لقد أعطت قرارات مجلس أبريل للحزب قاعدة صحيحة،
ولكنها لم تضع حدا للخلافات في قمة القيادة فعلى العكس من ذلك تماما
اكتست تلك الخلافات خلال مجرى الحوادث صبغة أكثر تعقيدا، وبلغت قمة
حدتها في الأوقات الأكثر خطورة على الثورة إذا استثنينا أيام أكتوبر.
ذلك أن محاولة تنظيم مظاهرة 10 يونيو التي أوحى بها
لينين أدينت بالمغامرة، من قبل أولئك البلاشفة الذين لم يوافقوا على
الصبغة التي إكتستها تلك المظاهرة. ورغم أن مظاهرة 10 يونيو لم تتم لأن
مجلس السوفيات أصدر قرارا بمنعها، فإن الحزب ثأر لنفسه باستغلاله
مظاهرة بطرسبورغ العامة التي أخذ المبادرة فيها التوفيقيون بحذر،
وجعلها تسير تحت الشعارات البلشفية، إلاّ أن الحكومة التي أرادت أن
تكون لها الكلمة العليا، قامت بهجوم غبي على الجبهة وتحرج بذلك الموقف.
فوضع لينين الحزب في حالة تنبيه ضد أعمال الطيش، وكتب في 21 يونيو
قائلا في البرافدا: "أيها الرفاق إن أي تدخل في الساعة الراهنة سوف لا
يكون صادرا عن عقل، يجب علينا أن نمر الآن بمرحلة جديدة في ثورتنا".
وسجلت أيام يوليو خطوة هامة في طريق الثورة وفي
تطور الخلافات داخل الحزب، وقد لعب الضغط العفوي لجماهير مدينة
بطرسبورغ في هذه الأيام دورا حاسما. ولكن الشيء الأكيد أن لينين كان
يتساءل دائما عما إذا كان الوقت لم يحن بعد، وعما إذا كانت الحالة
الفكرية لم تتجاوز مجالس السوفيات باعتبارها بنية فوقية، وعما إذا لم
تكن قد خدرتنا الشرعية السوفياتية، وهل يواجهنا خطر التخلف عن الجماهير
وبالتالي قطع صلتنا بها، ويكاد يكون من المؤكد أن بعض العمليات
العسكرية المحضة قد تمت خلال أيام يوليو على أيدي بعض الرفاق الذين
اعتبروا بحق بأنهم لا يختلفون مع تقدير لينين للوضعية. وقد قال لينين
بعد ذلك: "لقد اقترفنا في يوليو ما فيه الكفاية من الحماقات" ولكن في
الحقيقة هذه المرة أيضا لم تتعد العملية نطاق الاستكشاف ولكن على مدى
أوسع، وفي مرحلة أكثر تقدما بالنسبة للحركة. وكان يجب علينا أن نقاتل
ونحن نتراجع. ولكن لينين والحزب لم يريا في عملية يوليو سوى حادثة
عارضة دفعا فيها ثمنا غاليا مقابل استكشاف قمنا به داخل صفوف قوات
العدو. ولم يكن في استطاعتها أن تغير من الخط العام لعملنا. وعلى العكس
من ذلك رأى الرفاق المعاودون لسياسة الاستيلاء على السلطة في حادثة
يوليو مغامرة مؤذية، وكان ذلك مناسبة لعناصر اليمين هذه لأن تقوي من
تحركها ولتجعل نقدها أكثر إحكاما. وعندئذ تغيرت لهجة الرد وكتب لينين
قائلا: "إن هذا العويل وهذه التصورات التي تحاول أن تبرهن على أنه كان
يجب عدم الاشتراك في حادثة يوليو، إنما آتية من مرتدين، إن كانت صادرة
عن بلاشفة، أو أنها مظاهرة خوف واضطراب مألوف لدى البرجوازية الصغيرة".
وكلمة مرتد هذه التي أطلقت في ذلك الحين تنير ببريق تراجيدي إلى
أي مدى بلغت الخلافات داخل الحزب. وعلى أثر ذلك أصبحت هذه الكلمة تظهر
بكثرة في الجدل الذي كان قائما على أشده.
إن الموقف الانتهازي إزاء قضيتي السلطة والحزب قد
أدى بالطبع إلى تحديد موقف مماثل إزاء الأممية، فقد حاول لينين دفع
الحزب إلى الاشتراك في مؤتمر الاشتراكيين-الديمقراطيين باستوكهولم.
إلاّ أن لينين رد في 6 أغسطس قائلا: "إن خطاب كامينيف في المركز
التنفيذي العام يوم 6 أغسطس حول مؤتمر ستوكهولم لا يمكن أن يكون مقبولا
من طرف البلاشفة المخلصين لحزبهم ولمبادئهم". وردا على التعبير الذي
قال أن الراية الثورية بدأت ترفرف على ستوكهولم كتب قائلا: "إنه إعلان
فارغ يعيش في عقل تشيرنوف Tchernov وتسيريتللي Tseretelli وهو فرية
صارخة، ليست الراية الثورية وإنما هي راية صفقات واتفاقات هدنة
الاشتراكيين الإمبرياليين. إنها راية مفاوضات أصحاب البنوك لاقتسام
الأراضي الملحقة، التي بدأت ترفرف على ستوكهولم".
إن الطريق الذي يؤدي إلى ستوكهولم هو في الحقيقة
الطريق الذي يوصل إلى الأممية الثانية، كما أن المشاركة في البرلمان
المؤقت توصل إلى الجمهورية البرجوازية. وكان لينين مع مقاطعة مؤتمر
ستوكهولم كما كان بعد ذلك مع مقاطعة البرلمان المؤقت، ورغم عنف النضال
فإنه لم ينس لحظة مهمة خلق أممية جديدة، أممية شيوعية.
كان لينين في 10 أبريل قد اقترح تغيير اسم الحزب
وواجه الاعتراضات التي قامت أمام اقتراحه قائلا: "أنا ها هنا أمام حجج
الروتين والخمود والسلبية". ثم ألح قائلا: "لقد حان الوقت لنزع قميصنا
المتسخ وتعويضه بثياب نظيفة" ورغم ذلك فإن المقاومة بين الأوساط
القيادية كانت قوية. وكان لا بد من انتظار عام كامل حتى يقرر الحزب
تغيير اسمه ويرجع إلى تقاليد ماركس وإنجلز. إن هذه الحادثة لها دلالتها
الخاصة إذ تبين مدى الدور الذي لعبه لينين طوال سنة 1917، حيث لم ينقطع
في أشد المنعطفات التاريخية سرعة، عن شن النضال العنيف داخل الحزب ضد
الأمس في سبيل الغد، خاصة وأن المقاومة الناجمة عن الأمس والتي ظهرت
تحت راية التقاليد بلغت أقصى حدتها.
وعصيان كورنيلوف الذي سبب تحولا لمصلحتنا لم ينه
تلك الخلافات، وإنما خفف من حدتها مؤقتا. ففي وقت من الأوقات ظهر بين
اليمين اتجاه يدعو إلى التقارب بين حزبنا وبين أغلبية السوفيات حول
الدفاع عن الثورة إلى حد ما عن الوطن، فكان رد لينين في سبتمبر في
رسالة له إلى اللجنة المركزية ما يالي: "إن قبول وجهة النظر القائلة
بالدفاع عن الوطن أو الذهاب (كما يفعل بعض البلاشفة) إلى حد الاتفاق مع
الاشتراكيين الثوريين ودعم الحكومة المؤقتة، يعني -كما أنا مقتنع
تماما- ارتكاب أفظع خطأ. وهو في الوقت نفسه برهان على الافتقار المطلق
للمبادئ، فنحن لن نكون دفاعيين إلاّ بعد استيلاء البروليتاريا على
السلطة.." ثم يضيف بعد ذلك قوله: "حتى في هذا الوقت يجب علينا أن لا
ندعم حكومة كرينسكي، وإذا لم نفعل ذلك فإننا نكون قد تجردنا من
المبادئ. وإذا ما سألوننا ألاّ نقاتل كورنيلوف نجيب نعم، نقاتله بكل
تأكيد. ولكن هناك فرقا بين مقاتلة كورنيلوف وتأييد كرينسكي، فبين
الأمرين حد فاصل. وهذا الحد تجاوزه بعض البلاشفة فسقطوا في أحضان
التوفيقية تاركين أنفسهم لتيار الحوادث لكي يجرفهم".
وقد سجل انعقاد المؤتمر الديموقراطي (14-22
سبتمبر)، وما تمخض عنه من مولد البرلمان المؤقت، مرحلة جديدة في تطور
الخلافات. وقد حاول المنشفيك والاشتراكيون الثوريون بواسطة الشرعية
البرلمانية البرجوازية فناصر اليمين البلشفي هذا التكتيك. وقد رأينا
فيما سبق الطريقة التي يطرح بها اليمين تطور الثورة: تحول مجالس
السوفيات بالتدريج وظائفها إلى المؤسسات المختصة: البلديات،
والزيمستفوات، والنقابات، وأخيرا الجمعية التأسيسية. وبهذا تختفي من
المسرح السياسي. عن مهمة البرلمان المؤقت هي إعداد وتوجيه أفكار
الجماهير السياسية نحو الجمعية التأسيسية التي ستتوج الثورة
الديموقراطية. لقد حدث في الوقت نفسه الذي أحرز فيه البلاشفة على
أغلبية السوفيات في كل من بطرسبورغ وموسكو، وأخذ نفوذنا في الجيش ينمو
يوما بعد يوم. إن المسألة هنا لا تتعلق بالتكهنات أو باستشفاف الأفاق
المقبلة، وإنما بالاختيار الذي يجب الالتزام به في الحال دون تأخير.
ورغم أن سلوك الأحزاب التوفيقية في المؤتمر
الديموقراطي كان دنيئا دناءة صارخة، فإن اقتراحنا بمغادرة هذا المؤتمر
علنا حيث كدنا نغرق فيه، كان يصطدم بمقاومة منظمة من عناصر اليمين التي
لا زالت تملك تأثيرا كبيرا في قيادة حزبنا، وكان الاصطدام حول هذه
المشكلة مقدمة للصراع حول مقاطعة البرلمان المؤقت. ففي 24 سبتمبر أي
بعد المؤتمر الديموقراطي كتب لينين: "يجب على البلاشفة أن ينسحبوا
احتجاجا، ولكي لا يقعوا في فخ المؤتمر الذي يسعى لتحويل اهتمام
الجماهير عن المشاكل الجدية".
وكان للنقاش داخل القسم البلشفي في المؤتمر
الديموقراطي حول مسألة مقاطعة البرلمان المؤقت، رغم محدودية مجاله
أهمية استثنائية، إذ كان في الحقيقة أوسع محاولة يقوم بها اليمينيون
لحشر الحزب في طريق "استكمال الثورة الديموقراطية". والمحضر المرقون
على الآلة لهذه المناقشات على الأغلبية لم يوجد. وعلى أية حال،
فحسب معلوماتي لم توجد حتى الآن أية ملاحظة للسكرتارية. إلا أن تحرير
هذه الدراسة مكنتني من العثور بين الأوراق على بعض المواد القليلة جدا
حول الموضوع. وقد قدم كامينيف الحجج التي جاءت بعد ذلك في صورة أكثر
عنفا وصفاء. ففي رسالته التي وجهها بمشاركة زينوفييف إلى منظمة الحزب
(11 أكتوبر) وكان نوجين هو الذي طرح المسألة في صورة أكثر منطقية حيث
قال بالحرف الواحد: إن مقاطعة البرلمان المؤقت تشكل نداء إلى العصيان،
أي تكرار لأيام يوليو. وما من أحد يستطيع مقاطعة مثل هذه المؤسسة لمجرد
كونها تحمل اسم البرلمان المؤقت.
لقد كانت الفكرة الأساسية لليمينيين أن الثورة تقود
بشكل لا مهرب منه من السوفيات إلى البرلمانية البرجوازية. وربما أن
البرلمان المؤقت يمثل خطوة في هذا الطريق، فليس هنالك من سبب يجعلنا
نرفض المشاركة ما دمنا سنحتل مراكز اليسار في البرلمان. إنه يجب - على
حد قولهم- استكمال الثورة الديموقراطية و"الاستعداد" للثورة
الاشتراكية. ولكن كيف يكون ذلك ؟ في رأيهم يكون عن طريق المدرسة
البرلمانية البرجوازية. ولما كانت البلدان المتقدمة تمثل صورة التطور
المقبل للبلدان المتخلفة، ولما كانوا قد نظروا إلى قلب القيصرية بمنظار
ثوري وهو ما حصل في الواقع، فإن استيلاء البروليتاريا على السلطة في
رأيهم سيكون عن طريق البرلمانية المنبثقة عن الديموقراطية المكتملة،
وبالتالي، حسب رأيهم، ستكون هناك فترة طويلة تمتد لعدة سنوات تفصل
الثورة البروليتارية عن الثورة البرجوازية، ويقوم في أثنائها نظام
ديموقراطي. لقد كان النضال من أجل المشاركة في البرلمان المؤقت نضالا
في سبيل "أوروبنة Europeaniser" الحركة العمالية وقولبتها في أقرب وقت
ممكن في مجرى "النضال" الديموقراطي "من أجل السلطة" أي في مجرى
الاشتراكية-الديموقراطية-. كان فريقنا في الاجتماع الديمقراطي يعد أكثر
من مائة عضو، ولم يكن يختلف في شيء - خاصة في تلك الظروف- عن أي مؤتمر
للحزب، وقد أعرب القسم الأكبر منه عن تأييده للمشاركة في البرلمان
المؤقت. وهذه الحقيقة وحدها كانت كافية، بحكم طبيعتها أن تثير قلقا
بالغا لدى لينين، فأخذ يدق ناقوس الخطر.
وكتب غداة المؤتمر الديمقراطي قائلا: "سوف نرتكب من
جانبنا، خطأ فادحا، ونقع في بلاهة برلمانية لا مثيل لها لو قبلنا
المؤتمر الديمقراطي أو البرلمان المؤقت. ذلك أنه حتى لو أعلن هذا
المؤتمر عن نفسه أنه البرلمان المستقر للثورة فإنه لن يقرر شيئا،
فالمقررات الحقيقية تتخذ خارجه حيث تقررها الأحياء العمالية في
بطرسبورغ وموسكو". أما موقفه من البرلمان المؤقت فتوضحها رسالته إلى
اللجنة المركزية المؤرخة في 29 سبتمبر والتي تتحدث عن "الأخطاء الصارخة
التي ارتكبها البلاشفة، كالقرار المخجل المتعلق بالمشاركة في البرلمان
المؤقت"، ففي اعتقاده أن هذا القرار يمثل الأوهام الديمقراطية
والضلالات البرجوازية الصغيرة التي لم تـنقطع أبدا عن النضال ضدها.
وليس صحيحا أن الثورة البرجوازية يجب أن يفصلها عن الثورة البروليتارية
سنوات طويلة. وليس صادقا القول بأن المدرسة البرلمانية هي الوحيدة أو
الرئيسية في التحضير للاستيلاء على السلطة. وليس صادقا أيضا القول بأن
الطريق المؤدي للسلطة يمر، بالضرورة، بالديمقراطية البرجوازية. إن
القول بمثل ذلك لا يكون سوى تجريدات خالية من الانسجام، وخطوط عريضة
نظرية ليس لها من نتيجة سوى تقييد الطليعة، ووضع أيديها في السلاسل. إن
القيام من خلال آلية الدولة "الديمقراطية" بالمعارضة التي تلعب دور
الظل السياسي للبرجوازية معناه هنا التجسيد الكامل
للاشتراكية-الديمقراطية. إن سياسة البروليتاريا يجب ألاّ تقاد من خلال
ملخصات مدرسية، وإنما من خلال المجرى الحقيقي للصراع الطبقي. يجب أن لا
نذهب للبرلمان وإنما يجب أن نعد الانتفاضة وننتزع السلطة من يد الخصم،
فالبقية تأتي بعد ذلك. وقد ذهب لينين إلى حد إثارة الدعوة لعقد مؤتمر
استثنائي للحزب يكون موضوعه الأساسي مقاطعة البرلمان المؤقت. وابتداء
من هذا التاريخ أخذت مقالاته بالأخص تنمي هذه الفكرة: يجب أن لا نمر من
خلال المؤتمر المؤقت وأن لا نضع أنفسنا قاطرة يجرها التوفيقيون. يجب
النزول للشوارع وشن النضال من أجل السلطة.
|