ما إن صار الاقتصاد السلعي الشكل المهيمن للاقتصاد في أوربا، وعلى الأقل في المدن خلال القرن الثامن عشر. حتى شرع العلماء بالتساؤل حول الأسس التي يستند هذا الاقتصاد إليها. فالتبادل هنا لم يعد يتم إلا بواسطة المال. وصارت قيمة كل سلعة في التبادل تحتسي بالمال. فما الذي يعنيه احتساب تلك القيمة بالمال وعلام تقوم قيمة كل سلعة في التجارة؟ كان هذان أول سؤالين يدرسهما الاقتصاد السياسي، وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حقق الإنكليزيان آدم سميت وديفيد ريكاردو، ذلك الاكتشاف الكبير الذي يقول بأن قيمة سلعة ما تقاس بالعمل البشري الذي يُبذل في سبيلها، وبأن كميات متساوية من عمل مختلف هي التي يتم تبادلها عبر تبادل السلع. المال ليس سوى الوسيط وكل ما يقوم به هو التعبير عن كمية العمل المبذول في كل سلعة. إنه لمن المدهش حقا أن يكون في وسعنا في هذه المجال الحديث عن اكتشاف كبير، إذ قد يكون ممكنا الاعتقاد بأن ليس ثمة ما أوضح من هذا أي من القول بأن تعادل السلع يقوم على أساس العمل المبذول في سبيلها. فالواقع أن اعتيادنا على التعبير عن قيمة السلع بواسطة الذهب كان قد أخفى هذا الوضع الطبيعي. عندما كان الاسكافي والخباز يتبادلان منتجاتهما كان من الواضح أن التبادل يتم لأن كل واحد من المُنتجِين قد كلف عملا ما رغم استخدامهما المختلف، وأن لكلٍ منهما نفس قيمة الآخر بالنظر إلى أنهما قد تطلبا نفس الوقت. فإذا قلت أن زوجا من الأحذية يكلف عشر ماركات، من الواضح أن هذا التعبير يكون أول الأمر غامضا كل الغموض. فما هو الجامع المشترك بين زوج من الأحذية وعشر ماركات، وما الذي يجعلهما متساويين، وقادرين على التبادل فيما بينهما؟بل كيف لنا أن نقيم مقارنة بين مثل هذه الأشياء المختلفة؟ وكيف يمكننا أن نأخذ مقابل منتوج نافع كالأحذية، شيئا غير نافع وخال من أي معنى هو عبارة عن اسطوانات ذهبية أو فضية صغيرة مدفوعة؟ وكيف حدث أن تلك الاسطوانات المعدنية الصغيرة حازت على القوة السحرية التي جعلتها قابلة للاستبدال بكل ما في هذا العالم من أشياء؟.
إن مؤسسي الاقتصاد السياسي (سميث وريكاردو وغيرهما) لم يتمكنوا أبدا من الإجابة على كل هذه الأسئلة. فاكتشاف أن ثمة في كل قيمة تبادلية لكل سلعة وفي المال كذلك، عملا بشريا، وأن قيمة كل سلعة على هذا النحو تكون على قدر ما تطلّبه إنتاجها من العمل والعكس بالعكس، ليس معناه سوى الاعتراف بنصف الحقيقة. أما نصفها الآخر فيقوم في تفسير كيف ولماذا يتخذ العمل الإنساني شكله الغريب كقيمة تبادلية، وشكله الغامض كمالٍ. إن مؤسسي الاقتصاد السياسي الإنكليز لم يطرحوا على أنفسهم أبدا هذا السؤال، وذلك لأنهم كانوا يرون في واقع إنتاج سلع للتبادل وللحصول على المال خاصية طبيعية من خصائص العمل البشري، أي إنهم بكلمات أخرى كانوا يقرون بأن على الإنسان أن ينتج بيديه سلعا للتجارة بشكل طبيعي طبيعية تناوله الطعام أو الشراب، وأن الأمر ليس استثنائيا إلا إذا كان الشعر على الرأس أو الأنف في وسط الوجه أمرين استثنائيين. وهم كانوا يؤمنون بهذا إلى درجة جعلت آدم سميث يتساءل عما إذا كانت الحيوانات أيضا لا تتاجر فيما بينها. وهو لا يجب على تساؤله هذا سلبيا إلا لأنه تيقن في أن أحدا لم يشهد مثل هذه الأمور لدى الحيوانات. وعن تقسيم العمل يقول آدم سميث: «إنه النتيجة الحتمية، حتى ولو كانت بطيئة وتدريجية، لمنحى معين تتخذه الطبيعة البشرية: منحى باتجاه التبادل، باتجاه العون المتبادل، وباتجاه المتاجرة بشيء مقابل شيء آخر. ليس هنا مجال دراسة ما إذا كان هذا المنحى واحدا من الغرائز العائدة للطبيعة الإنسانية، التي لا يمكننا أن نتفهمها تماما، أما أنها، وهو الأمر الأكثر احتمالا، النتيجة الحتمية لوجود العقل واللغة. إن هذا المنحى مشترك بين جميع البشر لكنه غير ذي وجودٍ لدى أي نوع حيواني آخر إذ يبدو أن تلك الأنواع لم تعرف لا هذا النوع من التبادل ولا أي نوع آخر»[1] .
يؤكد لنا هذا التصور الساذج أن مؤسسي الاقتصاد السياسي كانوا على قناعة بأن النظام الاجتماعي الرأسمالي الذي يكون كل شيء فيه سلعة وينتج كل شيء فيه من أجل التجارة، هو النظام الاجتماعي الوحيد الممكن والخالد. وأن هذا النظام سيدوم ما دامت حياة النوع البشري على الأرض.
كارل ماركس، الذي انطلاقا من كونه اشتراكيا لم يكن ينظر إلى النظام الرأسمالي بوصفه النظام الوحيد الممكن أبدا، بل كان يعتبره شكلا اجتماعيا تاريخيا وعابرا، كارل ماركس كان أول من أقام مقارنات بين الوضع الراهن والأوضاع في العصور السابقة.
واستنتج في مقارناته أن البشر قد عاشوا وعملوا خلال ألوف السنين دون أن يعرفوا شيئا عن المال أو عن التبادل. وفقط حين توقف كل عمل مشترك ومخطط في المجتمع وحين تفتت المجتمع إلى خليط فوضوي ولا شكل له يتألف من منتجين أحرار ومستقلين، يعملون على أساس الملكية الخاصة، صار التبادل الوسيلة الوحيدة لجمع الأفراد المشتتين ولتوحيد نشاطاتهم في اقتصاد اجتماعي متماسك. عندها كان التخطيط الاقتصادي السابق والمشترك للإنتاج قد استبدل بالمال الذي صار الرابط الاجتماعي الوحيد المباشر، لأنه أصبح الحقيقة الوحيدة المشتركة بين مختلف الأعمال الخاصة، قطعة من عمل إنساني لا فائدة لها، ومنتوجا خاليا من أي معنى وعاجزا عن أن يكون له أي استخدام في الحياة الخاصة. غير أن هذا الاختراع الخالي من المعنى صار الآن ضرورة بات معها أي تبادل، وبالنتيجة كل تاريخ الحضارة منذ انحلال المشاعية البدائية، أمرا مستحيلا. إن منظري الاقتصاد السياسي البرجوازيين يعتبرون المال أمرا بالغ الأهمية ولا غنى عنه، ولكن فقط من وجهة نظر الشراكة الخارجية في عمليات التبادل. ففي الحقيقة ليس بوسعنا أن نقول هذا عن المال إلا بالمعنى الذي نقول فيه مثلا أن الإنسانية قد اخترعت الدين على سبيل الترف. فالمال والدين هما نتاجان من نتاجات الحضارة البشرية، ولهما جذور تغوص في أوضاع محددة للغاية وعابرة، وتماما كما أنهما ولدا يوما، كذلك سيصبحان فائضين عن الحاجة ذات يوم. إن النفقات الهائلة التي تبذل سنويا في سبيل إنتاج الذهب، وكذلك نفقات العبادة ومثلها النفقات المخصصة للسجون وللجيوش ولأجهزة الخدمات العامة، وكلها نفقات تلقي ثقلها على الاقتصاد الاجتماعي، وتبدو نفقات ضرورية بالنسبة لهذا الشكل من أشكال الاقتصاد، سوف تزول من تلقائها مع زوال الاقتصاد السلعي.
إن الاقتصاد السلعي في أواليته الداخلية، يبدو لنا نظاما اقتصاديا متماسكا غاية التماسك وقائما على أسمى مبادئ الأخلاق، فمن جهة تهيمن فيه حرية فردية تامة حيث يشتغل كل واحد فيما يشاء، كما يشاء وبقدر ما يشاء، وحسب لذته الخاصة، هنا كل واحد سيد نفسه وليس له إلا أن يهتم بمكسبه الخاص. ومن جهة ثانية يبادل البعض سلعهم، أي منتوج عملهم، بمنتجات الآخرين، أي ثمة عملا يبادل بعمل تبعا لكميات متساوية بشكل عام. إذن ثمة هنا مساواة وتبادل في المصالح. ومن جهة ثالثة ليس ثمة في الاقتصاد السلعي سوى سلعة مقابل سلعة. وسوى منتوج عمل مقابل منتوج عمل. وإنها لأعلى درجات المساواة. الحقيقة أن فلاسفة القرن الثامن عشر وسياسييه الذين كانوا يناضلون من أجل انتصار الحرية الاقتصادية ومن أجل إلغاء آخر بقايا علاقات السيطرة القديمة ونظم المنغلقات والسخرة الاقطاعية، رجال الثورة الفرنسية الكبرى كانوا يعدون الإنسانية بجنات على الأرض وبحكمٍ تسود فيه الحرية والمساواة والإخاء.
خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر كان ثمة اشتراكيون مهمومون يرون هذا الرأي نفسه. فحين تم تأسيس الاقتصاد السياسي العلمي، وحقق سميث وريكاردو ذلك الاكتشاف الكبير القائم على أساس أن كل قيمة السلع تستند على العمل الإنساني، تصور عدد من أصدقاء الطبقة العملة أن المساواة والعدالة الكاملتين سيهيمنان على المجتمع فقط عبر القيام بعمليات تبادل السلع بشكل عادل. وذلك لأنه إذا ما بودل على الدوام عمل مقابل عمل بكميات متعادلة، سيكون من المستحيل حصول تفاوت في الثروات، اللهما إلا ذالك التفاوت الحق بين العامل المجتهد والعامل الكسول، وبهذا سيتوجب على ثروة المجتمع كلها أن تكون بالضرورة ملكا لأولئك الذين يعملون أي لأبناء الطبقة العاملة أما إذا كنا نرى على أي حال [2] في المجتمع الراهن فوارق كبيرة في وضع البشر، حيث تكون الثروة موجودة إلى جانب البؤس (والثروة بالتحديد لدى أولئك الذين لا يعملون أبدا، والبؤس بالتحديد نصيب أولئك الذين يخلق عملهم كل القيم) فما لا شك فيه أن هذا الوضع متأتٍ عن شيء من الغش في التبادل يعود إلى كون المال يدخل كوسيط في عملية تبادل منتجات العمل. إن المال يخفي واقع أن الأصل الحقيقي لكل ثروة هو العمل لأنه يؤدي إلى تذبذب مستمر في الأسعار ويوفر إمكانية تحديد أسعار عشوائية وقيام عمليات احتيال ومراكمة للثروات لدى البعض على حساب البعض الآخر. إذن لنلغ المال! هذه الاشتراكية التي تهدف إلى إلغاء المال ظهرت أول الأمر في إنكلترا حيث دافع عنها منذ عشرينات وثلاثينات القرن التاسع عشر، مؤلفون موهوبون مثل تومبسون وبراي وغيرهما، ثم أتى عالم الاقتصاد المحافظ والمشهور رودبرتوس ليعيد اختراع هذا النوع من الاشتراكية في بروسيا، ثم للمرة الثالثة أعاد برودون ابتكار هذا النوع من الاشتراكية في فرنسا في العام 1848. بل ولقد كان هناك من أجرى تجارب عملية. فبتأثير من براي، أنشئت في لندن وفي غيرها من المدن الإنكليزية «أسواق من أجل التبادل العادل للعمل» كانت البضائع تحمل إليها ويتم تبادلها بشكل منظم تبعا لزمن العمل الذي تحتويه، دون أي وساطة مالية. ولهذا الغرض نفسه اقترح برودون تأسيس «المصرف الشعبي». غير أن هذه المحاولات سرعان ما فشلت كما فشلت تلك النظرية أيضا. فالواقع أن تبادل السلع بدون نقد أمر غير وارد على الإطلاق وتذبذب الأسعار الذي كانت ثمة رغبة في إلغائه، إنما هو الوسيلة الوحيدة التي تشير لمنجي السلع بما إذا كانوا ينتجون أكثر أو أقل من اللازم من هذه السلعة أو تلك، وإذا ما كانوا يستخدمون في إنتاجهم عملا أقل أو أكثر من اللازم. فإذا جرى إلغاء هذه الوسيلة الوحيدة للتفاهم بين منتجي السلع المعزولين في ظل ذلك الاقتصاد الفوضوي، من الواضح أن أولئك المنتجين سيكون مصيرهم الإفلاس إذ لن يكونوا فقط صُما –خرسا بل عميانا أيضا. عند ذاك سيتوقف الإنتاج ويتدهور برج بابل الرأسمالي بأسره. إذن فالخطط الاشتراكية التي كانت تريد أن تجعل من الاقتصادي الرأسمالي السلعي اقتصادا اشتراكيا وفقط عن طريق إلغاء المال، هي من قبيل اليوتوبيا لا أكثر ولا أقل.
فيما يا ترى حديث الحرية والمساواة والخاء في هذا الإنتاج السلعي؟ وكيف يمكن أن يكون ثمة تفاوت في الثروات في هذا الإنتاج السلعي، حيث لا يمكن لكل واحد أن يحصل على شيء إلا مقابل إنتاج العمل، وحيث يتم تبادل قيم متساوية بقيم متساوية؟ ومع هذا نعرف أن الاقتصاد الرأسمالي يتميز بتفاوت صارخ في الوضع المادي للبشر عن طريق تراكم الثروات لدى البعض وتنامي البؤس لدى الجماهير. أما السؤال الذي ينتج منطقيا عما سبق فهو السؤال التالي: تُرى كيف للاقتصاد السلعي ولتبادل السلع تبعا لقيمتها، أن يجعلا الرأسمالية أمرا ممكنا؟
[1]. آدم سميث: "ثروات الأمم"
[2]. ملاحظة هامشية من روزا (بالقلم): راجع جون بيليرز، برنشتاين، المجلة الانغلكانية، ص 354.