
الثوري دائما فجأة. وهذان النوعان يختلف سلوكهما أثناء فترة الإعداد،
فيبدو الأول كأنه عنصر تثبيط لا يمكن الاعتماد عليه من وجهة نظر ثورية،
في حين يظهر الثاني على عكس الأول كأنه ثوري شديد الشكيمة إلاّ أنهما
في اللحظات الحاسمة يسيران جنبا إلى جنب واليد في اليد ليعارضا
الانتفاضة، مع العلم أن كل العمل التحضيري ليس له من قيمة إذا لم يجعل
الحزب، وخاصة، هيأته القيادية قادرة على تحديد وقت الإنتفاضة وقيادتها،
إذ أن مهمة الحزب الشيوعي هي الاستيلاء على السلطة بفرض إعادة تشكيل
المجتمع.
وفي المدة الأخيرة جرى الحديث مرات عديدة قولا
وكتابة عن ضرورة بلشفة الأممية الشيوعية باعتبارها مهمة عاجلة لا محيد
عنها، خاصة وان تلك الضرورة بدت للعيان قاهرة بعد الدروس المريرة التي
حدثت في بلغاريا وألمانيا في السنة الماضية. إن البلشفية ليست نظرية
(أي ليست فقط نظرية) وإنما هي نظام Systeme تثقيف للثوريين من أجل
تثقيف الثورة البروليتارية. وما معنى بلشفة الأحزاب الشيوعية إذا لم
يكن تثقيفها وانتقاء القياديين من بين صفوفها، بحيث لا تولي الادبار
حين تحين ثورتها الأكتوبرية ؟
|