لقد ظهرت الجمهورية الاجتماعية على عتبة ثورة شباط كأنها لفظة، كأنها نبوءة. وفي أيام حزيران 1848 أغرقت بدم بروليتاريا باريس، بيد أنها تخيم كالشبح على الفصول التالية من الدراما. وظهرت الجمهورية الديموقراطية على الحلبة. وفي 13 حزيران 1849 تزول هي وبرجوازيوها الصغار الذي يتشتتون، لكنها في أثناء هروبها تتغنى بمناقبها بتبجح مضاعف.وتستولي الجمهورية البرلمانية، هي والبرجوازية، على المسرح بأسره. وتتمتع هذه بالبقاء غاية التمتع؛ بيد أن الثاني من كانون الأول عام 1851 يدفنها على وقع صيحة الرعب التي يطلقها الملكيون المؤتلفون: “عاشت الجمهورية!”
أن البرجوازية الفرنسية قد تمردت على سلطة البروليتاريا العاملة. وجلبت حثالة البروليتاريا إلى السلطة وعلى رأسهم رئيس جمعية العاشر من كانون الأول. وأبقت البرجوازية فرنسا في خوف يكتم الأنفاس من الفظائع المقبلة للفوضى الحمراء. وقد خصم بونابرت لها هذا المستقبل عندما ترك جيش النظام الذي لعبت به نشوة الخمر يقتل روميا بالرصاص في 4 كانون الأول أعيان البرجوازية في بولفار مونمارتر وبولفار الطليان وهم على نوافذ بيوتهم. لقد ألّهت السيف، فحكمها السيف. لقد دمرت الصحافة الثورية، فدمرت صحافتها هي. لقد وضعت الاجتماعات الشعبية تحت رقابة الشرطة، فوضعت صالوناتها تحت رقابة الشرطة. لقد سرحت الحرس الوطني الديموقراطي، فسرح حرسها الوطني. لقد فرضت حالة الحصار، ففرضت عليها حالة الحصار. لقد استعاضت عن المحلفين باللجان العسكرية، فاستعيض عن محلفيها باللجان العسكرية. لقد أخضعت التعليم العام لحكم الكهنة، فاخضع الكهنة تعليمها هي. لقد أبعدت الناس دون محاكمة، فأُبعدت هي دون محاكمة. لقد قمعت كل حركة في المجتمع بواسطة سلطة الدولة، باخمدت سلطة الدولة كل حركة في مجتمعها. لقد ثارت، بدافع الغيرة على جزدانها، ضد ساستها وأدبائها، فكُنس ساستها وأدباؤها جانبًا ولكن جزدانها ينهب الآن وقد كمم فمها وكسر قلمها. أن البرجوازية لم تكل أبدًا من الصياح للثورة بمثل ما صاح القديس أرسينيوس بالمسيحين: “Fuge, tace quiesce! الهرب، والصمت، السكينة!”، وصاح بونابرت بالبرجوازية: Fuge, tace quiesce! الهرب، الصمت، السكينة!”
أن البرجوازية الفرنسية قد وجدت منذ زمن بعيد حلا لمعضلة نابوليون المزدوجة Dans cinpuante ans l’Europe sera républicaine ou cosaque (في مدى خمسين سنة ستكون أوروبا أما جمهورية أو قوزاقية. الناشر) أنها وجدت الحل في “république cosaque” (الجمهورية القوزاقية. الناشر.).
ساحرة إغريقية مسخت بسحرها الشرير ذلك العمل الفني، الجمهورية البرجوازية، فأحالته إلى شكل وحش فظيع. أن تلك الجمهورية لم تفقد شيئًا إلا مظاهر اللياقة. أن فرنسا الراهنة (أي فرنسا انقلاب سنة 1851. الناشر.) كانت تضمها الجمهورية البرلمانية وهي في حالة كمال وانتهاء. ولم تكن تحتاج ألا إلى طعنة حربة حتى تنفجر الفقاعة ويثب الوحش أمام عيوننا.
لماذا لم تهب بروليتاريا باريس ثائرة بعد 2 كانون الأول؟
إن قلب البرجوازية كان حتى ذلك الحين قد صدر به قرار فحسب، ولم يكن هذا القرار قد وضع موضع التنفيذ. وقد كان من شأن أي تمرد جدي تقوم به البروليتاريا أن يبعث في البرجوازية جياة جديدة على الفور وأن يصالحها مع الجيش ويضمن هزيمة جديدة العمال كهزيمة حزيران.
في الرابع من كانون الأول قام البرجوازيون وأصحاب الدكاكين بتحريض البروليتاريا على القتال. وفي مساء ذلك اليوم وعدت عدة فرق من الحرس الوطني بالظهور. بسلاحها ولباسها العسكري في مسرح المعركة. ذلك أن البرجوازيين وأصحاب الدكاكين بلغ مسامعهم أن بونابرت قد ألغى الاقتراع السري في أحد القرارات التي أصدرها في 2 كانون الأول واوجب عليهم أن يسجلوا كلمة “نعم” أو “لا” في سجلات الناخبين الرسمية بعد أسمائهم. أن مقاومة 4 كانون الأول قد أرهبت بونابرت فأوعز بتعليق لافتات أثناء الليل على جميع منعطفات الشوارع في باريس تعلن إعادة الاقتراع السري. وأعتقد البرجوازيون وأصحاب الدكاكين أنهم أدركوا غايتهم. وكان الذين تخلفوا عن الحضور في الصباح التالي هم البرجوازيون وأصحاب الدكاكين بالذات.
وبضربة مفاجئة في ليلة 1 إلى 2 كانون الأول سلب بونابرت بروليتاريا باريس زعماءها، قادة المتاريس. وإذ غدت البروليتاريا جيشًا بلا ضباط، عازفًا عن القتال تحت لواء “الجبل” بسبب ذكريات حزيران (يونيو) 1848 و1849 وأيار (مايو) 1850، فقد تركت لطليعتها، الجمعيات السرية، مهمة إنقاذ شرف التمرد لمدينة باريس وهو الذي سلمته البرجوازية للجند دون أدنى مقاومة حتى أن بونابرت أستطاع فيما بعد أن يفسر متهكمًا الدافع الذي حدًا به إلى نزع سلاح الحرس الوطني بأنه كان يخشى أن يوجه الفوضويون أنفسهم هذا السلاح ضد الحرس نفسه!
“C’est el triomphe complet et definitive du socialisme!” (هنا هو انتصار الاشتراكية التام النهائي!. الناشر.) هكذا وصف غيزو أنقلاب 2 كانون الأول. ولكن إذا كانت الإطاحة بالجمهورية البرلمانية تحمل في طياتها بذرة أنتصار الثورة البروليتارية فإن نتيجتها المباشرة والمحسوسة كانت انتصار بونابرت على البرلمان وانتصار السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية وانتصار القوة بلا كلام على قوة الكلام. في البرلمان جعلت الأمة إرادتها العمومية هي القانون أي أنها جعلت قانون الطبقة الحاكمة إدارتها العمومية. وهي أمام السلطة التنفيذية تتخلى عن كل إرادة خاصة بها وتذعن لآمرة أرادة غريبة، للسلطة. أن السلطة التنفيذية، بالمقابلة مع السلطة التشريعية، تعبر عن خضوع الأمة لحكم الغير بالمقابلة مع ممارستها للحكم الذاتي. ولهذا يبدو أن فرنسا لم تنج من استبداد طبقة برمتها إلا لتقع تحت استبداد فرد بل وتحت سلطة فرد بلا سلطة. ويبدو أن الصراع قد انتهى بحيث أن جميع الطبقات، وقد تساوت عجزًا وسكوتًا، حيث على ركبها أمام عقب البندقية.
بيد أن الثورة عميقة الجذور. أنها ما تزال في رحلتها خلال المطهر. وهي تقوم بعملها بصورة منهجية. وقد كانت لغاية 2 كانون الأول قد أتمت نصف عملها التحضيري وهي الآن تتم النصف الآخر. أنها أكملت أولاً السلطة البرلمانية حتى تتمكن من الإطاحة بها. أما الآن وقد بلغت هذه الغاية فهي تكمل السلطة التنفيذية، تردها إلى أخلص تعبيراتها وتعزلها ثم تنصبها في مواجهتها هي باعتبارها الهدف الوحيد حتى تركز جميع قواتها التدميرية ضدها. وعندما تكون قد أنجزت هذا النصف الثاني من عملها التمهيدي شتثب أوروبا من مقعدها وتصيح متهللة: لقد أحسنت نبشًا إيها الخلد العجوز! (1) .
أن هذه السلطة التنفيذية، بما لها من منظمة بيروقراطية وعسكرية ضخمة وبما لها من جهاز دولة معقد جدًا ومضخم قصدًا وجيش من الموظفين يبلغ نصف مليون عدد، فضلاً عن جيش عدده نصف مليون آخر، هذه الهيئة الطفيلية المريعة التي تلتف حول جسد المجتمع الفرنسي كالشباك وتخنق جميع مسامّة، نشأت أيام الملكية المطلقة، مع تدهور الإقطاعية الذي ساعدت هذه الهيئة على التعجيل به. أن امتيازات السيادة التي كان يتمتع بها ملاكو الأراضي وتتمتع بها المدن قد تحول بالكثرة نفسها إلى خصائص لسلطة الدولة وتحول الأعيان الإقطاعيون إلى موظفين ذوي مرتبات وتحولت الخريطة المبرقشة من الحقوق الإقطاعية المطلقة المتنازعة التي كانت قائمة في القرون الوسطى إلى خطة منسقة لسلطة الدولة التي ينقسم عملها ويتمركز كما هو في مصنع من المصانع. أن الثورة الفرنسية الأولى، بما أخذته على عاتقها من تحطيم لجميع السلطات المحلية والإقليمية المتفرقة وسلطات المدن والمقاطعات حتى يتسنى لها خلق الوحدة الأهلية للأمة، كانت ملزمة بأن تطور ذاك الذي بدأت به الملكية المطلقة: المركزية، ولكن كان عليها أن تطور في الوقت نفسه امتداد السلطة الحكومية وخصائصها وعدد الوكلاء العاملين فيها. وقد أكمل نابوليون جهاز الدولة هذا. ولم تضف الملكية الشرعية وملكية تموز (يوليو) شيئًا إليه سوى مزيد من تقسيم العمل كان ينمو بقدر ما كان تقسيم العمل ضمن المجتمع البرجوازي يخلق مجموعات مصالح جديدة فيخلق بالتالي مادة جديدة لإدارة الدولة. أن كل مصلحة مشتركة كانت تفصل توا عن المجتمع وتوضع في مواجهته باعتبارها مصلحة عامة أعلى وتنزع من مجال نشاط أعضاء المجتمع أنفسهم وتجعل موضوعًا للنشاط الحكومي، ابتداء من الجسر ومبنى المدرسة والملكية المشاعية لمجتمع قرية من القرى حتى السكك الحديدية والثروة القومية وجامعات فرنسا الحكومية. وأخيرًا وجدت الجمهورية البرلمانية نفسها، في صراعها ضد الثورة، مرغمة على تعزيز وسائل سلطة الحكومة ومركزتها جنيًا إلى جنب مع اتخاذ الإجراءات القمعية. أن جميع الانقلابات أكملت هذه الآلة بدلاً من أن تحطمها. وكانت الأحزاب التي تنازعت السيطرة بالتناوب تعتبر حيازة صرح الدولة الضخم هذا الغنيمة الرئيسية للمنتصر.
ولكن البيروقراطية، في ظل الملكية المطلقة وخلال الثورة الأولى وفي عهد نابوليون، لم تكن إلا وسيلة لإعداد الحكم الطبقي للبرجوازية. وقد كانت في عهد العودة وعهد لويس فيليب وعهد الجمهورية البرلمانية أداة الطبقة السائدة، رغم كل جهادها (أي البيروقراطية) لكي تجعل من نفسها سلطة مستقلة.
وفي عهد بونابرت الثاني فقط، بدا أن الدولة جعلت نفسها مستقلة تمام الاستقلال. وقد وطد جهاز الدولة مركزه إزاء المجتمع المدني حتى أنه أصبح ممكنًا أن يكون على رأسه رئيس جمعية العاشر من كانون الأول، وهو مغامر جاء من الخارج ورفعته على الترس أيدي الجند السكارى الذين اشتراهم بالخمر والمقانق وكان عليه أن يمونهم على الدوام بالمقانق من جديد. ومن هنا كان اليأس الذليل وشعور الإذلال والامتهان الفظيع الذي يثقل صدر فرنسا ويحبس أنفاسها. أنها تشعر بالعار.
ومع هذا فإن سلطة الدولة ليست معلقة في الهواء. أن بونابرت يمثل طبقة هي فضلاً عن ذلك، أكثر طبقات المجتمع الفرنسي عددًا ونعني بها الفلاحين الصغار.
وكما أن البوربونيين كانوا أسرة العقارات الكبيرة وكما أن الأورليانيين كانوا أسرة المال كذلك البرونابرتيون هم أسرة الفلاحين أي جمهرة الشعب الفرنسي. فليس بونابرت الذي خضع للبرلمان البرجوازي بل بونابرت الذي شتت البرلمان البرجوازي هو مختار الفلاحين. لقد نجحت المدن طيلة ثلاث سنين في تزوير معنى انتخاب العاشر من كانون الأول (ديسمبر) وفي خداع الفلاحين وتخييب أملهم بعودة الأمبراطورية. أن انتخاب العاشر من كانون الأول 1848 لم يبلغ تمامه إلا بانقلاب الثاني من كانون الأول 1851.
أن الفلاحين الصغار يشكلون كتلة ضخمة يعيش أعضاؤها في ظروف متشابهة ولكن دون أن يدخلوا في علاقات متشعبة بعضهم مع بعض. أن أسلوبهم في الإنتاج يعزلهم الواحد عن الآخر بدلاً من أن يدفعهم إلى التعامل المتبادل. وتشتد هذه العزلة بسبب وسائل المواصلات السيئة في فرنسا وبسبب فقر الفلاحين. أن ميدان أنتاجهم – وهو قطعة الأرض الصغيرة – لا يسمح بتقسيم العمل في فلاحتها ولا بتطبيق العلم ولا يسمح بالتالي بتنوع أشكال التطور ولا بتنوع المواهب ولا بغنى العلاقات الأجتماعية. أن كل أسرة فلاحية بمفردها مكتفية ذاتيًا تقريبًا، وهي نفسها تنتج مباشرة الجزء الأكبر من أستهلاكها وتحصل بذلك وسائل عيشها من التبادل مع الطبيعة أكثر مما تحصلها من التعامل مع المجتمع. قطعة أرض صغيرة، فلاح وأسرته. وإلى جوارهم قطعة أرض صغيرة أخرى وفلاح آخر وأسرة أخرى. أن حفنة من هذه الوحدات تشكل قرية وحفنة من القرى تشكل مقاطعة. وبهذه الطريقة تتكون الجمهرة العظمى من الأمة الفرنسية بمجرد إضافة مقادير متناظرة مثلما تكون رؤوس البطاطا في كيس كيس بطاطا. وبما أن ملايين الأسر تعيش في ظروف اقتصادية الأخرى ومصالحها وثقافتها، وتضعها في موضع التضاد العدائي مع الأخيرة فإنها تشكل طبقة. وبما أنه لا يقوم بين هؤلاء الفلاحين الصغار غير علاقات محلية وبما أن تطابق مصالحهم لا يخلق بينهم رابطة مشتركة أو رابطة وطنية أو تنظيمًا سياسيًا فهم لا يشكلون طبقة. ولذلك يعجزون عن الدفاع عن مصلحتهم الطبقية باسمهم الخاص سواء أكان ذلك بواسطة برلمان أم بواسطة كونفانسيون (هيئة تشريعية عليًا في فرنسا أنشئت في زمن الثورة البرجوازية الفرنسية في أواخر القرن الثامن؛ وقد دامت من 20 أيلول (سبتمبر) 1792 حتى 26 تشرين الأول (أكتوبر) 1795. الناشر.). أنهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم ولا بد أن يمثلهم غيرهم. ولا بد لممثلهم أن يظهر في الوقت نفسه كسيد لهم، كسلطة فوقهم، كسلطة حكومية غير محدودة تحميهم ضد الطبقات الأخرى وترسل لهم الغيث وضوء الشمس من فوق. ولهذا يجد النفوذ السياسي للفلاحين الصغار تعبيره النهائي في واقع أن السلطة التنفيذية تخضع المجتمع لنفسها.
أن التقليد التاريخي المتوارث ولد عند الفلاحين الفرنسيين الاعتقاد الصوفي بأن رجلاً يدعي نابوليون سيعيد لهم جميع الخيرات المفقودة. وطلع شخص أدعى بأنه هو هذا الرجل لمجرد أنه يحمل أسم نابوليون، بناء على مادة من Code Napoléon تنص: “La recherché de la paternité est interdife” (مجموعة قوانين نابوليون: “التحقيق في الأبوة ممنوع”. الناشر.). بعد تشرد دام عشرين سنة وبعد سلسلة من المغامرات السخيفة يتحقق التكهن ويصبح الرجل إمبراطور الفرنسيين. لقد تحققت فكرة أبن الأخ الراسخة لأنها انطبقت تمام الانطباق على الفكرة الراسخة لدى أكثر طبقات المجتمع الفرنسي عددًا.
ورب معترض يقول: ولكن ما شأن انتفاضات الفلاحين في نصف فرنسا والغارات التي شنها الجيش على الفلاحين وحبس الفلاحين بالجملة ونفيهم بالجملة؟
إن فرنسا لم تشهد منذ لويس الرابع عشر مثل هذا الاضطهاد للفلاحين “بسبب الدسائس الديماغوجية”.
ولكن لنكن على بينه من الأمر. أن أسرة بونابرت لا تمثل الفلاح الثوري بل الفلاح المحافظ، لا تمثل الفلاح الذي يسعى إلى التخلص من ظروف وجوده الاجتماعية التي تحددها قطعة أرضه الصغيرة، بل تمثل بالأحرى الفلاح الذي يريد توطيد هذه الظروف وهذه الأرض، لا سكان الريف الذي يريدون الارتباط مع المدن والإطاحة بالنظام القديم بجهودهم الخاصة بل، على النقيض، أولئك الذي يعزلون أنفسهم بعناد بليد ضمن هذا النظام القديم منتظرين أن ينقذهم شبح الإمبراطورية وينقذ قطع أراضيهم ويمنحهم وضعًا مميزًا. أن آل بونابرت لا يمثلون استنارة الفلاح بل خرافاته، لا عقله بل أوهامه، لا مستقبلة بل ماضيه، لا سيفين الحديثة بل فنده الحديثة (2) .
أن حكم الجمهورية البرلمانية القاسي الذي دام ثلاث سنوات قد حرر قسمًا من الفلاحين الفرنسيين من الوهم النابوليوني وأحدث انقلابًا ثوريًا في نفوسهم، وأن كان ذلك بصورة سطحية فحسب؛ بيد أن البرجوازية كانت تدفعهم بالقوة إلى الخلف كلما كانوا يأخذون في التحرك. وفي ظل الجمهورية البرلمانية كان الوعي العصري للفلاح الفرنسي ووعيه التقليدي يتنازعان السيادة. كانت هذه العملية تجري بشكل صراع مستمر بين معلمي المدارس والكهنة – وكانت البرجوازية تقمع المعلمين. ولأول مرة بذل الفلاحون جهودًا في التصرف بصورة مستقلة إزاء نشاط الحكومة، وتجلي هذا في النزاع المتواصل بين رؤساء البلديات والحكام الإداريين وكانت البرجوازية تعزل رؤساء البلديات. وأخيرًا ثار الفلاحون في أماكن متعددة خلال فترة الجمهورية البرلمانية ضد وليدهم هم الجيش وكانت البرجوازية تعاقبهم بفرض حالات الحاصر وبالحملات التأديبية. وهذه البرجوازية نفسها تصيح الآن عن بلادة الجماهير، عن هذه vile multiude (السوقة الحقيرة. الناشر.) زاعمة بأنها باعتها لبونابرت. أنها هي نفسها التي عززت بالقوة المشاعر الإمبراطورية عند طبقة الفلاحين وحفظت بعناية الظروف التي كانت بمثابة التربة التي تنبت عليها ديانة الفلاح هذه. صحيح أنه ينبغي على البرجوازية أن تخشى جهل الجماهير طالما ظلوا محافظين، ووعي هذه الجماهير حالما تصبح ثورية.
في الانتفاضات التي أعقبت coup d’état أحتج قسم من الفلاحين الفرنسيين، والسلاح في أيديهم، ضد صوتهم الانتخابي الذي أدلوا به هم أنفسهم في العاشر من كانون الأول 1848. أن المدرسة التي اجتازوها منذ عام 1848 قد شحذت ذكاءهم. بيد أنهم أسلموا أنفسهم إلى جحيم التاريخ، والتاريخ قيدهم بكلمتهم، وكانت الأكثرية منهم ما تزال غارقة في الضلال لدرجة أن سكان الريف في أشد المقاطعات احمرارا بالذات صوتوًا بصورة مكشوفة لبونابرت. كانوا يرون أن الجمعية الوطنية قد عرقلت تقدمه. وكل ما فعله بونابرت الآن هو أنه كسر القيود التي فرضتها المدن على إرادة الريف. بل أن الفلاحين في بعض الأنحاء داعبتهم الفكرة السخيفة: فكرة قيام كونفانسيون جنبًا إلى جنب مع نابوليون.
بعد أن حولت الثورة الأولى الفلاحين من أشباه أقنان إلى ملاكين أحرار ثبت نابوليون ونظم الشروط التي يمكنهم بموجبها أن يستغلوا دونما عائق أرض فرنسا التي آلت إليهم قبيل ذلك بقليل ويطفئوا غليلهم الفتى للتملك. بيد أن سبب أملاق الفلاح الفرنسي الآن أنما هو أرضه الصغيرة نفسها، تقسيم الأرض، شكل الملكية الذي وطده نابوليون في فرنسا. أنها بالضبط تلك الظروف المادية التي جعلت من الفلاح الفرنسي من عهد الإقطاع، مالكًا عقاريًا صغيرًا، وجعلت من نابوليون إمبراطورا. وقد كفى جيلان لبلوغ النتيجة التي لا مناص منها: التدهور المتزايد في الزراعة والدين المتزايد على المشتغلين بالزراعة. أن الشكل “النابوليوني” للملكية الذي كان في بداية القرن التاسع عشر شرطًا لتحرير أهل الريف الفرنسيين وإثرائهم قد تطور في بحر هذا القرن إلى قانون يثبت استبعادهم وفقرهم. وهذا القانون بالضبط هو أول فكرة من idées napoléoniennes (الأفكار النابوليونية. الناشر) كان يترتب على بونابرت الثاني أن يذود عنها. وإذا كان ما يزال يشاطر الفلاحين الوهم القائل بأن سبب خرابهم ينبغي تلمسه لا في هذه الملكية العقارية الصغيرة ذاتها في خارجها، وفي تأثير ظروف ثانوية، فأن تجاربه سوف تنفجر كفقاعات الصابون لدى ملامستها علاقات الإنتاج.
أن التطور الاقتصادي للملكية العقارية الصغيرة قد غير علاقات الفلاحين بطبقات المجتمع الأخرى تغييرًا جذريًا. ففي عهد نابوليون كان تقسيم الأرض في الريف على قسائم صغيرة يكمل المزاحمة الحرة والصناعة الكبيرة المبتدئة في المدن. وكانت طبقة الفلاحين في جميع الأماكن هي الاحتجاج ضد اريستقراطية الأرض التي أطيح بها قبل ذلك بقليل فحسب. أن الجذور التي ضربتها الملكية العقارية الصغيرة في التربة الفرنسية قد حرمت الإقطاع من كل غذاء. وكانت علامات الحدود لقطعة الأرض الصغيرة بمثابة التحصينات الطبيعية للبرجوازية ضد أي هجوم عليها من جانب أسيادها القدماء بيد أن أمراء الإقطاع حل محلهم في غضون القرن التاسع عشر مرابو المدن، والالتزام الإقطاعي الذي ينيخ بكلكله على الأرض حل ملحه الرهن، والملكية الاريستقراطية للأرض حل محلها رأس المال البرجوازي. أن قطعة ارض الفلاح لم تعد سوى ذريعة تتيح للرأسمالي أن يجني من الأرض ربحًا وفائدة وريعًا، وأن يترك لمالك الأرض نفسه أمر الاهتمام بالطريقة التي يراها ناجحة للحصول على أجرته. أن دين الرهن الذي يثقل أرض فرنسا يفرض على الفلاحين الفرنسيين دفع مبلغ من الفائدة السنوية المترتبة على الدين القومي البريطاني بأسره. أن الملكية العقارية الصغيرة، التي أستبعدها الرأسمال لهذه الدرجة – ويؤول تطور هذه الملكية إلى هذا الاستعباد بصورة محتومة – قد حولت أغلبية الأمة الفرنسية على سكان كهوف. ستة عشر مليونًا من الفلاحين (بمن فيهم النساء والأطفال) يسكنون في أخصاص معظمها ليست له سوى فتحة واحدة، وبعضها الآخر له فتحتان فقط، وأحسنها حظًا له ثلاث فتحات فحسب. والنوافذ بالنسبة للبيت هي كالحواس الخمس بالنسبة للرأس. أن النظام البرجوازي الذي أقام الدولة في بداية القرن حارسًا على الملكية العقارية الصغيرة الناشئة وسمّدها بالغار أصبح الآن عفريتًا يمتص دماءها ونخاعها ويقذف بها في القدرالكيماوي لرأس المال. إن Code Napoléon ليست الآن سوى مجموعة قوانين لتنفيذ قرارات المحاكم وإجراءات الحجز والبيع بالمزاد العلني. ولا بد لنا أن نضيف إلى الملايين الأربعة (بمن فيهم الأطفال، إلخ) من المتسولين والمتشردين والمجرمين والمومسات في فرنسا، المعترف بهم رسميًا، خمسة ملايين يحومون على شفا البقاء وهم إما يسكنون الريف نفسه أو يهجرون الريف باستمرار، هم وخرقهم وأطفالهم، إلى المدن أو يهجرون المدن إلى الريف. وبكلمة، إن مصالح الفلاحين لم تعد، كما كانت في عهد نابوليون، تتفق مع مصالح البرجوازية، مع رأس المال بل هي في تناقض مستعص معهما. ومن هنا يجد الفلاحون حليفهم الطبيعي وقائدهم في بروليتاريا المدن التي مهمتها الإطاحة بالنظام البرجوازي. ولكن الحكومة القوية المدن التي مهمتها الإطاحة بالنظام البرجوازي. ولكن الحكومة القوية غير المحدودة – وهذه هي « idée napoléoninne » الثانية التي يترتب على نابوليون الثاني تنفيذها – مدعوة للدفاع عن هذا النظام “المادي” بالقوة. والحقيقة، إن هذا « ordre matériel » (“النظام المادي”. الناشر) يتكرر كاللازمة في جميع بلاغات بونابرت ضد الفلاحين العاصين.
وبالإضافة إلى الرهن الذي يفرضه رأس المال على قطعة الأرض الصغيرة ترهق الضرائب هذه القطعة. إن الضرائب هي ينبوع الحياة بالنسبة للبيروقراطية والجيش والكهان والبلاط وبالاختصار بالنسبة لجهاز السلطة التنفيذية بأسره. إن الحكومة القوية والضرائب الباهظة هما شيء واحد. إن الملكية العقارية الصغيرة تشكل بطبيعتها أساسًا مناسبًا لبيروقراطية كاملة الجبروت ولا حصر لها. إنها تخلق مستوى متناسقًا للعلاقات والأشخاص فوق أديم البلاد جميعها. ولذا تتيح أيضًا ممارسة تأثير متناسق من مركز واحد أعلى وعلى جميع نقاط هذه الكتلة الرتيبة. إنها تقضي على الدرجات الأريستقراطية المتوسطة بين جمهرة الشعب وسلطة الدولة. وهي لذلك تستدعي التدخل المباشر الشامل لسلطة الدولة هذه وتدخل أجهزتها المباشر. وهي تخلق أخيرًا فيضًا من السكان العاطلين الذين لا مكان لهم سواء في الريف أو في المدن والذين يمدون أيديهم بناء على ذلك إلى وظائف الدولة بوصفها صدقات لائقة وتشكل حافزًا لزيادة عدد المناصب في جهاز الدولة. كان نابوليون يسدد الضرائب الإجبارية مع الفوائد وذلك بالأسواق الجديدة التي افتتحها بحد السيف وبنهب القارة. وقد كانت هذه الضرائب النابوليونية حافزًا لنمو الحرف الفلاحية بينما هي تسلب الآن هذه الحرف مواردها الأخيرة وآخر إمكانية لمقاومة الإملاق. والبيروقراطية الضخمة، التي تنعم بالحلل الموشاة والطعام الطيب، إنما هي « idée napoléonienne » كانت أقرب فكرة إلى نفس بونابرت الثاني. وكيف يمكن أن يكون الأمر بخلاف ذلك ونحن نراه مرغمًا على أن يخلق إلى جانب الطبقات الفعلية في المجتمع طائفة اصطناعية تصبح المحافظة على حكمة بالنسبة لها مسألة رزق وعيش؟ وعليه كان من أوائل العمليات المالية التي قام بها رفع مرتبات الموظفين التي جري تخفيضها من قبل إلى مستواها القديم وإيجاد وظائف جديدة بلا عمل.
وهناك « idée napoléonienne » أخرى هي سيطرة الكهان بوصفها أداة في يدي الحكومة. ولكن بينما تكون قطعة الأرض الصغيرة التي برزت إلى الوجود حديثًا، في وفاقها مع المجتمع واعتمادها على القوى الطبيعية وخضوعها للسلطة التي هي حاميها الأعلى، متدينة بطبيعة الحال، فإن قطعة الأرض الصغيرة التي تخربها الديون والتي هي والمجتمع والسلطة على طرفي نقيض والتي تكلف فوق ما في وسعها والمضطرة إلى أن تخرج من نطاق محدوديتها ذاتها، تصبح بطبيعة الحال غير متدينة. أن السماء كانت ملحقًا لا بأس به بالنسبة لقطعة الأرض الصغيرة التي كسبت حديثًا خصوصًا لأن السماء تصنع الطقس، ولكن هذه السماء تغدو إهانة حالما تطرح بمثابة بديل عن القطعة الصغيرة. وعندئذ يتحول القسيس إلى كلب ممسوح بالميرون من كلاب الشرطة الدنيوية – وهذه أيضًا « idée napoléonienne ». وفي المناسبة التالية ستجري الحملة على روما في فرنسا نفسها ولكن بمعنى معاكس لذاك الذي يقصده المسيو دي مونتالمبير.
وأخيرًا أن ذروة « idées napoléoniennes » هي غلبة أهمية الجيش. إن الجيش كان point d’honneur (مناط العزة. الناشر) للفلاحين الصغار: كان الجيش يجعل منهم أبطالاً يدافعون عن ممتلكاتهم الجديدة ضد الأعداء الخارجيين، ويمجدون الوحدة القومية التي اكتسبوها مؤخرًا، وينهبون الدنيا وينفحون فيها روح الثورة. البزات العسكرية كانت لباسهم للاحتفالات والحرب كانت قصيدهم، وقطعة الأرض الصغيرة التي يضخمها الخيال ويكملها كانت وطنهم، والشعور الوطني كان الشكل المثالي للشعور بالملكية. بيد أن الأعداء الذين كان على الفلاح الفرنسي الآن أن يحمي ملكيته منهم ليسوا هم القوزاق، أنهم مأمورو الأجراء وجباة الضرائب. وقطعة الأرض الصغيرة لم تعد تقع فيما يدعى بالوطن بل في سجل الرهون. والجيش نفسه لم يعد زهرة شباب الفلاحين. إنه زهرة مستنقع حثالة الفلاحين، إنه يتألف إلى حد كبير من المتجندين البدلاء تمامًا كما أن بونابرت الثاني نفسه ليس إلا بديلاً عن نابوليون. إن مآثره البطولية تتجلى الآن في مطاردة الفلاحين وفي القيام بوظيفة الدركي. ولو أن التناقضات الداخلية لنظامن رئيس جمعية العاشر من كانون الأول طاردت هذا الرئيس إلى ما وراء الحدود الفرنسية فإن جيشه سوف يجني، بعد بضعة أعمال لصوصية، لا أكاليل الغار بل الضربات.
وهكذا نرى أن جميع « idée napoléonieenes » هي أفكار قطعة الأرض الصغيرة غير المتطورة، والتي لا تزال بعد في ريعان شبابها، أما بالنسبة لقطعة الأرض الصغيرة التي انقضى زمانها فهي سخافة، إنها مجرد أضغاث نزعها الأخير، كلمات تحولت إلى عبارات، أرواح تحولت إلى أشباح. بيد أن مهزلة الإمبراطورية كانت ضرورية لتحرير جمهرة الأمة الفرنسية من وطأة التقاليد ولاستجلاء التناقض بين سلطة الدولة والمجتمع بصورته الخالصة. ومع التدهور المتزايد الذي طرأ على الملكية العقارية الصغيرة ينهار مبنى الدولة المشيد فوقها. إن مركزية الدولة التي يتطلبها المجتمع المعاصر تنشأ فقط على أنقاض جهاز الحكم العسكري البيروقراطي الذي صُنع في سياق النضال ضد الإقطاعية (3).
إن حال الفلاحين الفرنسيين تكشف لنا عن لغز الانتخابات العامة في 20 و21 كانون الأول التي قادت بونابرت الثاني إلى أعلى طور سيناء لا ليتلقى التشريعات بل ليعطيها.
وظاهر أن البرجوازية لم يكن لديها الآن خيار إلا انتخاب بونابرت. عندما شكا أنصار الأخلاق الصارمة في مجمع كونستانسيا (4) من الحياة المنحلة التي يحياها الباباوات وأعولوا حول ضرورة الإصلاح الخلقي، أرعد الكاردينال بيير دابي قائلاً لهم: “ما من أحد إلا الشيطان بشخصه يستطيع الآن إنقاذ الكنيسة الكاثوليكية وأنتم تطلبون ملائكة!” وبمثل هذا صاحت البرجوازية الفرنسية بعد الانقلاب: ما من أحد إلا رئيس جمعية العاشر من كانون الأول (ديسمبر) يستطيع الآن إنقاذ المجتمع البرجوازي! السرقة وحدها هي التي تستطيع الآن إنقاذ الملكية، والزور وحده إنقاذ الدين والنغولة إنقاذ العائلة، الفوضى إنقاذ النظام!
إن بونابرت، بوصفه السلطة التنفيذية التي جعلت نفسها قوة مستقلة، يعتبر أن رسالته هي حماية “النظام البرجوازي”؛ أما قوة هذا النظام البرجوازي فتكمن في الطبقة الوسطى ولذا ينظر إلى نفسه باعتباره ممثلاً للطبقة الوسطى ويصدر مراسيم مناسبة. ولكنه، مع ذلك لم يصبح شيئًا يُذكر إلا لأنه حطم القوة السياسية لهذه الطبقة الوسطى ولأنه يحطمها مجددًا في كل يوم. وبناء على ذلك ينظر إلى نفسه كخصم للقوة السياسية والأدبية للطبقة الوسطى. ولكنه إذ يحمي قوتها المادية، بولد قوتها السياسية من جديد. ولهذا لا بد للعلة أن تبقى على قيد الحياة؛ أما المعلول، حيثما ظهر، فينبغي أن يقضي عليه. بيد أن هذا لا يمكن أن يحدث دون خلط بسيط بين العلة والمعلول لأنهما كليهما يفقدان في تفاعلهما المشترك خصائصهما المميزة. مراسيم جديدة متوالية تمحو خط الحدود. وبونابرت ينظر إلى نفسه، في الوقت ذاته، باعتباره ممثلاً للفلاحين وللشعب بصورة عامة ضد البرجوازية، ممثلاً يريد أن يسعد الطبقات الدنيا من الشعب ضمن إطار المجتمع البرجوازي. مراسيم جديدة تحتال على “الاشتراكيين الحقيقيين” (5) وتسليهم سلفًا قدرتهم على إدارة الدولة. ولكن بونابرت ينظر دائمًا إلى نفسه، قبل كل شيء، بوصفه رئيسًا لجمعية العاشر من كانون الأول، بوصفه ممثلاً لحثالة البروليتاريا التي ينتمي هو نفسه وبطانته وحكومته وجيشه إليها والتي همها الأول هو العيش كما يطيب لها وسحب جوائز يانصيب كاليفورنيا من خزينة الدولة. وهو يزكي لقبه كرئيس لجمعية العاشر من كانون الأول بمراسيم وبدون مراسيم وبرغم المراسيم.
إن مهمة هذا الرجل المتناقضة هذه تفسر الإجراءات المتناقضة لحكومته التي تتصرف على غير هدى وتسعى تارة لتكسب وطورًا لتذل أولاً هذه الطبقة ثم تلك وتصف الطبقات جميعًا ضدها على حد سواء، تلك الحكومة التي يشكل ما بها من الحيرة العملية مفارقة مضحكة جدًا مع الأسلوب العاتي القاطع لمراسيم الحكومة، وهو أسلوب منقول بمذلة وخنوع عن مراسيم العم.
إن الصناعة والتجارة، أي إشغال الطبقة الوسطى، ينبغي لها أن تزدهر برعاية حكومة قوية كأنها في مستنبت دافئ. فيجري منح ما لا حصر له من امتيازات سكك الحديد. بيد أن حثالة البروليتاريا من البونابرتيين ينبغي أن تثري. فيبدأ الأشخاص المطلعون سلفًا على أسرار امتيازات سكك الحديد لعبة الغش في البورصة. ولكن رأس مال السكك الحديدية لا يظهر له أثر، ويلزمون البنك بتقديم سلف على أسهم السكة الحديدية. غير أن البنك، في الوقت نفسه، سيستغله بونابرت لأغراضه الشخصية ولا بد من مداجاته لهذا السبب. يعفون البنك من الالتزام بنشر تقريره أسبوعيًا ويعقد البنك اتفاقية مع الحكومة تضمن له حصة الأسد. والشعب لا بد من إيجاد أعمال له، فيشرعون في الأشغال العمومية. ولكن الأشغال العمومية تزيد من أعباء الشعب الضرائبية. من هنا تخفيض الضرائب بالهجوم على إيرادات أصحاب الدخل والريع بتحويل ريع الخمسة في المائة إلى أربعة ونصف في المائة. ولكن لا بد للبرجوازية أن تأخذ الحلوى من جديد مع الحبة المرة. ومن هنا مضاعفة ضريبة الخمر على الشعب الذي يشتريه en detail (بالمفرق. الناشر) وإنقاص ضريبة الخمر إلى النصف بالنسبة للطبقة الوسطى التي تشربه en gros (بالجملة. الناشر). تحل جمعيات العمال القائمة فعلاً ولكن الحكومة تعد بمعجزات بعد تشكيل الجمعيات في المستقبل. الفلاحون لا بد من تقديم المساعدات لهم. تؤسس بنوك الرهن التي تعجل في إيقاعهم بالديون وفي تركيز الملكية. ولكن يجب استخدام هذه البنوك لابتزاز المال من أملاك آل أورليان المصادرة. ما من رأسمالي يريد أن يوافق على هذا الشرط الذي لم يذكر في المرسوم ويبقى بنك الرهن مجرد مرسوم. إلخ، إلخ..
إن بونابرت يحب أن يظهر بمظهر الأب المنعم لجميع الطبقات. ولكنه لا يستطيع أن يعطي طبقة من الطبقات دون أن يأخذ من الأخرى. وكما كان يقال عن الدوق دي جيز زمن الفروند بأنه كان أعظم متفضل في فرنسا لأنه حول جميع أملاكه إلى التزامات في ذمة أنصاره يدينون له بها. كذلك سيقبل بونابرت راضيًا بأن يكون أعظم متفضل في فرنسا ويحول كل ممتلكات فرنسا وكل شغلها إلى التزام شخصي له. إنه يحب أن يسرق فرنسا بكاملها حتى يتسنى له أن يقدمها هدية إلى فرنسا أو بالأحرى حتى يتسنى له أن يشتري فرنسا من جديد بنقود فرنسية وذلك لأنه ينبغي عليه بالضرورة، باعتباره رئيس جمعية العاشر من كانون الأول، أن يشتري ما ينبغي أن يكون له. وجميع مؤسسات الدولة ومجلس الشيوخ ومجلس الدولة والهيئة التشريعية ووسام جوقة الشرف ومداليات الجنود ومحال الغسيل والأشغال العمومية والسكك الحديدية والأركان العامة للحرس الوطني باستثناء عامة الجند والأملاك المصادرة لآل أورليان – جميعها تصبح موضوعًا للبيع والشراء. وكل مركز في الجيش وفي جهاز الحكومة يصبح وسيلة للرشوة. بيد أن أهم ملامح هذه العملية التي يكمن معناها في أخذ فرنسا من أجل إهدائها إياها نفسها، إنما هو الفوائد المئوية التي تجد طريقها إلى جيوب رئيس جمعية العاشر من كانون الأول (ديسمبر) وأعضائها أثناء دورة رأس المال. إن الملحة التي وصفت بها الكونتسة ل.، حظية المسيو دي مورني، مصادرة أملاك أورليان: « C’est le premier vol de l’aigle » (كلمة « vol » تعني طيران وسرقة) (هذا أول طيران للنسر) تنطبق على كل طيران لهذا النسر الذي هو أشبه بالغراب. إنه هو وأشياعه ينطقون كل يوم بأنفسهم لأنفسهم كلمة الراهب الكارتيزياني (الكارتيزياني – من أتباع فلسفة ديكارت (ديكارت باللغة اللاتينية، cartesius. المترجم) الإيطالي إذ وعظ البخيل الذي تباهى بعد المتاع الذي كان في وسعه أن يعيش عليه لسنين مقبلة طويلة: « Tu fai conto sopra i beni, bisogna prima far il conto sopra gli anni » (أنت تحصي متاعك، وأولى لك أن تحصي سنيك) ولئا يخطئوا في السنين عدوا الدقائق. لقد شقت حفنة من الأشخاص طريقها إلى البلاط، إلى الوزارات، إلى رأس الإدارة والجيش، جماعة من الأجلاف ينبغي أن يقال عن أحسنهم بأن أحدًا لا يعرف أصله، جماعة بوهيمية صخابة نهابة شائنة السمعة تدب في المعاطف المقصبة بعين الوجاهة المضحكة مثل أعيان سولوك. وفي وسع المرء أن يتصور بوضوح هذه الطبقة العليا من جمعية العاشر من كانون الأول (ديسمبر) إذ أخذ بعين الاعتبار أن فيرون – كريفيل (لقد حدد بلزاك في روايته “ابنة العم بيتي” معالم الباريسي التافه المنحل كليًا في شخصية كريفيل، وهي شخصية روائية رسمها على غرار دكتور فيرون صاحب جريدة « Constitutionnel ») هو واعظها الأخلاقي وأن غرانييه دي كاسانياك هو مفكرها. كان غيزو، إبان وزارته، يستخدم غرانييه هذا للعمل في صحيفة سيئة السمعة ضد المعارضة الأسرية وكان يباهي به قائلاً عادة في تملق: « C’est le roi des drôles » “إنه ملك المهرجين”. ومن الخطأ أن يعيد المرء عهد الوصاية (6) أو لويس الخامس عشر إلى ذهنه في مجال الحديث عن بلاط لويس بونابرت وعصابته. وذلك لأن “فرنسا قد بلت مرارًا من قبل حكم محظيات، بيد أنها لم تبل قط حكم قوادين” (الكلام المقتبس هو كلام مدام جيراردين).
إن بونابرت، وقد ساقته إلى ذلك مطالب وضعه المتناقضة وكان في الوقت نفسه يقوم بدور الحاوي المضطر إلى إبقاء نفسه
محط الأنظار كبديل لنابوليون، وذلك بقيامه بالمفاجئات المستمرة، أي بالأحرى إلى إجراء انقلاب مصغر كل يوم، إن
بونابرت هذا قد ألقى الاقتصاد البرجوازي برمته في هاوية الفوضى وانتهك كل ما كان يبدو مصونًا بالنسبة لثورة
1848، وجعل البعض يتسامحون مع الثورة، وآخرين يرغبون في الثورة، وخلق فوضى فعلية باسم النظام، بينما كان في
الوقت نفسه يجرد جهاز الدولة بكامله من الهالة التي تحيط به ويلوثه ويجعله بغيضًا ومحلاً للسخرية في آن واحد.
إنه يعيد في باريس بصورة مزورة ساخرة عبادة الرداء المقدس في ترير (7) على شاكلة عبادة العباءة الإمبراطورية
النابوليونية. ولكن عندما تسقط العباءة الإمبراطورية أخيرًا على كتفي لويس بونابرت، سيهوي تمثال نابوليون
البرونزي من على قمة مسلة فندوم ويتحطم.y
كتبه ماركس في ديسمبر/كانون الأول 1851 لغاية مارس/ آذار
1852. نشر في مجلة « Die Revolution » بنيويورك عام 1852. الطبعة الثانية التي راجعها ماركس
ظهرت في كتاب على حده في هابمبورغ عام 1869. الطبعة الثالثة ظهرت في هامبورغ عام 1885، مع مقدمة بقلم
انجلز.
(1) شكسبير – “هملت”.
الفصل الأول. المشهد الخامس. – ص
139.
(2) سيفين، منطقة جبلية في إقليم
لانغيدوك بفرنسا، نشبت فيها في أعوام 1702 – 1705 انتفاضة
فلاحيه أسميت بانتفاضة “الكاميزار” (“ذوي القمصان”). نشبت الانتفاضة بسبب من ملاحقة
البروتستانت، واتخذت طابعًا معاديًا للإقطاعية ساطع التعبير. استمرت شراراتها تندلع هنا وهناك حتى عام
1715.
فنده، إقليم في غرب فرنسا نشبت فيه أبان الثورة البرجوازية الفرنسية بأواخر القرن الثامن عشر
انتفاضة فلاحيه معادية للثورة، برئاسة النبلاء ورجال الدين. – ص 144.
(3) بدلاً عن الجملتين
الأخيرتين في آخر الفقرة المعنية ورد في طبعة عام 1852 ما يلي: “أن تحطيم آلة الدولة لا يشكل أي خطر
على المركزية. فإن البيروقراطية ما هي غير الشكل الواطئ والفظ من أشكال المركزية التي ما تزال مصابة
بنقيضها، الإقطاعية. وعندما تخيب آمال الفلاح الفرنسي في العودة النابوليونية، فأنه سيتخلى كذلك عن إيمانه
بقطعة أرضه الصغيرة، وينهار كل صرح الدولة المشيد على قطعة الأرض هذه، وتحظى الثورة البروليتارية بتلك
الجوقة التي بدونها يتحول غناؤها المنفرد في جميع البلدان الفلاحيه إلى غناء طير التم” (هذا التعبير
الأخير يعني غناء الاحتضار. المترجم). – ص 151.
(4) مجمع كونستانسيا (1414 – 1418)
أنعقد من
أجل توطيد وضع الكنيسة الكاثوليكية المتقلقل في ظرف الحركة الإصلاحية البادئة. شجب المجمع تعليم زعيمي
الإصلاح جون ويكليف ويان هوس. قضى المجمع على انشقاق في الكنيسة الكاثوليكية بانتخابه رئيسًا جديدًا للكنيسة
بدلاً عن الطامحين الثلاثة المتنافسين على الكرسي الباباوي – ص 151.
(5) المقصود هنا الاشتراكية
الألمانية أو الاشتراكية “الحقيقية” تيار رجعي أنتشر في ألمانيا في الأربعينيات من القرن التاسع
بين المثقفين البرجوازيين الصغار على الغالب. استعاض ممثلو “الاشتراكية الحقيقية” غرون وغيس
وكريغة وغيرهم عن أفكار الاشتراكية بوعظ عاطفي بالحب والأخوة وأنكروا ضرورة الثورة البرجوازية الديموقراطية
في ألمانيا. انتقد ماركس وانجلس هذا التيار في مؤلفاتهما “الأيديولوجية الألمانية”،
“منشور ضد كريغة”، “الاشتراكية الألمانية في الشعر والنثر”، “بيان الحزب
الشيوعي”. – ص 152.
(6) المقصود هنا عهد وصاية فيليب أورليان
في فرنسا من عام 1715 إلى عام
1723 عندما كان لويس الخامس عشر لا يزال قاصرًا. – ص 156.
(7) الرداء المقدس في ترير، ذخر كاثوليكي محفوظ في كاتدرائية ترير (ألمانيا) ويقال أنه رداء مقدس أخذ عن المسيح عند صلبه. وكان الرداء المقدس في ترير موضع إجلال الحجاج. – ص157.