إن على كل من يتصدى لدراسة التاريخ الاقتصادي، ويريد معرفة مختلف الأشكال التي تتخذها العلاقات الاقتصادية لمجتمع ما خلال تطوره التاريخي، عليه أن يعرف، أولا، وبكل وضوح، أي طابع مميز من طوابع هذه العلاقات الاقتصادية، عليه أن يأخذه كحجر للأساس وكوحدة لقياس هذا التطور. وعليه، لكي لا يضيع ضمن وفرة الظواهر في مجال محدد، ولاسيما لكي يكتشف نظام تعاقبها التاريخي عليه أن يعرف، وبكل وضوح، أي عامل هو المحور الداخلي الذي تدور من حوله هذه الظواهر. لقد اتخذ مورغان لقياس تاريخ الحضارات، وكحجر أساس للمستوى الذي وصلت إليه هذه الحضارات، عاملا محددا للغاية هو تطور تقنية الإنتاج. وهو، إذ فعل هذا، نظر إلى الحضارة البشرية كلها في جذورها، وعرّى هذه الجذور. غير أن مقولة مورغان ليست بكفاية بالنسبة إلى التاريخ الاقتصادي. فالواقع أن تقنية العمل الاجتماعي تظهر لنا المستوى الذي وصل إليه البشر في مجال الطبيعة الخارجية. وكل خطوة إلى الأمام على طريق تحسين تقنية الإنتاج، هي في الوقت نفسه، خطوة إلى الأمام على طريق خضوع الطبيعة المادية للعقل البشري، وخطوة إلى الأمام على طريق تطور الحضارة البشرية العالمية. في هذه الأثناء، إذا كنا راغبين في دراسة أشكال الإنتاج داخل المجتمع، لا تكفينا علاقات الإنسان بالطبيعة على الإطلاق لتحقيق هذا، وذلك لأن ما يهمنا، بالدرجة الأولى، هو سمة أخرى من سمات العمل البشري: إنها سمة علاقات البشر بين بعضهم البعض خلال العمل، وأعني بهذا: التنظيم الاجتماعي للإنتاج. فإذا كنا نعلم أن شعبا بدائيا يعرف «دورة صانعة الخزف» ويصنع الآنية، يكون هذا شيئا مميزا يدل على درجة الحضارة التي وصل إليها هذا الشعب. ولقد جعل مورغان من هذا التقدم الهام للتقنية إشارة، ذات دلالة، لمرحلة كاملة من مراحل الحضارة، عرفها بأنها مرحلة العبور من الحالة الوحشية إلى البربرية. غير أنه ليس بامكاننا، بعد، أن نحكم على نمط الإنتاج لدى هذا الشعب انطلاقا من هذا الأمر. بل يتوجب علينا، للوصول إلى هذا، أن نعرف مجموعة كاملة من الظروف، وأن نعرف من هو الذي يمارس، في هذا المجتمع، فن صنع الآنية، وأن نعرف ما إذا كان كافة أفراد المجتمع، أو قطاعا منه فقط، عائلة مثلا، أو النساء، هم الذين يتولون صنع الآنية بشكل جماعي، وأن نعرف ما إذا كان نتاج صنع الآنية (أي الآنية نفسها) يستخدم من قبل الجماعة نفسها، القرية مثلا، لاستخدامها الخاص، أو أنه يستخدم للتبادل مع جماعات أخرى، وأن نعرف ما إذا كان إنتاج كل فرد يصنع الآنية، يستخدم من قبل هذا الشخص فقط، أم أن كافة الآنية المصنوعة تستخدم بشكل جماعي من قبل كافة أعضاء الجماعة.
إن العلاقات الاجتماعية القادرة على تحديد طابع نمط الإنتاج في مجتمع ما، متعددة ومتنوعة: تقسيم العمل، توزيع المنتوج بين المستهلكين، تبادل...الخ. وهذه السمات الخاصة بالحياة الاقتصادية هي نفسها تخضع في تحديدها لهيمنة عامل حاسم من عوامل الإنتاج. للوهلة الأولى من الواضح أن تقسيم المنتوج وتبادله، لا يمكنهما إلا أن يكونا ظاهرتين متحدرتين من ظواهر أخرى. إذ لكي يمكن توزيع المنتوج وتبادله بين المستهلكين، ينبغي-أول الأمر- صنعه. إذن فالإنتاج هو العامل الأول والأكثر أهمية في الحياة الاقتصادية للمجتمع. والعامل الحاسم في سيرورة الإنتاج هو السؤال التالي:
ما هي العلاقات بين أولئك الذين يعملون، وبين أدوات الإنتاج؟
إن كل عمل يتطلب عددا من المواد الأولية، ومكانا محددا للقيام بالعمل ثم... بعض العدد (بضم العين). ونحن نعلم، مسبقا، أية أهمية تكون لهذه العدد، ولمسألة صنعها، داخل حياة المجتمع البشري. وإلى هذا كله تضاف قوة العمل البشري، وذلك من أجل إنجاز العمل بالاشتراك مع هذه العدد وأدوات الإنتاج الأخرى، ومن أجل إنتاج المواد الاستهلاكية الضرورية لحياة المجتمع. بيد أن المسألة الأولى في الإنتاج والعامل الحاسم فيه، هي علاقات البشر العاملين مع وسائلهم الإنتاجية. نحن لا نتحدث هنا عن العلاقات التقنية، ولا عن الطابع الأكثر أو الأقل اكتمالا لأدوات الإنتاج التي يستخدمها الناس، ولا عن الطريقة التي بها ينجزون عملهم. إننا نتحدث عن العلاقات الاجتماعية بين قوة العمل البشري، وبين أدوات الإنتاج الجامدة... ونطرح السؤال الأساسي التالي: من هو الذي يملك أدوات الإنتاج؟ على مجرى الزمن، حدثت في هذه العلاقات تغييرات عديدة. وفي كل مرة كان طابع الإنتاج وتوزيع المنتوج، والشكل الذي يتخذه تقسيم العمل، واتجاه التبادل وأهميته، وباختصار كل الحياة المادية والذهنية للمجتمع، كان هذا كله يتعرض لتغييرات أساسية. وتبعا لما إذا كان العاملون يمتلكون –شراكة- أدوات إنتاجهم، أو أن كلا منهم يمتلكها بنفسه، أو إذا كان العاملون –على عكس هذا- هم، مثل أدوات الإنتاج نفسها، مملوكين لأولئك الذين لا يعملون، أو أنهم مربوطون –كعبيد- إلى أدوات الإنتاج، أو أحرار لكنهم لا يملكون أدوات الإنتاج مما يجبرهم على بيع قوة عملهم بوصفها واحدة من أدوات الإنتاج- تبعا لمعرفة هذا كله نصبح إما أمام اقتصاد شيوعي، أو اقتصاد فلاحين صغار، أو اقتصاد حرفي، أو اقتصاد عبودي، أو اقتصاد فيودالي –إقطاعي-، أو حتى اقتصادي رأسمالي يرتكز على العمل المأجور.
إن لكل واحد من هذه الأنماط الاقتصادية، شكل تقسيم العمل الخاص به، وكذلك أسلوب توزيع الإنتاج والتبادل والحياة الاجتماعية، القضائية أو الذهنية. وحسبنا، في التاريخ الاقتصادي للبشر، أن تكون العلاقات بين العاملين وأدوات الإنتاج، خاضعة لتغير جذري، لكي تتغير كافة السمات الأخرى الخاصة بالحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وبشكل جذري أيضا، وكذلك لكي يولد مجتمع جديد تمام الجدة. وثمة، كما هو واضح، نوع من التفاعل المتبادل المستمر بين كل هذه السمات العائدة إلى الحياة اقتصادية للمجتمع. فليس فقط أن علاقات قوة العمل بأدوات الإنتاج تؤثر على تقسيم العمل وعلى توزيع الإنتاج وعلى التبادل، بل أن هذه العوامل بدورها تؤثر على علاقات الإنتاج. غير أن طريقة التأثير تختلف. فتشكل تقسيم العمل الذي يهيمن في كل مرحلة اقتصادية، وتوزيع الثروات، والتبادل، كلها أمور بامكانها أن تنسف، شيئا فشيئا، العلاقات بين قوة العمل وأدوات الإنتاج التي تكون قد تمخضت عنها. بيد أن شكلها لا يتغير، إلا حين يحدث انقلاب جذري، وثورة في العلاقات، المتجاوزة، بين قوة العمل وأدوات الإنتاج. فهل تشكل الانقلابات في العلاقة بين قوة العمل وأدوات الإنتاج، يا ترى، تلك الانعطافات الأساسية على طريق مسيرة التاريخ الاقتصادي؟ وهل تراها تحد من حيز المراحل الطبيعية في الصيرورة الاقتصادية للمجتمع؟ إنه لمن المهم جدا لفهم التاريخ الاقتصادي، أن نميز بوضوح بين الأساسي وغير الأساسي، وهذا ما يوضحه لنا تفحص دقيق للمنهج المقبول أكثر من غيره الآن في ألمانيا من قبل الاقتصاد السياسي البرجوازي، والمعمول به بشكل اعتيادي لتقسيم التاريخ الاقتصادي. ويراود ذهننا، في هذا المقام، التقسيم الذي أتى به البروفسور بوخر. ففي كتابه المسمى «تكوّن الاقتصاد القومي»، يعرض هذا الأستاذ، أهمية القيام بتقسيم صحيح، حسب المراحل، من أجل فهم التاريخ الاقتصادي. وهو، حسب عادته، لا يتصدى للمسألة ببساطة لكي يقدم لنا حصيلة أبحاثه العقلانية، بل يبدأ بأن يهيئنا لفهم عمله، عن طريق التوقف طويلا عند كل النقائص التي تميز أبحاث كافة العلماء الذين سبقوه.
لقد كتب بوخر يقول:
«إن أول سؤال سيكون على أخصائي الاقتصاد السياسي الذي يريد فهم اقتصاد شعب عاش في فترة موغلة في القدم، أن يطرحه على نفسه هو: الاقتصاد... هل هو اقتصاد قومي؟ وظواهر هذا الاقتصاد هل تراها تنتمي إلى نفس الجوهر الذي ينتمي إلى نفس الجوهر الذي ينتمي إليه اقتصاد التبادل الذي نعرفه اليوم، أم ترى الاقتصادين يختلفان عن بعضهما البعض بشكل أساسي؟ ونحن لا يسعنا أن نجيب على هذا السؤال إن لم نبتعد عن دراسة الظواهر الاقتصادية للماضي، استنادا إلى نفس أساليب التحليل المفهومي، وأساليب التفحص السيكولوجية، التي برهنت عن تفوق تام بين أيدي معلمي الاقتصاد السياسي القديم «التجريدي»، بالنسبة إلى دراسة اقتصاد زمننا الراهن.
«ونحن ليس بمقدورنا أن ندفع عن المدرسة «التاريخية» الحديثة، التهمة الموجهة إليها والقائلة بأنها قد نقلت إلى دراسة الماضي، وتقريبا دون تفحص ، نفس المقولات التجريدية المعتادة المطبقة على ظواهر الاقتصاد القومي الحديث، بدلا من التغلغل في جوهر الحقب الاقتصادية السابقة، أو بأنها قد أساءت استخدام مفاهيم اقتصاد التبادل إلى درجة أنها باتت تبدو قادرة على التأقلم والتكيف مع كافة الفترات الاقتصادية. وهذا الأمر لا يلحظ في أي مكان آخر. أكثر مما يلحظ في الطريقة التي يتم عبرها التحدث عن الفروقات بين الاقتصاد الراهن للشعوب المتمدنة، وبين اقتصاد الحقب الماضية، أو الشعوب المفتقرة إلى الحضارة. وتنتج هذا عن طريق تعداد مراحل التطور المزعومة، وهو تعداد يتم عبره تلخيص كل مسيرة التطور التاريخي للاقتصاد في شعار واحد.. إن كافة المحاولات السابقة من هذا النوع تعاني من عيب واحد: فهي لا توفر لنا أي سبيل للوصول إلى جوهر الأمور... بل تظل عند القشور» [1] .
فأي تقسيم للتاريخ الاقتصادي يقترحه علينا البروفسور بوخر الآن؟ فلنصغ إليه: «إذا ما رغبنا في إدراك كل هذا التطور انطلاقا من وجهة نظر وحيدة، فلن تكون هذه الوجهة –على الأرجح- سوى تلك التي تجعلنا ندرك الظواهر الأساسية للاقتصاد القومي، غير أنها تكشف لنا، في الوقت نفسه، العامل المنظم للحقب الاقتصادية السابقة. وهذا لا يمكنه أن يكون سوى العلاقة بين إنتاج المواد واستهلاكها، أو بالتحديد: طول الطريق التي تجتازها المواد لتصل من عند المنتج إلى عند المستهلك. وانطلاقا من وجهة النظر هذه، سنتوصل إلى التقسيم التالي لكل التطور الاقتصادي، أو على الأقل للتطور الخاص بشعوب أوربا الوسطى والغربية، حيث يمكننا متابعة التقسيم مع الكثير من الدقة، والتقسيم يتضمن مراحل ثلاث:
1-مراحل الاقتصاد المنزلي المغلق (وهو إنتاج يتم لمصلحة المنتج نفسه، أي لا يجري تبادله)، وهذه المرحلة يتم فيها استهلاك المراد في المكان الذي تنتج فيه.
2- مرحلة الاقتصاد المديني (إنتاج من اجل الزبائن، تبادل مباشر)، وهذه المرحلة تمر فيها البضائع بشكل مباشر من الاقتصاد الإنتاجي إلى اقتصاد الاستهلاك.
3- مرحلة الاقتصاد القومي (إنتاج سلعي، توزيع ودورة للمواد المنتجة)، وهي مرحلة يكون على المواد المنتجة، خلالها، أن تتحول عن طريق سلسلة من الاقتصاديات قبل أن تصل على مرحلة الاستهلاك» [2] .
إن هذه الصورة التي يقدمها لنا بوخر عن التاريخ الاقتصادي، مهمة أولا بالنسبة إلى ما لا تحتويه. فبالنسبة إلى هذا البروفسور، يبدأ التاريخ الاقتصادي بالمشاعية الزراعية التي عرفتها شعوب أوربا المتمدنة، أي بالزراعة كما في مستواها الأعلى. أما كل المرحلة، التي يبلغ طولها ألوف السنين، وحيث كانت تهيمن علاقات إنتاج سابقة للزراعة العليا، وهي علاقات ما زالت تهيمن حتى الآن على عدد من الأقوام، فان بوخر –كما نعلم- يصفها بأنها مراحل «لا-اقتصادية»، أو مراحل ما يسمى بـ«البحث الفردي عن الغذاء» و«اللا-عمل». وعلى هذا يبدأ البرفسور بوخر تاريخ الاقتصاد، بهذا الشكل الأكثر تأخرا من أشكال الشيوعية البدائية، وهو الشكل الذي يحتوي في داخله، مع الحياة المستقرة والزراعة العليا، بذور انحلاله الحتمي وتحوله إلى اللامساواة والاستغلال، أي إلى المجتمع الطبقي. فإذا كان غروس قد أنكر وجود الشيوعية في كل المرحلة السابقة على الشيوعية الزراعية، فإن بوخر يمحى تلك المرحلة من مراحل التاريخ الاقتصادي، بصورة تامة.
ولنلاحظ بأن المرحلة الثانية (مرحلة «الاقتصاد المديني» المغلق) ما هي سوى اكتشاف مثير ندين به إلى «العين العبقرية الثاقبة» التي يتمتع بها بروفسور لابسيغ (كما قد يحلو لبروفسور آخر اسمه شولتز أن يقول). فإذا، على سبيل المثال، كان «الاقتصاد المنزلي المغلق» لجماعة زراعية يتميز بواقع أنه يشتمل على حلقة من الأشخاص الذين يستجيبون، جميعا، لحاجاتهم الاقتصادية داخل هذا الاقتصاد المنزلي، فإن الأمر معاكس لهذا تماما بالنسبة إلى مدن أوربا الوسطى والغربية في العصر الوسيط (فهذه وحدها، بالنسبة إلى البروفسور بوخر، وهي التي تشكل «الاقتصاد المديني»-. وفي المدينة القروسطية ليس هناك من «اقتصاد» مشاعي، بل – ولكي نستخدم تعبير البروفسور بوخر نفسه- عدد من «الاقتصاديات» يساوي عدد المشاغل والمنغلقات الحرفية، حيث كل واحد ينتج ويبيع ويستهلك لنفسه، حتى ولو كان يتم تبعا للقواعد العامة المعمول بها في المنغلق الحرفي وفي المدينة. بيد أن المدينة القروسطية الألمانية، أو الفرنسية، لم تكن تشكل حيزا اقتصاديا «مغلقا»، وذلك لأن وجودها كان يرتكز، بشكل مباشر، على عملية التبادل مع الريف الذي منه كانت تتلقى المواد الغذائية والمواد الأولية، ولأجله تصنع المنتجات الصناعية. لقد بنى بوخر، حول كل مدينة، بيئة ريفية منغلقة ضمها إلى «الاقتصاد المديني» للمدينة، محولا –لتسهيل تمرير آرائه- عملية التبادل بين المدينة والريف إلى عملية تبادل مع الفلاحين المجاورين عن قرب. أما بلاطات السادة الإقطاعيين الأغنياء، الذين كانوا يشكلون أفضل الزبائن للتجار المدينيين، والمشتتة قصورهم، جزئيا، في الريف بعيدا عن المدينة، مع مراكز رئيسية لهم، وجزئيا أيضا، داخل المدينة –ولاسيما في المدن الإمبراطورية والكنيسة- يكوّنون داخلها مجالهم الاقتصادي الخاص، فلقد تركهم السيد بوخر على حدة. وكذلك يغض بوخر نظره عن التجارة الخارجية التي كانت ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى الحياة الاقتصادية القروسطية، ولاسيما بالنسبة إلى مصير المدن نفسها. أما ما كان يمثل طابعا مميزا للمدن القروسطية، وهو واقع أن هذه المدن كانت مركز الإنتاج السلعي (السوقي) الذي تحول للمرة الأولى –ولو في أرض محدودة للغاية- إلى شكل (نمط) الإنتاج المسيطر، فإن البروفسور بوخر يتجاهله تمام التجاهل. بل على عكس هذا تماما نجد أن الإنتاج السلعي يبدأ، في نظره، مع «الاقتصاد القومي»- ونحن نعلم الآن بان الاقتصاد السياسي البرجوازي قد اعتاد إطلاق هذا الاسم على النظام الراهن الذي هو نظام الاقتصاد الرأسمالي، أي هو ««مرحلة» في الحياة الاقتصادية تكمن ميزتها الأساسية في أنها لم تعد مرحلة الإنتاج السلعي، بل مرحلة الإنتاج الرأسمالي-. إن غروس يطلق، وبكل بساطة، اسم «صناعة» على الإنتاج السلعي، غير أن البروفسور بوخر، يحول –وبكل بساطة أيضا- الصناعة إلى «إنتاج سلعي»، وذلك لكي يبرهن على تفوق أستاذ للاقتصاد على عالم اجتماع بائس. والآن لننتقل من هذا كله إلى المسألة الرئيسية. فالأستاذ بوخر يقدم «الاقتصاد المنزلي المغلق» على أساس أنه أول «مرحلة» في تاريخـ«ه» الاقتصادي. فما الذي يقصده بهذا؟ لقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن هذه المرحلة تبدأ مع المشاعية القروية الزراعية. وبالإضافة إلى المشاعية الزراعية البدائية، يصنف الأستاذ بوخر أنماطا تاريخية أخرى فيما بين «الاقتصاديات المنزلية المغلقة»، منها الاقتصاد العبودي الذي عرفه اليونانيون والرومانيون القدماء، واقتصاد البلاط الإقطاعي. وعلى هذا نجد أن كل التاريخ الاقتصادي للبشرية منذ ظلمات ما-قبل-التاريخ، مرورا بالزمن الكلاسيكي القديم والعصر الوسيط، حتى عتبة الأزمان الحديثة، ينضوي تحت لواء «مرحلة» الإنتاج، التي يتعارض معها الاقتصاد الرأسمالي الراهن بوصفه مرحلة ثالثة، والمدينة القروسطية الأوربية باعتبارها مرحلة ثانية. أي أن التاريخ الاقتصادي كما يعرفه البروفسور بوخر، يصنف المشاعية القروية الشيوعية القائمة بهدوء في مكان ما عند واد جبلي في ولاية البنجاب بالهند، والاقتصاد المنزلي الذي ساد في زمن بركليس في عز ازدهار الحضارة الأثينية، والبلاط الإقطاعي الذي ساده أسقف بامبرغ في العصر الوسيط، ضمن «مرحلة اقتصادية» واحدة ووحيدة. إن أي ولد، سبق له أن حصل عبر كتبه المدرسية على شيء من المعلومات التاريخية السطحية، سيقر بأن هذه الظواهر ما هي –في الواقع- سوى ظواهر مختلفة واحدة عن الأخرى. فالمشاعيات الزراعية الشيوعية، عرفت مساواة في الحقوق والممتلكات بين الجماهير الفلاحية، واليونان وروما القديمتان، كما هو الحال بالنسبة إلى أوربا الإقطاعية، عرفنا تناقضا عنيفا بين الشرائح الاجتماعية: بين الأحرار والعبيد، بين المحظوظين ذوي الامتيازات، والمحرومين من كل حق، بين السادة والخدم، وبين الثراء والفاقة. هناك كان ثمة ما يجبر الجميع على العمل، أما ها هنا فإن ثمة تعارضا بين جمهرة العمال المستعبدين، وبين أقلية من الأسياد الذين لا يعملون. لقد كان، بين الاقتصاد العبودي لدى اليونانيين والرومانيين القدماء، والاقتصاد الإقطاعي في العصر الوسيط، فارق كبير، بحيث أن العبودية القديمة قد أدت، في نهاية الأمر، إلى تدمير الحضارة هلينو-رومانية، بينما اشتملت الإقطاعية القروسطية، في داخلها، على حرفية المنغلقات، جنبا إلى جنب مع التجارة المدينية، وهي الطريقة التي أدت، في نهاية الأمر، إلى بزوغ الرأسمالية الراهنة.
إن أي واحد يعمل على جمع هذه الأنماط الاقتصادية والاجتماعية البعيدة عن بعضها البعض، وهذه المراحل التاريخية، ضمن مفهوم واحد ومخطط واحد، ينبغي عليه أن يطبق مقولة طريفة حقا على قضية المراحل الاقتصادية. والواقع أن البروفسور بوخر يشرح لنا بنفسه تلك المقولة التي يطبقها لكي يخلق ما يسمى «الاقتصاد المنزلي المغلق» حيث كل القطط تكون رمادية، لكي يصل بود، عن طريق «الهلالين» وما شابههما، إلى نجدة عدم إدراكنا. «اقتصاد بدون تبادل»، هذا هو اسم تلك المرحلة الأولى التي تمتد بدايات التاريخ المدون حتى الأزمان الحديثة، والتي تليها مرحلة «المدينة القروسطية» أي «مرحلة التبادل المباشر»، ومن ثم النظام الاقتصادي الراهن، أي «مرحلة دورة البضائع». أي، وبكلمات أخرى: لا تبادل، تبادل بسيط، تبادل معقد –أي، أيضا، وبتعابير دارجة: غياب التجارة، وجود تجارة بسيطة، وجود تجارة متطورة- وهذه هي، في الواقع، المقولة التي يطبقها البروفسور بوخر على مختلف الحقب الاقتصادية. هل كان التاجر موجودا أم لا؟ هل كان هو نفسه المنتج، أم أن المنتج كان شخصا آخر؟ إن هذه هي المعضلة الرئيسية في التاريخ الاقتصادي.
والآن لنتغاضى، مؤقتا، عن «اقتصاد اللاتبادل» الذي طلع به البروفسور: إذ أن هذه المقولة ما هي سوى «صرعة» أستاذية ليس لها أدنى وجود على الأرض، فإذا ما طبقت على اليونان وروما القديمتين، كما على العصر الإقطاعي الوسيط، ابتداء بالقرن العاشر، لن تشكل أكثر من طرفة تاريخية مليئة بوقاحة صارخة. إن اتخاذ علاقات التبادل، وليس علاقات الإنتاج كمقولة للتحدث عن تطور الإنتاج عموما، ووضع التاجر في مركز النظام الاقتصادي وجعله قياسا لكل شيء، بينما هو في الواقع لم يوجد بعد... هما النتيجتان البراقتان اللتان توصل إليهما «التحليل المفهومي للاستنباط النفساني.. وهذه هي، إجمالا، الطريقة التي يتبعها بروفسورنا المبجل لـ«الدخول إلى جوهر الأمور» بدلا من «البقاء عند القشور»! ترى أليس المخطط القديم، الخالي من الادعاء، الذي تنادي به «المدرسة التاريخية» والمتضمن تقسيم التاريخ الاقتصادي إلى ثلاث مراحل «الاقتصاد الطبيعي، والاقتصاد النقدي، والاقتصاد الائتماني (المصرفي) «أليس أفضل بكثير، وأكثر قربا إلى الواقع، من هذا النتاج المدعي الذي تمخضت عنه عبقرية البروفسور بوخر، الذي يبدأ بشتم كافة المحاولات التي سبقته، ليتخذ بعد ذلك، كقاعدة انطلاق، نفس فكرة التبادل التي «تبقى عند قشور» الأمور، ومن ثم يشوهها عبر حجج واهية، ويجعل منها مخططا مخطئا للغاية؟
ليس من قبيل الصدفة أن يظل العلم البرجوازي واقفا عند القشور. فبين العلماء البرجوازيين نجد أن البعض، من أمثال فريدريشت ليست، يقسمون التاريخ تبعا للطبيعة الخارجية لمصادر الغذاء الرئيسية، ويفرقون بين عصور للصيد وتربية الماشية والزراعية والصناعة –وهي فروقات لا تكاد تكفي للتحدث عن تاريخ للحضارات مروي من الخارج. كما نجد البعض الآخر، من أمثال البروفسور هيلد براند، يقسمون التاريخ الاقتصادي تبعا للشكل الخارجي للتبادل، إلى اقتصاد طبيعي وآخر نقدي وثالث مصرفي، أو من أمثال بوخر الذين يقسمونه إلى اقتصاد بدون تبادل وآخر بتبادل مباشر، وثالث بدورة للبضائع. وهناك أيضا آخرون، من أمثال غروس، يأخذون عملية توزيع المواد، على أنها نقطة الانطلاق في تحديدهم للأنماط الاقتصادية. أي أن العلماء البرجوازيين، بكلمة أخرى، يضعون –في المقام الأول لاعتباراتهم التاريخية- مسألة التبادل ثم التوزيع أو الاستهلاك، أي كل شيء باستثناء الشكل الاجتماعي للإنتاج، أي باستثناء ذاك الذي يكون هو الحاسم عند كل مرحلة تاريخية، وينتج عنه التبادل وأشكاله، كما ينتج عنه التوزيع والاستهلاك في سمتهما الخاصة.
لِمَ كان الأمر على هذا النحو؟
لقد كان لنفس السبب الذي حمل أولئك العلماء على أن يروا في الاقتصاد الرأسمالي، المرحلة الأعلى والأخيرة من مراحل التاريخ البشري، وعلى أن ينكروا أي تطور اقتصادي عالمي لاحق، وآفاقه الثورية. إن الشكل الاجتماعي للإنتاج، أي مسألة العلاقة بين العاملين وأدوات الإنتاج، هي المسألة الرئيسية في كل حقبة اقتصادية، وهي نقطة الفصل في كل مجتمع طبقي، حيث لا تكون أدوات الإنتاج ملكا للذين يعملون. هاكم هي، بشكل أو بآخر، قاعدة هذه المجتمعات، وهاكم هو الشرط الأساسي لكل استغلال ولكل هيمنة طبقية. ولفت النظر بعيدا عن هذه النقطة المفصلية، والتمركز عند السمات الخارجية والثانوية ليساهما –دون أدنى ريب- الطموح الواعي الذي يراود أذهان العالم البرجوازي، غير أن تردده الطبقي الغريزي المنتمي إلى الطبقة التي يمثلها ذهنيا، يدفعه بعيدا عن الثمرة الخطرة الكامنة في شجرة المعرفة. إن أستاذا معاصرا وشهيرا كالأستاذ بوخر، إنما يظهر غريزته الطبقية هذه انطلاقا من «ثقوب نظر عبقري»، حين يضع بكل هدوء، في زاوية ضيقة من زوايا مخططه، مراحل فسيحة كاملة مثل مرحلة الشيوعية البدائية والعبودية، والرق، بكل أشكال علاقتها، المتميزة جذريا، بين قوة العمل وأدوات الإنتاج، بينما نراه يدخل في تمييزات عديدة وواهية فيما يتعلق بتاريخ الصناعة، حيث يميز، ويدور ويعيد، بين «العمل المنزلي» و«العمل المأجور» و«العمل المأجور» و«العمل الحرفي» الخ..
لقد سار واضعو النظريات الخاصة بالجماهير المستغلة، وهم أقدم المدافعين عن الاشتراكية، وساروا في الظلمات، وظلوا ملتصقين في الهواء حين كانوا ينادون بالمساواة بين البشر، وفي نفس الوقت الذي كانوا يوجهون اتهاماتهم ونضالهم، بشكل رئيسي، ضد عملية التوزيع غير العادلة أو –كما فعل بعض اشتراكيي القرن التاسع عشر- ضد أشكال التبادل الحديثة. وعندما فهم أفضل قادة الطبقة العاملة أن التوزيع والتبادل إنما يتبعان، في شكلهما، عملية تنظيم الإنتاج، وأن العامل الحاسم في هذه الأخيرة هو العلاقات بين العمال وأدوات الإنتاج، وجدت الآمال الاشتراكية، لنفسها، أساسا علميا صلبا. وانطلاقا من هذا الفهم الموحد، انفصل الموقع العلمي للبروليتاريا، عن موقع البرجوازية، وذلك عند مدخل التاريخ الاقتصادي، تماما كما سبق لهما أن انفصلا عند مدخل الاقتصاد السياسي. فإذا كان من مصلحة الطبقة البرجوازية أن تخفي المسألة الرئيسية في التاريخ الاقتصادي ضمن تحولاتها التاريخية –أي تبعا للشكل الذي تتخذه العلاقات بين قوة العمل وأدوات الإنتاج- فإن من مصلحة البروليتاريا الكشف عن هذه العلاقات ووضعها في المقام الأول، لتصبح المقولة الأساسية في الحديث عن البنية الاقتصادية للمجتمع. وأنه لمن الضروري، بالنسبة إلى العمال، النظر بعين الاعتبار إلى المنعطفات التاريخية الكبرى التي تفصل المجتمع الشيوعي البدائي عن مجتمع الطبقات اللاحق، كما أنه من الضروري النظر بعين الاعتبار إلى الفروقات التي تفصل بين مختلف الأشكال التاريخية التي عرفها المجتمع الطبقي نفسه. إن من يأخذ في اعتباره الخصوصيات الاقتصادية للمجتمع الشيوعي البدائي، والميزات الخاصة بالاقتصاد العبودي القديم، واقتصاد القنانة القروسطي، هو الوحيد القادر حقا على إدراك السبب في أن المجتمع الرأسمالي يقدم، للمرة الأولى، إمكانية إنجاز الاشتراكية، كما يمكنه أن يفهم الفرق الأساسي بين الاقتصاد الاشتراكي العالمي –الذي سيقوم في المستقبل- وبين المجموعات الشيوعية الما-قبل-تاريخية.
[1]. بوخر: تكون الاقتصاد الأمومي، ص 54.
[2]. نفس المصدر ص 58.