الفصل السابع |
|||
إن راديك إذ يتيه في المفهوم الستاليني التطوري المدّعي وغير الثوري حول "المراحل" التاريخية، يسعى الآن إلى تقديس شعار "ديكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية: بالنسبة للشرق عامة. ضمن "الفرضية العملية" البلشفية التي كيّفها لينين مع سير التطور في بلد محدّد وعدّلها وبلورها ثم أهملها في مرحلة معينة، من هذه الفرضية يبني راديك منهجا يرتفع فوق التاريخ. وحول هذه النقطة يكرّر بعناد في مقالاته: "هذه النظرية والخطة المستنبطة منها تنطبق على جميع البلدان ذات التطور الرأسمالي الفتيّ، حيث البرجوازية لم تحلّ مشكلة الإرث الذي تركته التكوينات الإجتماعية-السياسة السابقة". فكِّر أيها القارئ، بهذه الصيغة: أليست تبريرا لموقف كامنييف عام 1917 ؟ هل حلّت "البرجوازية الروسية مشكلات الثورة الديموقراطية بعد ثورة فبراير ؟ كلا، لقد ظلت هذه المشكلات بدون حلّ، بما فيها أهمها: المشكلة الزراعية. كيف أمكن أن يفشل لينين في أن يفهم أن الشعار القديم ما زال "ساري المفعول" ؟ ولماذا تخلّى عن هذا الشعار ؟ لقد أجابنا راديك حول هذه النقطة من قبل: لقد تخلى لينين عن هذا الشعار لأنه كان "قد تحقق". وقد تفحصنا هذه الإجابة. إنها متهافتة، ومتهافتة بشكل مزدوج على لسان راديك الذي يعتقد بأن جوهر الشعار اللينيني القديم لا يكمن مطلقا في أشكال الحكم ولكن في التصفية الفعلية لنظام الرق بواسطة تعاون البروليتاريا مع الفلاحين. ولكن هذا هو بالتأكيد ما لم تفعله الكرينسكية. وينتج عن ذلك أن عودة راديك إلى ماضي بلدنا بغية إيجاد حل لأخطر قضية من قضايا اليوم، القضية الصينية، ضرب من العبث ليس إلاّ. لم يكن المطلوب أن نتحرّى ما فهمه تروتسكي أو ما لم يفهمه عام 1905، ولكن ما لم يستطع أن يفهمه ستالين ومولوتوف وخاصة ريكوف وكامنييف بين فبراير ومارس 1917 (لست أدري ماذا كان موقف راديك في ذلك الحين). لأنه إذا اعتقدنا أن الديكتاتورية الديموقراطية قد "تحققت" إلى ذلك المدى في السلطة المزدوجة بحيث تقتضي تبدلا سريعا في الشعار الأساسي، إذن علينا أن نعترف بأن "الديكتاتورية الديموقراطية" قد تحققت في الصين بشكل أكمل وأشمل خلال نظام حكم الكيومنتانغ، أي خلال حكم تشانغ كاي تشيك ووانغ تشينغ-وي وذيلهما تانغ بينغ-شان(1). لذا، فمن الضروري جدا أن نغيّر الشعار في الصين. على كل، ألم تتم تصفية "الارث الذي تركته التكوينات الاجتماعية-السياسية السابقة" في الصين ؟ كلا، لم يتم تصفيتها بعد. ولكن، هل تمت تصفيتها في روسيا يوم 4 أبريل 1917 عندما أعلن لينين الحرب على الفئة العليا من "البلاشفة القدامى" ؟ إن راديك يناقض نفسه بشكل تعيس ويرتبك ويقفز من جهة لأخرى. فلنلاحظ، في هذا الصدد، أنه ليس من قبيل الصدفة أن يستعمل راديك تعبيرا معقدا مثل "الإرث الذي تركته التكوينات"، ويتلاعب بمشتقاته، ويتحاشى بشكل جلي استعمال عبارة أوضح مثل "بقايا الإقطاع أو الرق"، لماذا ؟ لأن راديك أنكر بالأمس فقط وجود هذه البقايا إنكارا تاما فنسف بذلك كل أساس لشعار الديكتاتورية الديموقراطية. ففي تقريره إلى "الأكاديمية الشيوعية" قال: "إن جذور الثورة الصينية لا تقل عمقا عن جذور ثورتنا عام 1905. وبامكاننا أن نؤكد أن تحالف الطبقة العاملة مع الفلاحين سيكون أقوى مما كان عليه عندنا في 1905، لسبب بسيط هو أن هذا التحالف لن يكون موجها ضد طبقتين اثنتين ولكن ضد طبقة واحدة هي البرجوازية". أجل، "لسبب بسيط". عندما توجّه البروليتاريا المتحالفة مع الفلاحين معركتها ضد طبقة واحدة في البرجوازية، وليس ضد بقايا الإقطاع ولكن ضد البرجوازية، ماذا تُسمى هذه الثورات إذا سمحت ؟ ثورة ديموقراطية ربما ؟ فلنتذكر فقط أن راديك لم يقل هذا عام 1905 ولا حتى عام 1909 ولكن في مارس عام 1927، فكيف نفهم ذلك ؟ ببساطة تامة. ففي مارس عام 1927 انحرف راديك أيضا عن الطريق المستقيم ولكن بالاتجاه آخر. في أطروحاتها حول الثورة الصينية، أدخلت "المعارضة" تصحيحا هاما للغاية على نظرة راديك الجزئية في ذلك الحين. ولكن الكلمات التي استشهدنا بها منذ قليل تحوي بعض الحقيقة: لا يكاد يوجد طبقة من أسياد الأرض في الصين، فمالكو الأرض فيها أكثر التصاقا بالرأسماليين مما كان عليه في روسيا القيصرية، لذلك فإن ثقل القضية الزراعية في الصين أقل مما كانوا عليه في روسيا القيصرية؛ ولكن، من جهة أخرى، فإن قضية التحرر الوطني أكثر أهمية. وبالتالي، فإن مؤهلات الفلاحين الصينيين للنضال السياسي الثوري المستقل من أجل تجديد البلد على أسس ديموقراطية لا يمكن أن تكون أكثر من مؤهلات الفلاحين الروس. وقد عبّر هذا عن نفسه، من بين تعبيرات أخرى، بعدم "نشوء "حزب نارودني" (شعبي) يرفع راية الثورة الزراعية في الصين قبل 1925 أو خلال السنوات الثلاث للثورة. إن كل هذا إنما يشير إلى أن صيغة الديكتاتورية الديموقراطية، بالنسبة للصين التي تركت وراءها تجربة 1925-1927، تشكل فخا رجعيا أشد خطورة مما كانت تشكله في روسيا بعد ثورة فبراير. إن الرحلة الأخرى التي يعود بها راديك إلى الماضي السحيق ترتد عليه بدون رحمة. يتعلق الأمر هذه المرة بشعار الثورة الدائمة الذي طرحه ماركس عام 1850(2). يقول راديك: "إن ماركس لم يطرح شعار الديكتاتورية الديموقراطية، في حين كان هذا الشعار بين 1905 و1907 المحور السياسي لفكر لينين وكان جزءا مكونا من مفهومه للثورة في جميع[ ؟] البلدان ذات التطور الرأسمالي البدائي[ ؟]." اعتمادا على بضعة أسطر من لينين، يفسر راديك الاختلاف في المواقف بإرجاعه إلى أن المهمة الأساسية للثورة الألمانية كانت الوحدة القومية، في حين هي في روسيا الثورة الزراعية. إذا لم تتم هذه المقارنة بشكل آلي، وإذا احتفظنا بحس للنسبة، يكون هذا القول صحيحا إلى حد ما. ولكن كيف يبدو الوضع بالنسبة للصين ؟ إن الوزن الخاص للقضية الوطنية في الصين، هذا البلد شبه المستعمر، لهو أكبر، ولا شك، من وزن للقضية الزراعية حتى كما كانت عليه ما بين 1848و1850،لأن القضية في الصين هي قضية توحيد وتحرّر في آن واحد. ولقد صاغ ماركس توقعاته حول الثورة الدائمة في زمن كانت العروش في ألمانيا ما تزال راسخة، وكان "الينكر" ما زالوا يملكون الأرض، ولا يسمح لقيادة البرجوازية بالتحرك إلاّ في كواليس الحكومة. أما في الصين، فقد انهارت الملكية منذ عام 1911، وطبقة ملاكي الأرض ليست موجودة بشكل مستقل، والكيومنتانغ البرجوازي-الوطني يسطر على الحكم وعلاقات الرق ممزوجة بشكل عضوي بالإستغلال البرجوازي. هكذا فالمقارنة بين مواقف ماركس ومواقف لينين التي خاض فيها راديك إنما ترتد ضد شعار الديكتاتورية الديموقراطية في الصين. غير أن راديك لا ينظر بجدية إلى موقف ماركس، فنظرته إليه عرضية وآنية تقتصر على منشورا عام 1850 حيث كان ماركس ما زال يعتبر الفلاحين الحلفاء الطبيعيين لديموقراطيي البرجوازية الصغيرة في المدن. كان ماركس في ذلك الحين يتوقع مرحلة مستقلة من الثورة الديموقراطية في ألمانيا، يستلم فيها الحكم لفترة قصيرة راديكاليو البرجوازية الصغيرة في المدن بدعم من الفلاحين. هذا هو بيت القصيد ! ولكن هذا هو بالتأكيد ما لم يحصل. وليس من قبيل الصدفة أنه لم يحصل. فحتى في منتصف القرن الأخير، أثبتت ديموقراطية البرجوازية الصغيرة عن عجزها عن تنفيذ ثورتها المستقلة. وقد تعلم ماركس من هذه الأمثولة. ففي 16 أبريل عام 1856، أي بعد مضي ست سنوات على صدور المنشور المنوّه عنه كتب ماركس إلى إنجلز: "يتوقف كل شيء في ألمانيا على إمكانية تغطية مؤخرة ثورة البروليتاريا بطبعة ثانية من "حرب الفلاحين"(3). إذّاك يصبح الأمر رائعا." إن هذه الكلمات المرموقة، التي يتجاهلها راديك تماما، تشكل مدخلا هاما لفهم ثورة أكتوبر ولفهم المشكلة التي تشغلنا هنا بشمولها: هل قفز ماركس عن الثورة الزراعية ؟ كلا، إنه لم يقفز عنها كما رأينا. هل اعتقد بضرورة تحالف العمال مع الفلاحين في الثورة القادمة ؟ أجل. هل توقّع أن يلعب الفلاحون دورا قياديا أو حتى مجرد دور مستقل في الثورة، كلا، لم يتوقع ذلك. فقد انطلق من أن الفلاحين، الذين لم ينجحوا في دعم الديموقراطية البرجوازية في الثورة الديموقراطية المستقلة (بسبب خطأ الديموقراطية-البرجوازية وليس بسبب خطأهم هم)، سيكونون في مركز يسمح لهم بدعم البروليتاريا في ثورتها. "إذاك يصبح الأمر رائعا". ولكن راديك لا يريد أن يعترف أن هذا هو بالتحديد ما حصل في أكتوبر، وقد حصل بشكل لا غبار عليه. أما فيما يخص الصين، فالاستنتاجات التي نخلص إليها هنا في غاية الوضوح. إن الخلاف لا يدور حول الدور الحاسم الذي يلعبه الفلاحون كحلفاء، ولكنه يدور حول ما إذا كانت الثورة الزراعية الديموقراطية المستقلة ممكنة في الصين. أم إذا كانت "طبعة ثانية عن حرب الفلاحين" هي التي ستدعم دكتاتورية البروليتاريا. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تطرح فيها المسألة. وكل من يطرحها بشكل مغاير يثبت أنه لم يتعلم شيئا ولا يفقه شيئا، بل إنه يضلل الحزب الشيوعي الصيني ويحرفه عن الطريق السليم. لكي تتمكن بروليتاريا البلدان الشرقية من شق طريق النصر، عليها أن تتخلص في البدء من نظرية ستالين ومارتينوف الرجعية المتحذلقة حول "المراحل" و"الخطوات"، وأن تطرحها جانبا وتهمشها وتكنسها. فلقد نضجت البلشفية خلال صراعها ضد هذا النوع من الذهنية التطورية المستبذلة. لسنا مطالبين بأن نكيّف أنفسنا مع خط سير جرى تحديده بشكل مسبق، ولكن بان نكيف أنفسنا مع الاتجاه الحقيقي الذي يسلكه الصراع الطبقي. فمن الضروري إذن أن نرفض فكرة ستالين وكيوسينين، هذه الفكرة التي تحدّد نظاما تسير وفقه البلدان على مختلف مستويات التطور فيها نحو الثورة؛ ذلك بأن موزّع عليها سلفا حصصا متنوعة من الثورية. علينا أن نكيف أنفسنا مع الاتجاه الحقيقي الذي يسلكه الصراع الطبقي، ومعيننا الذي لا ينضب في هذا المجال هو لينين، شرط أن نأخذ كل فكر لينين بعين الاعتبار. في عام 1919، وحّد لينين الاستنتاجات المتعلقة بالمرحلة السابقة وخاصة ما يتعلق منها بتنظيم "الأممية الشيوعية"، وصاغها صياغة نظرية متكاملة، وفسّر تجربة الكرنسكية وتجربة ثورة أكتوبر على الشكل التالي: في مجتمع برجوازي تتوفر فيه التناقضات الطبقية المتبلورة إما ان تقوم دكتاتورية برجوازية واضحة أو خفية، وإما أن تقوم دكتاتورية البروليتاريا. إن الكلام عن نظام وسيط كلام مرفوض. فكل ديموقراطية، وكل "دكتاتورية تمارسها الديموقراطية" (لينين هو الذي يسخر من هذا التعبير بوضعه بين هلالين) هي مجرد قناع لحكم البرجوازية الأمر الذي برهنت عليه تجربة أكثر البلدان الأوروبية تخلفا، روسيا، إبان ثورتها البرجوازية، أي إبان المرحلة المهيأة أكثر من غيرها لقيام "دكتاتورية تمارسها الديموقراطية". وقد اعتبر لينين هذا الاستنتاج قاعدة بنى عليها أطروحاته حول الديموقراطية التي لم تكن سوى تلخيص لتجارب ثورتي فبراير وأكتوبر. مثل الكثيرين غيره، يفصل راديك بشكل ميكانيكي قضية الديموقراطية عن قضية الدكتاتورية الديموقراطية. وهذا هو مصدر هفوات كبيرة. إن "الدكتاتورية الديموقراطية" ليست سوى قناع يستر حكم البرجوازية خلال الثورة. هذا ما تعلمنا إياه تجربة "السلطة المزدوجة" في بلدنا عام 1917 وتجربة الكيومنتانغ في الصين. إن الحالة اليائسة التي وصل إليها "رجال الصف الثاني" تتجلى بوضوح في كونهم ما زالوا إلى وقتنا هذا يحاولون مجابهة دكتاتورية البرجوازية ودكتاتورية البروليتاريا بالدكتاتورية الديموقراطية. ولكن هذا يعني أنه على الدكتاتورية الديموقراطية أن تكون ذا طابع انتقالي، إي أن تكون ذات مضمون برجوازي صغير. لذا، فإن مشاركة البروليتاريا فيها لا تبدّل شيئا في الأمر، لأن الطبيعة لا تعترف بقاسم حسابي مشترك بين مختلف الاتجاهات الطبقية. فإذا لم تقم دكتاتورية البرجوازية ولم تقم دكتاتورية البروليتاريا، إذن يجب أن تلعب البرجوازية الصغيرة الدور الموجه والحاسم. غير أن هذا يعودنا إلى نفس القضية التي أجابت عليها عمليا الثورات الروسية الثلاث والثورتان الصينيتان: هل بإمكان البرجوازية الصغيرة اليوم في ظل ظروف سيطرة الإمبريالية على العالم، أن تلعب دورا ثوريا قياديا في البلدان الرأسمالية، حتى ولو كانت القضية تتعلق بالبلدان المتخلفة التي ما تزال تواجهها مشكلة إنجاز مهامها الديموقراطية ؟ عرف التاريخ حقبات تمكنت فيها الفئات الدنيا من البرجوازية الصغيرة من إقامة دكتاتوريتها الثورية. هذا أمر نعرفه جميعا. ولكن جرى ذلك في حقبات لم تكن البروليتاريا فيها، أو سلف البروليتاريا، قد تميّز عن البرجوازية الصغيرة، بل على العكس كانت هده البروليتاريا في وضعها غير المتبلور النواة المقاتلة داخل البرجوازية الصغيرة. غير أن الوضع في زمننا هذا يختلف كل الاختلاف. فليس بإمكاننا التحدث عن مقدرة البرجوازية الصغيرة على توجيه حياتنا المعاصرة، حتى في مجتمع برجوازي متخلف، ما دامت البروليتاريا قد انفصلت عن البرجوازية الصغيرة وأخذت تعادي البرجوازية الكبيرة على أساس التطور الرأسمالي، الأمر الذي يؤدي إلى اضمحلال البرجوازية الصغيرة، ويواجه الفلاحين بخيار سياسي لا مفر منه بين البرجوازية الصغيرة والبروليتاريا. ففي كل مرّة يؤيد فيها الفلاحون حزبا برجوازيا صغيرا في مظهره الخارجي، يكونون عمليا قد دعموا رأس المال المصرفي. خلال فترة الثورة الروسية الأولى أو خلال الفترة ما بين الثورتين الأولى والثانية، كان بالإمكان أن توجد خلافات في الرأي حول درجة استقلال الفلاحين والبرجوازية الصغيرة في الثورة الديموقراطية (حول درجة الاستقلال ليس إلاّ)؛ أما الآن فإن سير الأحداث بمجمله خلال السنوات الاثنتي عشر الأخيرة قد حسم الموضوع بشكل نهائي. وقد أعيد طرح هذا الموضوع عمليا بعد ثورة أكتوبر في عدة بلدان وبجميع الأشكال والتركيبات الممكنة، وقد حسم في جميع هذه الأمكنة بالطريقة ذاتها. سبق وأشرنا إلى تجربة الكيومنتانغ على أنها تجربة أساسية على غرار التجربة الكرنسكية. ولكن يجب أن نولي التجربة الفاشية في إيطاليا نفس الأهمية، فهناك انتزعت البرجوازية الصغيرة المسلحة الحكم من أيدي الأحزاب البرجوازية القديمة لكي تسلمه رأسا بواسطة قيادتها إلى الأوليغاركية المالية. وطرحت القضية ذاتها في بولونيا، حيث كانت حركة "بيلسودسكي" موجهة بشكل مباشر ضد حكومة تحالف البرجوازيين ومالكي الأرض الرجعية، والتي كانت تعكس أماني الجماهير البرجوازية الصغيرة وحتى أوساط واسعة من البروليتاريا. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يعمد الاشتراكي الديموقراطي البولوني، وارسكي، إلى تشييد ثورة بيلسودسكي "بدكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية" خشية منه "أن يسيء تقدير الفلاحين". سوف أخرج عن الموضوع إذا حاولت تحليل التجربة البلغارية، أي السياسة المرتبكة التي اتبعها أمثال كولاروف وكاباكشييف تجاه حزب سطانبولسكي؛ أو التجربة الحزبية التي خاضها حزب العمال والمزارعين في الولايات المتحدة؛ أو تودد زينوفييف لرادييه؛ أو تجربة الحزب الشيوعي في رومانيا؛ وهكذا إلى ما لا نهاية. لقد حللت بعضا من هذه التجارب في خطوطها العريضة في كتابي "نقد مشروع برنامج الأممية الشيوعية". وقد خلصت من هذه التجارب إلى استنتاج أساسي يؤكد دروس أكتوبر ويدعمها، وبخاصة التي تقول منها أن البرجوازية الصغيرة بما فيها الفلاحون غير قادرة على لعب دور قيادي في مجتمع برجوازي معاصر حتى ولو كان مجتمعا متخلفا في حقبات ثورية أو رجعية على حدّ سواء. إن الفلاحين إمّا أن يدعموا دكتاتورية البرجوازية وإما أن يكون نضالهم حافزا لقيام دكتاتورية البروليتاريا. إن الأشكال الوسطية ما هي إلاّ أقنعة تخفي وراءها دكتاتورية برجوازية، عندما تكون هذه البرجوازية متعثرة أو غير قادرة على الوقوف على رجليها بعد فترة من الاضطرابات (الكرنسكية، الفاشية، نظام حكم بيلسودسكي). الفلاحون إما أن يتبعوا البرجوازية وإما أن يتبعوا البروليتاريا. ولكن عندما تزمع البروليتاريا على التقدم، بأي ثمن، حتى ولو لم يكن الفلاحون معها، فإنها تثبت في الواقع أنها أصبحت ذيلا لرأسمال المصرفي. أمثل على ذلك: العمال عندما دافعوا عن الوطن الأم في روسيا عام 1917؛ العمال، بما فيهم الشيوعيون أيضا، في الكيومنتانغ في الصين؛ العمال في الحزب الاشتراكي البولوني؛ الشيوعيون أيضا إلى حد ما في بولونيا عام 1927، إلى آخره. إن من لم يفكر بهذا الأمر حتى نهايته، ومن لم يفهم الأحداث من خلال الأثر الحديث الذي خلفته، فالأفضل له ألاّ يتدخل بالسياسة الثورية مطلقا. إن الاستنتاج الأساسي الذي خلص إليه لينين بشكل كامل ونهائي من دروس ثورتي فبراير وأكتوبر يرفض فكرة "الدكتاتورية الديموقراطية" رفضا تاما. وهذا ما كرره لينين أكثر من مرة بعد عام 1918: "إن الإقتصاد السياسي كله، إذا كان أحد قد تعلم منه
شيئا، وكل تاريخ الثورة، وكل تاريخ التطور السياسي خلال القرن التاسع
عشر يعلموننا أن الفلاح إما أن يتبع العامل وإما أن يتبع البرجوازي…
إلى المواطنين الذين لا يفهمون لماذا يحصل ذلك أقول… راقبوا تطور أي من
الثورات الكبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، راقبوا التاريخ
السياسي لأي بلد في القرن التاسع عشر ينبؤكم لماذا يحصل ذلك. إن
البنيان الإقتصادي للمجتمع الرأسمالي مركب بحيث لا يمكن لغير رأس المال
أو البروليتاريا أن يقلب القوى الحاكمة فيه. لا توجد قوى أخرى في
البنيان الاقتصادي لهذا المجتمع". القضية لا تتعلق هنا بإنكلترا أو ألمانيا. على أساس الدروس التي تقدمها أي من الثورات الكبرى في القرنين الثامن عشر أو التاسع عشر، أي الثورات البرجوازية في البلدان المتخلفة، يخلص لينين إلى الاستنتاج أن النظامين الممكنين هما دكتاتورية البرجوازية أو دكتاتورية البروليتاريا. فلا يمكن أن تقوم دكتاتورية "ديموقراطية" أي دكتاتورية وسيطة. **** وكما نرى، يصل راديك في نهاية نزهته النظرية والتاريخية إلى هذه الحكمة الهزيلة التي تقول أنه يجب تمييز الثورة الاشتراكية عن الثورة الديموقراطية. وبعد أن يخطو راديك هذه "الخطوة"، يرفع يده رأسا مستعينا بكيوسينين(4) الذي ينطلق من مورده الوحيد: "البدهية"، ويعتبر أنه من غير المعقول أن يرفع شعار دكتاتورية البروليتاريا في البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة في آن واحد. وبإخلاص رجل لا يفقه شيئا يتهم كوسينين هذا تروتسكي بأنه لم "يتعلم شيئا" منذ عام 1905. ويحدو راديك حدو كيوسينين فيبدي بدوره هذه الملاحظة اللاذعة: يعتقد تروتسكي "أن خصائص الثوريين الصينية والهندية تكمنان بالتحديد في أنه لا يمكن تمييزهما، بأي حال من الأحوال، عن الثورات في أوروبا الغربية، لذا يجب أن تؤديا منذ خطواتهما الأولى [ ؟ !] إلى دكتاتورية البروليتاريا". غير أن راديك ينسى أمرا بسيطا في هذا الصدد: لم يسبق أن تحققت دكتاتورية البروليتاريا في بلد أوروبي ولكنها تحققت بالتأكيد في بلد متخلف في شرق أوروبا. هل يجب أن يُلام تروتسكي إذا كانت العملية التاريخية قد تغافلت "خصائص" روسيا ؟ وينسى راديك أيضا أن البرجوازية، وبشكل أدق رأس المال المصرفي، يحكم في جميع البلدان الرأسمالية بالرغم من اختلاف في مستوى تطورها وفي بنيانها الاجتماعي وتقاليدها وما شابه، أي بالرغم من "خصائصها". هنا أيضا نجد أن التطور التاريخي هو الذي لم يحترم هذه الخصوصية وليس تروتسكي. أين، إذن، يكمن التمايز بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة ؟ إن التمايز كبير، غير أنه يبقى محصورا ضمن حدود طغيان العلاقات الرأسمالية. إن أساليب البرجوازية والأشكال التي يتخذها حكمها تختلف كثيرا باختلاف البلدان. ففي جهة، يتخذ هذا الطغيان طابعا مطلقا مباشرا كما في الولايات المتحدة. وفي الجهة المقابلة، يتكيف رأس المال المصرفي مع المؤسسات البالية الموروثة عن القرون الوسطى الآسيوية بأن يخضعها لسيطرته ويفرض عليها وسائله الخاصة، كما هو الحال في الهند. غير أن البرجوازية تحكم في كلا البلدين. وينجم عن ذلك أن دكتاتورية البروليتاريا ستأخذ بدورها طابعا متنوعا للغاية فيما يتعلق بأساسها الإجتماعي وأشكالها السياسية ومهامها العاجلة وسرعة عملها في مختلف البلدان الرأسمالية. غير أن قيادة جماهير الشعب نحو الانتصار على جبهة الإمبرياليين والإقطاعيين والبرجوازيين الوطنيين لا يمكن أن تتحكم إلاّ تحت هيمنة البروليتاريا الثورية التي تحول نفسها بعد استلامها الحكم إلى دكتاتورية البروليتاريا. يتوهم راديك أنه عندما يقسم الإنسانية إلى فئتين: فئة قد "نضجت" لتتقبل الدكتاتورية الاشتراكية، وفئة أخرى قد "نضجت" فقط لتتقبل الدكتاتورية الديموقراطية، فهو قد استطاع بهذا فقط، على العكس مني، أن يأخذ بعين الاعتبار ما يسمى "خصوصية" كل بلد بمفرده. وفي الواقع، إنه قد خرج "بكليشيه" ميتة لا تؤدي إلاّ إلى صرف الشيوعيين عن الدراسة الجدية لخصوصية بلد معين، أي عن التفسير الحي لمختلف الخطوات والمراحل التي يمر فيها التطور التاريخي في ذلك البلد. إن خصائص بلد لم يحقق ثورته الديموقراطية أو هو لم يكملها بعد لهي ذات مغزى عظيم بحيث يتوجب أخذها كأساس لبرنامج الطليعة البروليتارية. وفقط على أساس برنامج وطني كهذا يستطيع الحزب الشيوعي أن ينمّي نضاله الحقيقي بنجاح في سبيل أغلبية الطبقة العاملة وسائر الكادحين ضد البرجوازية وضد عملائها الديمقراطيين. إن إمكان نجاح هذا الصراع يتوقف إلى حد بعيد طبعا على الدور الذي تلعبه البروليتاريا في اقتصاد البلد، وبالتالي على المستوى الذي بلغه تطوره الرأسمالي. غير أن هذا ليس المحك الوحيد. ففي المنزلة ذاتها تقع مسألة ما إذا كان في البلد مشكلة عميقة عاجلة "عند الشعب" تهتم في حلّها أغلبية سكان الأمة؛ ويقتضي حلها اتخاذ الإجراءات الثورية الجرئية. من بين مشكلات من هذا النوع تقع القضيتان الزراعية والوطنية بتركيباتهما المختلفة. فبفضل القضية الزراعية المستعصية والاضطهاد الوطني الذي يطاق في البلدان المتخلفة، تستطيع البروليتاريا الفتية الصغيرة نسبيا ان تصل إلى إلى الحكم على أساس ثورة ديمقراطية وطنية قبل أن تصل البروليتاريا إليه في بلد متقدم على أساس اشتراكي فحسب. منذ ثورة أكتوبر، بدا وكأنه لا مبرر لاثبات ذلك، لكن خلال الردة الأيديولوجية وبسبب عقم "رجال الصف الثاني" النظري أصبح بديهيات المفاهيم الثورية مخنوقة ومتعفنة يطغى عليها شبح كيوسينين إلى درجة أن المرء مجبرٌ في كل مرّة على البدء من البداية. هل ينجم عما قلناه إن جميع بلدان العالم ناضجة اليوم، بشكل أو بآخر، لقيام الثورة الاشتراكية فيها ؟ كلا. إن هذه الطريقة هي طريقة زمرة ستالين-بوخارين الزائفة الميتة لطرح السؤال. إن الاقتصاد العالمي بمجمله ناضج لقيام ثورة اشتراكية. هذا أمر لا شك فيه. غير أن هذا لا يعني أن كل بلد بمفرده ناضج لقيام ثورة اشتراكية فيه. ماذا سيحصل إذن لدكتاتورية البروليتاريا في سائر البلدان المتخلفة كالصين والهند، إلى آخره ؟ على هذا السؤال نجيب: التاريخ لا يصنع حسب الطلب. إن بلدا ما قد يصبح "ناضجا" لدكتاتورية البروليتاريا ليس فقط قبل أن يكون ناضجا لبناء الاشتراكية بشكل مستقل، ولكن قبل أن يكون ناضجا لتقبل الإجراءات الاشتراكية البعيدة المدى أيضا. فلا يجب أن ننطلق من فرضية مسبقة تدّعي وجود انسجام في التطور الاجتماعي. إن قانون "التطور غير المتكافئ" ما زال على قيد الحياة بالرغم من عناقات ستالين النظرية الرقيقة له. وما زالت قوى هذا القانون تفعل ليس فقط في العلاقات بين البلدان، ولكن في العلاقات المتبادلة بين مختلف العمليات داخل البلد الواحد. ولا يمكن مصالحة العمليات الاقتصادية والسياسية غير المتكافئة إلاّ على الصعيد العالمي. وهذا يعني بشكل خاص أنه لا يمكن معالجة موضوع ديكتاتورية البروليتاريا في الصين بشكل منعزل وضمن حدود الاقتصاد الصيني والسياسة الصينية وحدهما. عند هذه النقطة بالذات يواجهنا موقفان ينفي أحدهما الآخر: النظرية الثورية العالمية التي تحمل اسم "نظرية الثورة الدائمة"، والنظرية الوطنية الإصلاحية التي تحمل إسم "نظرية الاشتراكية في بلد واحد". لا تستطيع الصين المتخلفة، ولا أي بلد آخر في العالم عامة، أن تبني الاشتراكية ضمن الحدود الوطنية: إن قوى الإنتاج ذات التطور السريع والتي تخطت الحدود الوطنية تقف في وجه مثل هذا العمل، وكذلك تفعل تلك القوى التي لم تتطور التطور الكافي لتقبل التأميم. إن دكتاتورية البروليتاريا في بريطانيا، مثلا، سوف تجابه مصاعب وتناقضات تختلف نوعيا عن تلك التي تجابهها دكتاتورية البروليتاريا في الصين. هذا صحيح، ولكن هذه المصاعب لن تكون أقل ضخامة مما هي في الصين. وفي كلا الحالتين، لا يمكن تجاوز هذه التناقضات إلاّ بالسير في طريق الثورة العالمية. هذا الموقف يسد الطريق يسد الطريق في وجه التساؤل عن مدى "نضج" الصين أو "عدم نضجها" للقيام بالتحويل الاشتراكي. ومما لا شك فيه أن تخلف الصين يزيد في صعوبة المهام المطروحة على دكتاتورية البروليتاريا. ولكن نكرر: التاريخ لا يصنع حسب الطلب، ولا خيار أمام البروليتاريا الصينية. هل يعني هذا، على الأقل، أن جميع البلدان، بما فيها أكثر البلدان المستعمَرة تخلفا، ناضجة ان لم يكن لبناء الاشتراكية فلقيام دكتاتورية البروليتاريا ؟ كلا، إنه لا يعني ذلك. ماذا، إذن، هو مصير الثورة الديموقراطية بشكل عام والثورة في المستعمرات بشكل خاص ؟ أجيب على السؤال بسؤال آخر: من قال أن كل بلد مستعمَر هو ناضج للحلّ السريع الشامل لمهامه الديموقراطية الوطنية ؟ ويجب معالجة المسألة من زاوية أخرى. في ظروف الحقبة الاستعمارية، يمكن تحقيق انتصار الثورة الديموقراطية الوطنية فقط عندما تكون العلاقات الاجتماعية والسياسية في بلد ناضجة لتسليم البروليتاريا الحكم بوصفها قائدة الجماهير الشعبية. ولكن، ماذا لو لم يكن الأمر كذلك ؟ إذن، يعطي النضال من أجل التحرر الوطني نتائج جد جزئية موجهة كلها وبشكل مباشر ضد الجماهير العاملة. في عام 1905، لم تكن البروليتاريا في روسيا من القوة بحيث تلفّ الجماهير الفلاحية حولها وتستولي على الحكم. بهذا السبب بالذات، توقفت الثورة في منتصف الطريق وغاصت في الرمال. أما في الصين، حيث منعت قيادة "الأممية الشيوعية" البروليتاريا الصينية من النضال لاستلام الحكم، بالرغم من الظروف المشجعة جداً، فقد وجدت المهام الوطنية حلّها البائس غير المستقر في نظام حكم الكيومنتانغ. لا يمكن التكهن متى وفي أية ظروف يصبح البلد المستعمَر ناضجا لحل مشكلاته الزراعية والوطنية بشكل ثوري حقيقي. وعلى كل حال، نستطيع أن نؤكد الآن أن كلا الصين والهند سوف تصلان إلى الديموقراطية الشعبية الحقيقية. أي إلى ديموقراطية العمال والفلاحين، فقط من خلال دكتاتورية البروليتاريا. وفي سيرهما على هذا الطريق قد تجتازان عدة مراحل وخطوات وأطوار. تحت ضغط جماهير الشعب سوف تستمر البرجوازية في اتخاذ خطوات نحو اليسار لكي تنقضّ فيما بعد على الشعب بدون شفقة. إن مراحل السلطة المزدوجة ممكنة ومتوقعة. ولكن من غير الممكن أو المتوقع أن تقوم دكتاتورية ديموقراطية حقيقية متميزة عن دكتاتورية البروليتاريا. إن دكتاتورية ديموقراطية "مستقلة" لا يمكن أن تكون إلاّ على غرار الكيومنتانغ، أي موجهة برمتها ضد العمّال والفلاحين. علينا أن نفهم هذا منذ البداية وأن نقوله للجماهير دون أن نخفي الحقائق الطبقية وراء الصيغ المجردة. يبشر ستالين وبوخارين بأن البرجوازية تستطيع أن تحقق الثورة الوطنية في الصين بسبب نير الاستعمار الذي ترزح تحته البلد. فتمت المحاولة. ماذا كانت النتائج ؟ سلمت البروليتاريا لسكين الجزار. فقيل إذاك: لن تأتي الدكتاتورية الديموقراطية. لقد برهنت دكتاتورية البرجوازية الصغيرة على أنها مجرد قناع لدكتاتورية رأس المال. بالصدفة ؟ كلا. "إن الفلاح إما أن يتبع العامل أو البرجوازي". في الحالة الأولى تقوم دكتاتورية البروليتاريا، وفي الثانية تقوم دكتاتورية البرجوازية. يبدو أن أمثولة الصين واضحة الوضوح الكافي حتى ولو درسنا الأمر عن بعد. فجاء الجواب. "لا. كانت تلك مجرد تجربة لم يكتب لها النجاح. سوف نبدأ من جديد ونقيم هذه المرة الدكتاتورية الديموقراطية "الأصلية". "بواسطة أية أساليب ؟" "على قاعدة اجتماعية يقوم عليها تعاون العمال والفلاحين". هذا هو الاكتشاف الأخير الذي يعرضه علينا راديك. ولكن، إذا سمحت، قام الكيومنتانغ على نفس القاعدة: "تعاون" فيه العمال والفلاحون لينفذوا المهام الخطرة لحساب البرجوازية. قل لنا كيف سيكون التركيب السياسي لهذا التعاون. بماذا سوف تستبدل الكيومنتانغ ؟ أية أحزاب ستستلم الحكم ؟ أشر إليها ولو تقريبا، صِفها على الأقل ! على هذه الأسئلة، يجيب راديك (عام 1928 !) إن الإنسان الذي انتهوا، والذين يعجزون عن فهم تعقيد الماركسية يمكن أن يكونوا مهتمين بسؤال تقني ثانوي كهذا حول أية طبقة ستكون الحصان وأية طبقة ستكون الفارس، في حين "يجرّد" البلشفي نفسه من البنيان الفوقي السياسي ويصيب اهتمامه على البنيان الطبقي. لا، اسمح لي، لقد قلت قولتك. لقد "جردت" نفسك بما فيه الكفاية. بل أكثر من الكفاية ! في الصين، "جردت" نفسك من قضية كيف يعكس التعاون الطبقي نفسه على القضايا الحزبية، وجررت البروليتاريا إلى الكيومنتانغ، ووقعت في هوى الكيومنتانغ إلى درجة أنك فقدت عقلك، وتملصت في قضايا النضال السياسي مرددا الصيغ المجردة. وبعد أن هشمت البرجوازية رأس البروليتاريا، ها أنت تقترح علينا: فلنبدأ من جديد، وفي البدء دعونا"نجرّد" أنفسنا من مسألة الأحزاب والحكم الثوري. لا ! إن هذه نكات قديمة. لن نسمح لأنفسنا بالعودة إليها. إن جميع هذه البهلوانات، كما شاهدنا، تتم باسم تحالف العمال والفلاحين. وينذر راديك "المعارضة" بأن لا تسيء تقدير الفلاحين ويستشهد في هذا الصدد بصراع لينين ضد المنشفيك. في بعض الأحيان، عندما يرى المرء المصير الذي آلت إليه كتابات لينين يستنكر بمرارة هذه الإساءات التي ترتكب ضد كرامة الفكر الإنساني. أجل، لقد قال لينين مرارا عديدة أن إنكار دور الفلاحين الثوري هو من ميزات المنشفيك. وكان على حق في ذلك. ولكن إلى جانب ذلك، هناك عام 1917، حيث أمضى المنشفيك الأشهر الثمانية بين ثورة فبراير وثورة أكتوبر وهم في تحالف متين مع "الإشتراكيين-الثوريين". وكان الإشتراكيون-الثوريون في ذلك الحين يمثلون غالبية الفلاحين الساحقة التي أيقضتها الثورة. وكان المنشفيك والإشتراكيون-الثوريون يسمون أنفسهم الديموقراطية الثورية ويجادلوننا قائلين أنهم الوحيدون الذين يرتكزون إلى تحالف العمال والفلاحين (والجنود). وهكذا استولى المنشفيك، بعد ثورة فبراير، على الصيغة البلشفية القائلة بتحالف العمال والفلاحين. واتهموا البلاشفة بأنهم يعملون على شق الطليعة البروليتارية عن الفلاحين وأنهم يساعدون بذلك على انهيار الثورة. وبكلمات أخرى، اتهم المنشفيك لينين بأنه يتجاهل الفلاحين، أو أنه يسيء تقديرهم في أحسن الأحوال. وكان النقد الذي وجهه كامينييف وزينوفييف وآخرون إلى لينين مجرد صدى لنقد المنشفيك. إن نقد راديك الحالي ليس بدوره إلاّ صدى بعيدا لنقد كامنييف. إن سياسة "رجال الصف الثاني" في الصين، بما فيها سياسة راديك، استمرار وتطوير لمهزلة النمشفيك عام 1917. لقد دافع ستالين وراديك معا على بقاء الحزب الشيوعي في الكيومنتانغ مستعملين الحجة ذاتها وهي ضرورة التحالف بين العمال والفلاحين. ولكن عندما تكشف "صدفة" أن الكيومنتانغ حزب برجوازي، تكرر نفس المحاولة من الكيومنتانغ "اليساري". فكانت النتائج هي ذاتها. وكنتيجة لذلك جرى انتشال تجريد الدكتاتورية الديموقراطية – المتميزة عن دكتاتورية البروليتاريا – من هذا الواقع التعيس الذي لم يحقق الآمال العظام، فكان تكرارا لما شاهدناه في السابق. في عام 1917، سمعنا "تسيريتللي" "ودان" وآخرين يرددون هذا القول مئات المرات: "لقد قامت دكتاتورية الديموقراطية الثورية، ولكنكم تسيرون باتجاه دكتاتورية البروليتاريا، أي أنكم تسيرون نحو الخراب". إن ذاكرات الناس لهي حقا ضعيفة إن "الدكتاتورية الديموقراطية –الثورية" التي ينادي بها ستالين وراديك لا تختلف بشيء عن "دكتاتورية الديموقراطيين و الثوريين" التي ينادي بها "تسيريتللي" "ودان" . وبالرغم من ذلك، فإن هذه الصيغة لا ترد في جميع مقررات الكومنترن فحسب، بل إنها قد أدرجت في برنامجه أيضا. من الصعب أن نتخيل مهزلة بهذه السفالة تكون في الوقت نفسه ثأرا مريرا للمنشفيك على الإهانات التي وجهتها البلشفية اليهم عام 1917. ومهما يكن من أمر، يبقى حق الثوريين في الشرق أن يسمعوا جوابا محددا للسؤال عن طابع "الدكتاتورية الديموقراطية" يكون مبنيا على الوقائع وعلى التجربة السياسية وليس على نصوص قديمة جاهزة. في جوابه على السؤال: ما هي "الدكتاتورية الديموقراطية" –كان ستالين يقدم الرد الكلاسيكي التالي: إنها بالنسبة للشرق نفس الصيغة التي :قدمها لينين بشأن عام 1905 في روسيا" وقد أصبح هذه الصيغة الرسمية إلى حد بعيد. وهي موجودة في الكتب والمقررات المتعلقة بالصين والهند وبولينزيا. وهو ينصح الثوريون بالعودة إلى "مفاهيم" لينين المتعلقة بأحداث قادمة، التي أصبحت الآن أحداثا سابقة، وعلاوة على ذلك تفسّر "مفاهيم" لينين الفرضية بهذه الطريقة أو تلك، ولكن ليس بالطريقة التي فسرها فيها لينين بعد أن مرّت الأحداث. "حسنا !" يقول الشيوعي الشرقي وهو يخفض رأسه. "سنحاول أن نفهم هذا الشعار كما فهمه لينين قبل الثورة، على حد قولكم. ولكن هل تسمحون بأن تقولوا لنا كيف يبدو هذا الشعار في الواقع ؟ كيف تحقق في بلدكم ؟". "لقد تحقق في بلدنا على شكل الكرنسكية في حقبة السلطة المزدوجة". "هل تريدوننا أن نقول لعمالنا إن شعار الدكتاتورية الديموقراطية سوف يتحقق في بلدنا على شكل كرنسكية محلية ؟" "ماذا تقول ؟ لا، أبدا ! فما من عامل يتبنى شعار كهذا، إن الكرنسكية تبعية للبرجوازية وخيانة للشعب العامل". فيسأل الشيوعي الشرقي بكآبة: "ولكن ماذا علينا أن نقول للعمال ؟" فيجيب كيوسينين(5)، الرجل المكلف بهذه المهمة: "عليك أن تقول لهم أن الدكتاتورية الديموقراطية هي تلك التي طرحها لينين فيما يتعلق بالثورة الديمقراطية القادمة". وإذا كان الشيوعي الشرقي غير محروم من ملكة التفكير، سوف يجيب: "ولكن، ألم يقل لينين عام 1917 أن الدكتاتورية الديمقراطية قد تحققت بشكل حقيقي أصيل فقط في أكتوبر التي أقامت دكتاتورية البروليتاريا ؟ أليس من الأفضل أن نوّجه الحزب والطبقة العاملة نحو هذا الهدف ؟". "ليس في أي حال من الأحوال. لا أريدك حتى أن تفكر بهذا. إنها الثورة الدائمة. إنها نزعة تروتسكية". بعد هذا التأنيب العنيف يغدو الشيوعي الشرقي أكثر بياضا من الثلج على أعلى قمم الهيملايا فيتخلى عن كل شغف للمعرفة. فليأت ما هو آت. وماذا تكون النتائج ؟ إننا نعرف جيدا: إما التمرّغ المشين عند أقدام تشانغ كاي-تشيك، وإما المغامرة البطولية. (1) تشانغ كاي تشيك هو قائد
الجناح اليميني في الكيومنتانغ، ووانغ شينغ-وي هو قائد الجناح اليساري
فيه. أما نانغ بينغ-شان فهو الوزير الشيوعي الذي نفذ سياسة ستالين
وبوخارين في الصين. (ل.ت.) (2) راجع المقطع الأساسي لهذا النص
في أول الكتاب (المترجم) (3) يستعمل ماركس عبارة "طبعة ثانية
من حرب الفلاحين" للإشارة بشكل مزدوج إلى كتاب انجلز "الحرب الفلاحية
في ألمانيا" وإلى ضرورة قيام حرب فلاحية حقيقية في آن واحد. (المترجم) (4) كيوسينين: قائد الحزب
الاشتراكي الفنلندي قبل عام 1917. إعتنق الشيوعية عام 1918 وسكن
الاتحاد السوفييتي. (5) كوسينين هو أحد قادة
الحزب الاشتراكي الفنلندي قبل 1917. إعتنق الشيوعية عام 1918. شغل عدة
مناصب حزبية أيام ستالين. توفي خلال هذا العام في الاتحاد السوفييتي.
(المترجم) |
|||