لماذا لا غنى عن منظمة أممية ؟ |
1- الأساس الاقتصادي للأممية البروليتارية
1- الأساس الاقتصادي للأممية البروليتارية منذ ظهور الرأسمالية الصناعية، أي، منذ الثورة الصناعية، اتجهت تلك الرأسمالية نحو السوق العالمية. فتصدير البضائع المصنعة في البلدان الرأسمالية الصناعية الأولى، واستيراد البضائع من البلدان المتخلفة، وغزو أسواق تلك البلدان المتخلفة، كلها أمور تترافق مع كل خطوة إلى الأمام في نمط الإنتاج الرأسمالي. إن التوسع العالمي للرأسمالية يتخذ طابعا مركبا وغير متكافئ، فالصناعة الحديثة واسعة النطاق في الغرب (ومن ثم اليابان) تدمر الإنتاج الصناعي السابق للرأسمالية في الشرق والجنوب (الصناعة المحلية، والصناعة القروية، والأشكال الجنينية للمانيفاكتورة) دون أن تؤدي إلى انبثاق صناعة حديثة على نطاق واسع في تلك المناطق. ففي العصر الإمبريالي، يؤدي كل من تصدير الرساميل، وصعود تجمعات رأسمالية مالية تتحكم بالسوق المالية في كل بلدان العالم عمليا، والسيطرة السياسية والعسكرية، مباشرة كانت (الإمبراطوريات الاستعمارية) أو غير مباشرة. (البلدان شبه المستعمرة)، على بلدان العالم المتخلف من قبل القوى الإمبريالية، يؤدي كل ذلك إلى تأخير تلك البلدان على نحو واسع – ولو بضعة عقود – عن إتباع المسار العام للتصنيع العضوي والتطور الاقتصادي والتحديث، الذي تمكنت الدول الصناعية الأولى من تحقيقه. ويصبح بذلك تطورها معاقا تحت ثقل الهيمنة الإمبريالية. وتتوافق جيوب الصناعة الحديثة مع الجيوب المترسخة لأشكال الإنتاج والاستغلال السابقة للرأسمالية: الربا، والمضاربة العقارية، والريع العقاري الضخم، وخدمات العمل شبه الإقطاعية، وسياسات ملاكي الأراضي – التجار الأجانب التجارية المهنية، الخ. يصبح الاقتصاد العالمي، في الوقت نفسه، وحدة عضوية أكثر وأكثر. وتقع البلدان المتخلفة، كونها أضحت أكثر تخصصا في إنتاج المواد الخام وتصديرها في ظل ضغط كل من الإمبريالية والطبقة الحاكمة المحلية تحت رحمة كل هبوط وصعود مفاجئين في أسعار المواد الخام. فكل صعود في الأسعار يؤدي إلى إثراء الطبقة الحاكمة، كما أن كل "هبوط" يدفع بمزيد من العمال وفقراء الفلاحين إلى الإنزلاق نحو تخطي الخيط الرفيع الذي يفصل ما بين البؤس والتضور جوعا. ففي فترة الرأسمالية المتأخرة (وهي إحدى مراحل عصر الإمبريالية تبدأ مع الحرب العالمية الثانية أو مع نهاية الحرب العالمية الثانية)، يشلك صعود المؤسسات متعددة الجنسية مؤشرا لمستوى جديد وأعلى في تدويل القوى المنتجة. ولا تعود تعبر عملية التدويل هذه عن نفسها، بشكل أساسي فقط، عبر تجارة البضائع العالمية وتبادل الرساميل، بل وأيضا في تزايد التنظيم الدولي للإنتاج نفسه. فالشركات متعددة الجنسيات تقوم بتقسيم عمل عالمي داخل فروعها، إذ تصنع قطع الغيار في قارة واحدة وتنشئ وحدات تجميع في قارة أخرى، وتقوم بنقل هذا الصنف أو ذاك من منتجاتها من بلد إلى آخر إن لم يكن من قارة إلى أخرى. ليس هناك من برهان أفضل على حقيقة أنه لم يتم تخطي الملكية الخاصة (الرأسمالية) وحسب، بل كذلك الدولة القومية، على مستوى التطور الذي بلغته القوى المنتجة. فهناك اليوم في العديد من فروع الصناعة مستويات عليا من التكنولوجيا، حيث لا يمكن حتى لماكينات منفردة أن تعمل بشكل مربح، إلاّ إذا كانت تنتج لنصف دزينة أو دزينة من البلدان في وقت واحد. إن كل المسائل التي تواجه الإنسانية اليوم – مسألة منع وقوع حرب نووية عالمية، مسألة مقاومة المجاعة والتخلف في بلدان العالم الثالث، مسألة تأمين العمل للجميع، ومسألة تسخير كل نهوض علمي وتكنولوجي لحاجات الإنسان – لا يمكن حلها إلاّ على صعيد عالمي. بيد أن هناك هوة عميقة بين هذه الحاجة الموضوعية وبين مستوى الوعي الذي بلغه المستوطن العادي لكوكبنا، بما في ذلك من هم داخل الطبقة العاملة، وحتى داخل طليعة الطبقة العاملة. إن الفكرة القائلة بـ"السيادة القومية" غير القابلة بالمساس بها، والتي تكون تقدمية طالما تستعمل ضد الانتهاكات (من قمع قومي واستغلال) من قبل الإمبريالية، تضحي رجعية تماما فيما إذا طبقت في عملية بناء العالم الاشتراكي المتحد، أي الفدرالية العالمية للجمهوريات الإشتراكية. ولا يمكن لأي تخطيط عقلاني للموارد العالمية يبغي التخطي السريع لواقع التخلف والقضاء على الجوع والبؤس، وعلى أسس اللا مساواة ما بين الأمم "الفقيرة" و"الغنية" أن يتم فيما إذا أرادت كل دولة أن ترعى شؤونها على حدة، لتقوم كل منها ببناء صناعة الصلب الخاصة بها، ناهيك بصناعة السيارات والصناعة الإلكترونية، بغض النظر عن الأكلاف وبغض النظر عن المنافع الهائلة للتقسيم العالمي للعمل. إن الطريقة التي تم فيها تقسيم العمل العالمي في ظل الإمبريالية، والطريقة التي طبقت فيها البيروقراطية المنتفعة، التي اغتصبت السلطة في الاتحاد السوفياتي، الفكرة نفسها، أي على أساس اللا مساواة، كان لهما الدور الأكيد في تزايد الشكوك والأضرار اللاحقة بمفهوم التضامن الأممي بين العديد من الشعوب (في أوروبا الشرقية كما في آسيا وأمكنة أخرى). غير أنه ليس في ذلك أي سبب يدعو الماركسيين الثوريين إلى إغلاق عيونهم أمام ما هو واضح: إنه يمكن فقط للاشتراكية العالمية أن تحقق مستوى أعلى من الحياة المادية والثقافية والحضارية بالمقارنة مع الرأسمالية إذا ما حققت مستوى أعلى من التنظيم والتخطيط العالميين للحياة السياسية والاقتصادية (مثلا: التدمير على المستوى العالمي لصناعة الأسلحة). غير أن ذلك يكون ممكنا فقط عندما ترضى الجماهير الكادحة بالحد من "السيادة القومية" بملء حريتها، تلك الجماهير التي ستصبح سيدة قدرها في ظل الاشتراكية العالمية على أساس التساوي الكامل ما بين الأمم. لكن هكذا قبولا حرا لا يكون ممكنا دون الارتقاء إلى مستوى من الثقافة الأممية. فإذا كان الثوريون غير قادرين هم أنفسهم، قبل تسلمهم السلطة، على القبول بأبسط مستلزمات الانضباط داخل منظمة أممية، هي الحزب العالمي، فلن يكون بإمكانهم تثقيف جماهير الكادحين (وحتى أنفسهم) بالقبول بالحد من "السيادة" في مستقبل اشتراكي عالمي فدرالي. وبكلمات أخرى، فإن الصيغة الإيطالية "للنشيد الأممي"، التي تقول بأن الأممية هي إنسان الغد (وتختلف بذلك عن الصيغتين الفرنسية والإنكليزية اللتين تقولان بأن الأممية ستكون العرق البشري)، إنما تحوي الحقيقة الأساسية التي على كل الثوريين تعلمها. إنه إذا ما بدأنا منذ الآن ببناء الحزب العالمي برغم كل ما نعانيه من ضعف ونقص في التحضير، فإننا نثقف أنفسنا والطليعة العمالية، وكل تلك القطاعات الجماهيرية التي باستطاعتنا الوصول إليها وتثقيفها، بالسبيل الوحيد الذي يمكن أن تحل فيه مشكلات الإنسانية إثر نصر الثورة الاشتراكية: من خلال القبول الطوعي بالتخطيط العالمي للموارد على أساس التساوي الكامل بين الأمم، ضمن الاشتراكية العالمية الفدرالية في المستقبل.
2- الأساس الاجتماعي للأممية البروليتارية تبعا لطبيعة الطبقة الرأسمالية ومن لف لفها (تلك الشرائح من البرجوازية الصغيرة التي تشاركها أيديولوجيتها)، أي لارتباطها بالملكية الخاصة والمنافسة والاستغلال واللامساواة، فهي عاجزة عضويا عن إيجاد أي حل عالمي لمشاكل البشرية. إن الهوة العميقة ما بين التدويل الموضوعي لقوى الإنتاج من جهة، وبقاء الدولة البرجوازية من جهة أخرى، تتم دراستها من قبل جميع أنواع المنظمات الدولية والآليات الدولية. لكن عند معاينة الطرق التي تعمل بها هذه المؤسسات، والوظائف التي تقوم بها تلك الآليات عن كثب، سيغدو ممكنا اكتشاف أنها تعمل لصالح فئة معينة من الرأسماليين (عموما الأقوى) وعلى حساب الآخرين، كما أنها تعمل عموما لصالح الرأسمال ككل على حساب المستغلين والمضطهدين في العالم. لا يمكن للرأسمالية أن تنمو دون أن تدفع في الوقت نفسه بنمو العمل المأجور، إذ أن فائض القيمة، وهو مصدر التراكم الرأسمالي، لا يمكن أن ينتجه غير العمل المأجور. فإذا منذ بداية الصراع الطبقي بين الرأسمال والعمل، رافق هذا الصراع باستمرار نمو للرأسمالية. إلاّ أن هذا الصراع الطبقي لا يصعد باستمرار كما أنه لا يصبح أكثر وعيا كل وقت. بل يمر بحالات من الصعود والهبوط الشديدين (إضرابات واسعة، مشاركة جماهيرية سياسية على صعيد واسع، أوضاع سابقة للثورة، نضالات ثورية من أجل السلطة). لكن حتى عندما تهدأ الصراعات مؤقتا من جانب الطبقة العاملة، فإننا نجدها مستمرة على مستوى المصانع وبشكل يومي من قبل الطبقة الرأسمالية. ففي كل آلة جديدة تدخل إلى المصنع، كما في كل محاولة لـ"عقلنة" تنظيم العمل، تكمن محاولة لاستئصال فائض قيمة أكبر من العمل لصالح الرأسمال. وفي كل عملية طرد لعامل من المصنع محاولة لإضعاف الطبقة العاملة. غير أن العمال يردون وبشكل دوري على هذه الهجمات اليومية من قبل الطبقة الرأسمالية، على هذا الصراع الطبقي اليومي الذي يخوضه العدو الطبقي، من خلال رد جماعي بدل اعتماد ردات الفعل الفردية أو الجزئية. إن ردات الفعل الجماعية هذه ترتقي بنفسها من أشكال الإضراب إلى أشكال أرقى من الصراع الطبقي البروليتاري: يتجسد ذلك بالنضال من أجل دحر سلطة الدولة الرأسمالية والملكية الخاصة، وبالنضال من أجل ثورة اشتراكية ظافرة. وبقدر ما يرتقي تدويل رأس المال والقوى المنتجة، بقدر ما يأخذ الصراع الطبقي بعدا دوليا. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان أرباب العمل يلجأون إلى كسر الإضراب إمّا بتحويل طلبات الإنتاج إلى بلدان أجنبية أو "باستيراد" قوة عمل أجنبية. إن ردات الفعل القومية من قبل المضربين، التي تحاول إظهار "الأجانب" كأعداء لهم، والتي استفاد منها أرباب العمل،برهنت سريعا على أنها عاجزة حتى عن كسب الإضراب. وهي على المدى الطويل يمكن فقط أن تخدم أرباب العمل، والطبقة الرأسمالية، في محاولتها لتجزئة الطبقة العاملة بصفة دائمة، ولإدخال التنافس والصراع بين مختلف القوميات داخل الطبقة العاملة، وهما من ميزات الرأسمال لكن ضد مصالح العمال. إلاّ أن الخبرة سرعان ما علمت العمال بأن خير رد على مناورات الرأسمالية هذه يتمثل بتوسيع الإضراب وتنظيم النقابات العمالية على مستوى دولي. لقد كان ذلك السبب الرئيسي الذي أنجح محاولات إنجلز وماركس في تنظيم أول رابطة عمال أممية عام 1864. فبالتضاد مع الطبقة الرأسمالية، ليس للطبقة العاملة أية روابط مع المنافسة المستندة إلى الملكية الخاصة. إنما مصالحها الأساسية المرتبطة بالطريقة التي تعمل فيها في المصنع وبالطريقة التي تدافع فيها عن نفسها ضد العدو الطبقي، مرتهنة بتعاضدها وتضامنها. كما أن الطريقة التي يعمل بها الرأسمال أكثر فأكثر على الصعيد العالمي، وبالتالي يزيد من تدويل الصراع الطبقي، تدفع الطبقة العاملة إلى الرد بتوسيع تعاضدها وتضامنها على المستوى العالمي، خشية أن توجه إليها ضربة بشكل مسبق في لعبة غير متكافئة وبأوراق جمعت بكثرة ضدها. صحيح أن الوعي البروليتاري قد تخلف المرة تلو الأخرى عن اللحاق بالحاجات الموضوعية للصراعات الطبقية البروليتارية. فمرة تلو الأخرى تنجح كل من القومية والشوفينية العنصرية والعشائرية في تجزئة العمال وفي وضعهم بعضهم بمواجهة البعض الآخر، بدلا من الاتحاد في مواجهة العدو الطبقي المشترك. ولكن كلما حصل ذلك كانت التجربة تبين أن الطبقة الرأسمالية هي الوحيدة المستفيدة من ذلك والعمال هم الخاسر الأكبر. ففي بداية الحرب العالمية الأولى وقع غالبية العمال الأوروبيين ضحية الضغط الهائل للدعاية البرجوازية الشوفينية التي انتقلت إلى صفوفهم على أيدي قيادات أحزابهم ونقاباتهم الجماهيرية التي استسلمت أمام البرجوازية الإمبريالية، الأمر الذي عنى انهيار الأممية الثانية. لقد قبلوا بالمضي بالحرب على أنها "حرب دفاع قومي"، بينما في الواقع كانت حرب نهب إمبريالية. إلاّ أنهم سرعان ما دفعوا ثمنا غاليا بسبب ذلك. فلقد قتل ملايين العمال، على أيدي إخوان لهم من طبقتهم في البلدان الأخرى. كما أن عشرات الملايين رأوا مستوى معيشتهم يهبط بسرعة نتيجة قبولهم بسياسة التعايش الطبقي مع أرباب العمل، وعدم الإضراب باسم الحفاظ على "الوحدة القومية". عندها أضحى بإمكان المناضلين الأمميين، وكانوا أقلية في بداية الحرب، إقناع قطاعات متزايدة من الطبقة العاملة بأن الأممية ليست وهما طوباويا ولا هي "مثالية" مجردة ليس بمقدور أحد، غير طليعة صغيرة، ممارستها، بل أنها تنسجم مع المصلحة المادية المشتركة والمباشرة لكادحي كل البلدان. كذلك الأمر عند بدء الحروب المضادة للثورة من أجل قهر المستعمرات، كتلك التي قادتها الإمبريالية الفرنسية ضد الثورة الجزائرية في أكتوبر عام 1954 إذ وقعت جماهير العمال تحت تأثير المشاعر الشوفينية والعنصرية، خصوصا أن تلك المشاعر لم تلق مقاومة عنيفة منذ بدايتها من قبل قيادات كمنظمات الطبقة العاملة. فتمنع العمال عن واجبهم الصريح القاضي بدعم النضال التحريري لأولئك الذين يضطهدهم مستغلوهم. ومرة أخرى دفعوا ثمنا باهظا نتيجة لذلك: آلاف القتلى، وفي حالة فرنسا تهديدا متزايدا لأبسط الحريات الديموقراطية، مؤديا إلى سقوط الجمهورية الرابعة وإلى إشادة دولة بونابرتية قوية بقيادة الجنرال ديغول في عام 1958. عندئذ، ساعدت تلك التجربة الأقليات الأممية الصغيرة في إقناع قطاعات هامة من الطبقة العاملة بأن عليها النضال ضد تلك الحرب القدرة، وأن عليها معارضة كل "جهود الحرب" بكل ما أوتيت من وسائل ضرورية. اليوم وفي الوقت الذي تنظم فيه المؤسسات متعددة الجنسيات الإنتاج على مستوى عالمي واسع، تصبح كل المحاولات من اجل حل مشاكل الطبقة العاملة الملحة على المستوى القومي حصرا محاولات مؤداها الهزيمة. ففي الوقت الذي كانت تجتاح فيه أزمة على صعيد صناعة الصلب عموم أوروبا في العامين الماضيين، أدت إلى طرد أكثر من 100 ألف عامل صلب في 12 بلدا، نجد أن عمال الصلب في ألمانيا الغربية تركوا معزولين في أول إضراب نموذجي لهم من أجل 35 ساعة عمل أسبوعيا، المطلب الذي لو تم كسبه عالميا لكان وفر كل تلك الوظائف. كذلك الأمر بالنسبة لعمال الصلب البريطانيين، الذين انهارت قوتهم الضاربة، بالرغم من تصميمهم النموذجي، بفعل غياب المحاولات الجادة لتنظيم دعم أممي لهم. فلم يتم وقف جدي لشحنات الصلب من المعامل الأوروبية بواسطة الشاحنات، والسكك الأوروبية، عبر المرافئ الأوروبية. كان حتى بإمكان عدد محدود من النقابيين الحازمين، فيما لو نسقوا جهودهم في كل البلدان الأوروبية، إحراز بعض النجاح هناك، ولكان بإمكانهم ممارسة ضغط متنام على هيكليات نقاباتهم، الأمر الذي كان أدى في النهاية إلى تحقيق التضامن. إن الحاجة إلى تنظيم أممي لطليعة الطبقة العاملة إذا ليست منغرسة فقط في الوقائع الاقتصادية لعالمنا المعاصر، بل تجد لها جذورا في وقائع الصراع الطبقي اليومي أيضا. "فالنهوض البروليتاري لا يمكن أن يكون إلاّ فعلا أمميا". (إنجلز، رسالة إلى لافارغ 27 يوليو 1893).
3- الأساس السياسي للأممية البروليتارية على الأقل منذ بداية القرن العشرين (وجزئيا في القرن التاسع عشر)، قادت التناقضات الداخلية المتنامية للرأسمالية، على نحو دوري، إلى انفجارات عنيفة. فأضحى عصر الإمبريالية عصر الحروب والثورات و الثورات المضادة. وكما الحروب كذلك الثورات والثورات المضادة بدأت تأخذ أكثر فأكثر شكل ثورات عالمية وثورات مضادة عالمية. في الحقيقة، لم تظهر ثورة مهمة واحدة في القرن العشرين، لم تؤد إلى انتشارها في بلدان أخرى. فسرعان ما امتدت الثورة الروسية إلى فنلندا، وبولونيا، وألمانيا، والنمسا، وهنغاريا. كما أن الثورة الإسبانية بدأت عام 1936 بالإمتداد إلى فرنسا. والثورة الصينية في أعوام 1946-1949 امتدت إلى كوريا والهند الصينية وأندونيسيا وماليزيا. وثورة الهند الصينية امتدت إلى الجزائر. كما أن الثورة الجزائرية بدورها امتدت إلى كل من موزامبيق وأنغولا وغينيا بيساو، حيث امتدت من هناك لتصل إلى البرتغال، وقادت إلى نهوض عارم في النضالات العمالية في إسبانيا كان مؤداها إطاحة دكتاتورية فرانكو. والثورة الكوبية امتدت إلى عموم أمريكا اللاتينية. وأمام أعيننا تمتد الثورة النيكاراغوية الآن إلى السالفادور وأقطار أخرى في أمريكا الوسطى. الأمر نفسه ينطبق على انتظام الثورة المضادة على الصعيد العالمي. إذ نجدها مكتفية بتمويل وتسليح الطبقة الحاكمة في كل بلد مهدد باندلاع الثورة، من أجل إبقائها في السلطة، بل ومن أجل إعادتها إليها في حال سقوطها. فنجدها تنظم حملات ابتزاز اقتصادية و تمويلية وحصارا تجاريا ضد كل ثورة. كما أنها تجند مرتزقة من جماعات دولية مهمتها زعزعة استقرار النظام الثوري وإطاحته. وحين لا يفي كل ذلك – وبقدر ما تسمح موازين القوى داخل الأقطار الإمبريالية – نجدها تنظم تدخلا عسكريا علانيا إلى جانب الثورة المضادة في الحرب الأهلية (كما فعلت في فنلندا 1918، روسيا 1918-1920، إسبانيا 1936، والصين 1946-1949) أو حتى أنها تأخذ على عاتقها كليا التدخل العسكري ضد الثورة نفسها، كما فعلت في الصين في الثلاثينات وكوريا في 1950-1953 والهند الصينية (أولا من قبل الإمبريالية الفرنسية ومن ثم من قبل الإمبريالية الأمريكية) لمدة ثلاثين عاما، وفي الجزائر 1954-1962، الخ. إن تدويل الثورات والثورات المضادة، وانتقالها إلى مستوى حروب أهلية دولية، يشكلان الأساس السياسي للحاجة إلى أممية ثورية. ففي عصرنا لا يقتصر دور الأممية ببساطة على الحؤول دون كسر الإضراب من خلال الدعوات إلى تنظيم الدعم الأممي مع العمال المضربين. إذ أن واجباتها أضحت أكثر سياسية. فعليها السعي إلى الحؤول دون وقوع الطبقة العاملة العالمية والشعوب المضطهدة المناضلة من أجل تحقيق التحرر القومي والاجتماعي في عزلة و تشرذم تامين في مواجهة الأحلاف الإمبريالية وطاقاتها التدميرية، الأمر الذي سوف يجعل من النصر أمرا أبعد منالا، ومن ثمن النصر أكثر ارتفاعا فيما لو جنبت الثورة الهزيمة الأكيدة. هو ذا السبب الرئيس لتأسيس الأممية (الشيوعية) الثالثة: من أجل تنسيق، على مستوى عالمي، لنضالات الطبقة العاملة الرامية إلي دحر الرأسمالية، وتنسيق الجهود على مستوى عالمي، ومن اجل شل الثور المضادة العالمية. ومرة أخرى ، بينما يمكن القول أن هذا المسعى لم يلاق النجاح الكامل، إلا انه لا ينبغي التقليل من أهمية العديد من النجاحات الجزئية. سنذكر منها فقط ثلاثة أمثلة غيّر كل منها، بمعنى من المعاني، وجه التاريخ. فعندما أقدمت روسيا السوفياتية مرغمة على توقيع معاهدة الصلح مع الإمبريالية الألمانية والنمساوية-الهنغارية في بريست ليتوفسك في ظل شروط كارثية، مضحية بذلك بمقاطعات واسعة في سبيل الحفاظ على السلطة العمالية خلال فترة ضرورية لاسترداد النفس، نجد البلاشفة قد بذلوا في الوقت نفسه كل ما في وسعهم من أجل دعم الثوريين الألمان، أكان ذلك عبر التحريض أو الدعاية أو الدعم المالي. وبفضل الصدى الهائل الذي لقيته دعايتهم الثورية (وبالأخص تلك التي مارسها تروتسكي) بين العمال والجنود الألمان والنمساويين،نتيجة المساعدة التنظيمية التي تم توفيرها للثوريين (وجزئيا نتيجة التثقيف والتنظيم الثوريين لأسرى الحرب النمساويين والهنغاريين في روسيا)، فقد تم تسريع الثورة، وبشكل حاسم، في كل من ألمانيا والنمسا وهنغاريا، هذه الثورة، التي سرعان ما اندلعت في بداية نوفمبر 1918، أي بعد مضي ستة أشهر فقط على توقيع معاهدة بريست ليتوفسك. كذلك الأمر بالنسبة لعام 1920 عندما قامت الإمبريالية البريطانية بالتحضير للتدخل العسكري في الحرب ما بين بولونيا وروسيا، ممهدة بذلك بقلب النظام السوفياتي الذي كان مرهقا بعد عدة سنوات من الحرب والحرب الأهلية، والذي كان يعاني من تدهور كارثي في مستوى الإنتاج المادي (بما في ذلك من إنتاج غدائي)، إذ نجد نداءات الأممية الشيوعية إلى الطبقة العاملة البريطانية من أجل المعارضة النشيطة لتحضيرات الحرب وقد توجت بنجاح عظيم. هكذا أقدمت لجنة عمل ضمت كلا من حزب العمال و Tuc واجتمعت في مجلس العموم، على الدعوة إلى التحضير إلى إضراب عام واسع وغير محدود في حال إقدام بريطانيا على التدخل عسكريا، وقامت اللجنة بتوجيه نداء يدعو إلى تشكيل لجان عمل محلية من أجل التحضير للإضراب، نداء لقي أصدقاء في أكثر من 400 قرية ومدينة في البلد. عندها اضطرت الإمبريالية البريطانية إلى التراجع أمام ذلك التهديد، وتم الحؤول دون الحرب ما بين بريطانيا وروسيا السوفياتية التي أنقذت بفضل تضافر جهود الطبقة العاملة الأوروبية. وعندما دخلت الثورة الصينية مرحلة جديدة في أوائل العشرينات، عبر مواجهات جماهيرية ضمت المثقفين الصينيين والطلاب والعمال وأجزاء من البرجوازية الصينية من جهة، والإمبريالية من جهة أخرى، أقدم الاتحاد السوفياتي على إرسال مساعدات عسكرية ضخمة إلى الصين وساعد على تنظيم مقاومة ونضال واسعين معاديين للإمبريالية. ومن الصحيح أن السياسات الخاطئة الذيلية للبرجوازية الممثلة بالكومنتانغ قد ساعدت على هزيمة الطبقة العاملة الصينية هزيمة دموية في أبريل 1927 في المرحلة الأولى وساعدت تشانغ كاي تشيك على إرساء دكتاتوريته الرجعية على مر عقدين من الزمن. إلاّ أنه ليس بوسع أحد الإنكار بأن المساعدات السوفياتية في العشرينات قد حالت بحزم دون أن تصبح الصين مستعمرة إمبريالية بسيطة، كما أن الاتحاد السوفياتي أسهم من خلال الدفع القوي الذي أعطاه من أجل خلق الحزب الشيوعي الصيني، ومن ثم تحوله إلى حزب جماهيري، أسهم بصورة غير مباشرة في انتصار الثورة الصينية الثالثة في عام 1949، أي في قلب الرأسمالية نهائيا في الصين. إن انحدار الأممية الشيوعية لتصبح أداة سهلة في خدمة تقلبات سياسة البيروقراطية السوفياتية ولد شعورا حادا بغياب القوة الموجهة والمنسقة للنضالات الأممية الثورية- خصوصا وأن تلك النضالات لم تهدأ. فبدلا من مساعدة ودعم الثورة الإسبانية، أقدم الكومنترن الستاليني على خنقها جاعلا بذلك غزو هتلر لأوروبا (ومن ثم عداءه للاتحاد السوفياتي من نقطة انطلاق مؤاتية جدا) أمرا لا يمكن تلافيه. وبدلا من تقديم المساعدة للانتفاضات الثورية للعمال اليونانيين والإيطاليين والفرنسيين في أعوام 1944-1948، أقدم ستالين على تسليمهم للإمبريالية الغربية (ما عدا يوغسلافيا التي أحبط فيها الشيوعيون محاولة مماثلة). وبدلا من تنظيم حملة دعم عالمية لثورة الهند الصينية منذ اندلاعها، قدم ستالين (ثم كل من خروتشيف وبريجنيف) الدعم المتواضع الذي يكفل عدم وقوعها فقط فريسة للعدوان الإمبريالي، ومؤجلا لعقود كاملة نصرا كان بالإمكان تحقيقه منذ زمن بعيد. وما النتائج الاقتصادية لحروب عدائية استمرت على مر ثلاثة عقود إلاّ شاهدا على مآسي متلاحقة. هكذا فإن الحاجة إلى أممية ثورية فرضت نفسها بالملموس منذ اللحظة التي حسمت فيها الأحداث العالمية مسألة نهاية الدور الذي لعبته الكومنترن كأداة للثورة العالمية، أي بدءا من استلام هتلر للسلطة عام 1933. ذلك هو الأساس السياسي للنضال من أجل أممية رابعة منذ ذلك الحين.
4- الثورة الدائمة بمواجهة "الاشتراكية في بلد واحد" إن فشل الثورة الروسية بالتوسع والانتصار في بلدان صناعية رئيسية في فترة أعوام 1917-1923 أوقعها في عزلة في بلد متخلف نسبيا.الأمر الذي أدى إلى بدء عملية تبقرط الدولة السوفياتية والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي والذي أدى أيضا إلى انحدار الأممية الشيوعية، ومن تم إلى دمارها كأداة للثورة العالمية. إن هذه العملية التي تجد تعبيرها السياسي والأيديولوجي في الستالينية إنما تعكس حقيقة وجود شريحة ذات امتيازات – لا تشكل بأي حال طبقة حاكمة جديدة – هي البيروقراطية السوفياتية، تمكنت من اغتصاب السلطة السياسية من الطبقة العاملة السوفياتية، ومن تركيز السيطرة على فائض النتاج الاجتماعي في أيديها، محتكرة بالتالي السلطة في كافة مجالات المجتمع السوفياتي، ومستخدمة تلك القوة في الدفاع عن امتيازاتها المادية الهامة بالمقارنة مع المستوى المعيشي المتوسط للعامل والفلاح الروسيين. إن أول مراجعة رئيسية للماركسية عكست قيام البيروقراطية السوفياتية باغتصاب السلطة من البروليتاريا السوفياتية، كانت في تطوير النظرية القائلة بأنه بالإمكان بناء مجتمع اشتراكي كامل التطور في روسيا بمعزل عن باقي العالم، أي نظرية "الاشتراكية في بلد واحد". ولقد عبرت هذه النظرية عن الميل شديد المحافظة لدى البيروقراطية السوفياتية، وعن تخليها عن الثورة العالمية لصالح الحفاظ على الوضع العالمي القائم، أي التعايش السلمي مع الإمبريالية، أو لصالح تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ ما بين البيروقراطية السوفياتية والرأسمالية العالمية. وبينما لم يدع الماركسيون الثوريون أبدا الاتحاد السوفياتي بعماله وحكومته إلى "خلق" ثورات مصطنعة في أي مكان آخر، والدفع بها من خلال مغامرات عسكرية في الخارج، كما لم يدعوا إلى "الجلوس والانتظار" دون العمل من أجل تطوير الاقتصاد والمجتمع السوفياتيين نحو الاشتراكية لغاية تحقيق النصر النهائي للثورة العالمية، إلاّ أنهم أدركوا أن مصير الاتحاد السوفياتي (بما في ذلك تطور وتنوع بنيانه الداخلي) يبقى مرتهنا بنتاج الصراع الطبقي على مستوى عالمي. إن السبب نفسه الذي يلزم الطبقة العاملة العالمية بالدفاع عن الاتحاد السوفياتي ضد محاولات الإمبريالية للعودة بالرأسمالية هناك، يلزم كذلك الاتحاد السوفياتي بدعم ودفع الثورة العالمية في كل تلك الحالات حيث النضالات الجماهيرية الثورية والأزمات الثورية العميقة في بلد أو عدة بلدان تشهد على الإمكانات الموضوعية لإحراز انتصارات ثورية جديدة. إن هذا الواجب المتبادل إنما يقابل المصلحة المتبادلة المشتركة. فكل هزيمة للثورة العالمية من شأنها إضعاف الاتحاد السوفياتي موضوعيا نتيجة تقوية الإمبريالية العالمية. كذلك الأمر، فإن عودة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفياتي (وغيره من الدول العمالية) من شأنها أن تقوي على نحو هائل الإمبريالية العالمية، الأمر الذي سيؤدي موضوعيا إلى إضعاف الثورة و البروليتاريا العالميتين وكل القوى المعادية للإمبريالية عبر العالم. إن القطيعة مع التعاليم الكلاسيكية حول الأممية البروليتارية مثلما هي موضوعة من قبل الأممية الشيوعية في السنوات الأولى لوجودها، أي، منذ قيام أول دولة عمالية، لم تكن طلاقا مع مصالح الثورة العالمية وبالتالي البروليتاريا العالمية وحسب. ولم تؤدي فقط إلى إلحاق الضرر الهائل بالبروليتاريا العالمية، محدثة هزائم كان بالإمكان تفاديها، لسلسلة كاملة من الثورات وفارضة بالتالي في الوقت نفسه على الكادحين السوفيات تضحيات غير ضرورية هم في غنى عنها في سبيل الدفاع عن دولتهم. إن أحلك النتائج قد عكست نفسها فيما بعد، بالرغم من أن تروتسكي والمعارضة اليسارية كانا قد حذرا منها منذ البداية. إن نظرية "الاشتراكية في بلد واحد" إنما تعني إخضاع مصالح كادحي العالم للمصالح المزعزعة "للقلعة الاشتراكية" (في الواقع: مصالح البيروقراطية السوفياتية التي تختلف إلى حد كبير عن مصالح الدولة والبروليتاريا السوفياتيين). إلاّ أن هذا الإخضاع ينطبق عليه وصف تروتسكي له بـ"المهمة الرسولية" التي على بلد معين أو على حركة طبقته العاملة (الحركة الشيوعية) على الأقل تحملها إلى جانب بروليتاريا ذلك البلد. وليس هناك أي قانون في التاريخ يقول بحصر تلك "الشيوعية-القومية" الرسولية في بلد واحد (الاتحاد السوفياتي) فقط. فبالعكس، إنه حالما يهضم قادة وكادرات الحزب الشيوعي الذين تثقفوا في ظل الستالينية نظرية "الاشتراكية في بلد واحد"، فإن ذلك سيمكنهم من إعادة إنتاجها على نحو إرادي في أي بلد تمت فيه إطاحة الرأسمالية. هكذا عند اندلاع الخلاف الصيني-السوفياتي، أقدم الحزب الشيوعي الصيني على تنصيب نفسه "قلعة للثورة العالمية" بدلا من الاتحاد السوفياتي، الذي – حسب ما تم زعمه – عادت إليه الرأسمالية. هكذا تم تبرير أي تحالف معاد للثورة مثير للاشمئزاز مع قوى برجوازية رجعية عبر العالم ضد الاتحاد السوفياتي (مع شاه إيران، مع الدكتاتورية العسكرية في باكستان مع الإمبريالية الأمريكية، مع السادات، مع جزار الشيلي العسكري بينوشيه) باسم "الدفاع عن القلعة الاشتراكية" المتمثلة بالدولة الصينية. كذلك الأمر، تعتبر البيروقراطية الفيتنامية نفسها "قلعة الاشتراكية" في جنوب شرق آسيا على الأقل، مبررة بالتالي إطاحتها نظام بول بوت الرجعي في الدولة العمالية الكمبودية من خلال تدخلها العسكري، وفرضها احتلالا عسكريا مماثلا على الشعب اللاوسي يحمل في طياته علامات واضحة للاضطهاد القومي. والألبانيين برفضهم كلا من موسكو وبيكين، يعتبرون بدورهم أنفسهم "قلعة للاشتراكية العالمية". إن النتيجة المأساوية الأخيرة للتعاليم الزائفة "للشيوعية القومية" هي الحروب العلنية ما بين "الدول الاشتراكية" التي تتحمل مسؤوليتها بالطبع البيروقراطيات الحاكمة ذات الامتيازات، وليس الاشتراكية أو الشيوعية أو الطبقة العاملة بأي شكل من الأشكال. تتلخص الثمار المرة "للشيوعية القومية" في تنامي المشاعر والعداءات القومية، حتى بعد قلب الرأسمالية، وكذلك في تنامي انعدام الثقة في أي شكل للتنظيم الأممي من قبل قطاعات هامة داخل الحركة العمالية والحركة الثورية عبر العالم. وكرد فعل مبالغ فيه على ما خبره العديد من الثوريين من الستالينية بكل أشكالها وتنوعاتها الأيديولوجية – كالماوية مثلا – التي تتمثل في إخضاع مصالح عمال وثوريي أقطار عدة لمناورات جهاز دولة واحدة (فالزعيم الستاليني للحزب الشيوعي الفرنسي موريس توريز كان قد قال صراحة: "الأممية البروليتارية تعني اليوم التضامن مع الاتحاد السوفياتي في كل موقف) ينتهي هؤلاء الثوريون بقذف الطفل مع مياه حمّامه القذرة، رافضين أي شكل من أشكال التنظيم الأممي والمتضمن لالتزام حقيقي مبني على أي شكل من أشكال المركزية الديموقراطية الأممية. إن في هذا خطوة كبرى إلى الوراء بالمقارنة مع ما توصلت إليه النظرية والممارسة الثوريتان خلال العقود الأولى من هذا القرن، وبالتالي يجب رفضه رفضا قاطعا. وبمواجهة ازدياد أشكال التدويل للثورة والثورة المضادة، وفي مواجهة المركزة المتزايدة في خطط وتحركات الإمبريالية المعادية للثورة، لا يمكن اعتبار تشرذم القوى البروليتارية والقوى المعادية للإمبريالية في قطاعات "قومية" خالصة تعمل بالاستقلال التام بعضها عن بعض إلاّ عملا من شأنه إضعاف قوى الثورة لصالح العدو الطبقي على نحو تام. ومن قبيل المفارقة أن رفض التنظيم الأممي يكسب معنى من وجهة نظرية فقط فيما إذا سلمنا بإمكانية تحقق "الاشتراكية في بلد واحد" – كما فعل العديد من اليساريين الإصلاحيين والستالينيين والماويين. لقد تمكنت الأممية الرابعة من استخلاص الدروس الضرورية من الأخطاء (التي ارتكبت في عهد زينوفييف وبوخارين) وجرائم الكومنترن (في عهد ستالين). إننا نؤمن بأنه على كل تنظيم ثوري قطري أن يتعلم من جراء خبرته كيفية تطوير كادرات وقيادات قادرة على الإلمام، إلى جانب الدروس المستقاة من الصراع الطبقي العالمي، بالخصوصيات القومية لبلدها، في سبيل وضع التكتيكات التي تلائمها. ولهذا السبب يمنع نظام الأممية الرابعة الداخلي الهيئات الأممية من تغيير قيادات الفروع القطرية أو وضع تكتيكاتها. إلاّ أنه فيما يتعلق بالمسائل الحيوية للسياسة والاستراتيجية العالميتين، ينبغي على الفروع القطرية الخضوع للانضباط الأممي. فالقرارات العالمية هي ملزمة لكل الفروع التي تهدف إلى بناء حزب عالمي. إن البديل الوحيد لتلك المنظمة الأممية المنضبطة فيما يخص المسائل العالمية (في إطار النقاش الديموقراطي الحر، وحق الأقلية في متابعة محاولاتها من أجل تغيير القرارات العالمية بعد مرور فترة من التطبيق العملي قادرة على البرهنة على خطأ الأكثرية) هو بالضبط "الاشتراكية القومية" أو "الشيوعية القومية"، الذي تضحي نتيجته النهائية، كما لخصته بوضوح معبر روزا لوكسمبورغ (اثر انهيار الأممية الثانية، عند اندلاع الحرب العالمية الأولى (انهيار سببه أيضا إلى جانب أمور أخرى، غياب موقف موحد حول مسألة الحرب داخل تلك الأممية) كامنة في الشعار القائل: "يا عمال العالم، اتحدوا في أوقات السلام وإقتلوا بعضكم بعضا في وقت الحرب".
5- بناء الأممية الرابعة، المنظمة العالمية الوحيدة الموجودة والتي تعمل على هذا الأساس ذلك هو السبب الذي دعا تروتسكي و مشاركيه تفكيره، منذ اليوم الأول لإطلاقهم الفكرة القائلة بضرورة بناء أممية رابعة جديدة إثر انهيار الأممية الثالثة، إلى التمسك بإصرار بالفكرة القائلة أن على تلك الأممية أن تعمل كمنظمة حقيقية، على أساس من الانضباط الطوعي منذ استهلالها، بغض النظر عن قوتها أو ضعفها النسبيين. إننا نفهم تماما أن الأممية الرابعة لا زالت ضعيفة، بالرغم من كونها الآن أقوى بعدة مرات مما كانت عليه عام تأسيسها عام 1938 أو بعد الحرب العالمية الثانية، عند مؤتمرها العالمي الثاني عام 1948. ما نحن سوى النواة الأولى للأممية الجماهيرية الشيوعية مستقبلا –هيئة الأركان الحقيقية للثورة العالمية، التي تنسق فعليا جميع النضالات الثورية عبر العالم. كذلك الأمر بالنسبة لفروعنا القطرية، فهي لم تصبح بعد، ودون أي استثناء، أحزابا جماهيرية ثورية بمستطاعها قيادة النضالات الطبقية، يوم بيوم، لقطاعات هامة من الجماهير في أقطارها المختلفة. إن على هذه الأنوية أن تمر بعمليات اندماج عدة مع قوى ثورية جديدة ناهضة، وبكسب متعدد لتيارات معارضة انفصلت عن أحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الجماهيرية والأحزاب الشيوعية في فترة ثورية أو ما قبل ثورية، قبل أن تستطيع بلوغ وضع حزب جماهيري ثوري متكامل بمقدوره قيادة البروليتاريا والفلاحين الفقراء إلى ثورات اشتراكية ظافرة. لكن هذه الأنوية سوف تقدم إلى أحزاب المستقبل الثورية الجماهيرية والأممية الثورية الجماهيرية برنامجا يلخص كل دروس 150 عاما من النضالات البروليتارية الطبقية عبر العالم. وسوف تقدم إلى أحزاب المستقبل الجماهيرية والأممية الجماهيرية كادرا متمرسا بذلك البرنامج وعنده الخبرة في تطبيقه على أكثر الأوضاع التكتيكية تنوعا في كل أنحاء العالم. كما أنها تقدم بشكل خاص لأحزاب الغد الجماهيرية والأممية الجماهيرية التدرب الثمين والقدرة الثقافية المتجسدين في الممارسة الأممية المطبقة على نحو يومي. لقد برهنت التجربة مرة إثر مرة على أنه يستحيل بالمطلق بلوغ حتى أبسط مستوى من التضامن والعمل الأممي على أساس عفوي محض. فمن الطوباوية الكاملة الاعتقاد أنه بالإمكان بأي وسيلة كانت بلوغ درجة التنظيم الأممي في النظرية والممارسة التي تحتاج إليها المرحلة الراهنة من النضال الطبقي والنضال الثوري العالميين، دون التحضير الواعي والدؤوب للآلاف وعشرات الآلاف من الكادرات والمناضلين في هذا الاتجاه: طوال سنوات وسنوات سالفة. إن ذلك يشرح حقيقة كون الأممية الرابعة، على ضعفها الراهن، هي الاتجاه الوحيد داخل الحركة العمالية العالمية الذي يعمل فعليا كمنظمة عالمية في أكثر من ستين بلدا عبر العالم، وهو أمر ليس بصدفة على الإطلاق. هذه الأممية هي حصيلة الممارسة والثقافة الدؤوبين في النضال الأممي، بمواجهة "الشيوعية القومية" الستالينية، منذ ولادة الحركة التروتسكية، وفي استلهام تراث الأممية الشيوعية وكل المناضلين الأمميين خلال الحرب العالمية الأولى من أمثال روزا لوكسومبورغ وكارل ليبنخت. وهي ليست عبادة بحتة أو لافتة بسيطة. إنها مصدر مضاعفة القوة في النضال اليومي، وقطب جدب ثابت للعناصر الثورية عبر العالم. في الواقع، إن تواجد الأممية الرابعة اليوم في ضعف عدد الأقطار التي كانت تتواجد فيها يوم موت تروتسكي، أو بعد الحرب العالمية الثانية، يمكن تفسيره إنطلاقا من واقعين: واقع أن ثوريين في إعداد متكاثرة من بلدان العالم قد توصلوا من خلال تجربتهم وعملهم الثوريين إلى نتائج برنامجية مطابقة لتلك الولادة في برنامج الأممية الرابعة، وواقع أنهم قد فهموا من خلال تلك التجربة نفسها الحاجة إلى بدء بناء منظمة أممية، هنا وفي الحال. إن الفكرة القائلة بأنه ينبغي أولا بناء منظمات ثورية قطرية قوية قبل الشروع في بناء منظمة أممية حقيقية هي فكرة خاطئة تماما. إذ أنها لا تجيب على مسألة كيفية ضمان الحد الأدنى من الانسجام البرنامجي والتنظيمي في المستقبل ما بين منظمات تم بناء كل منها بمعزل عن الأخرى. كما أنها لا تجيب على كيف بالإمكان توفير الثقافة الأممية الفعالة دون الخوض في تجربة عملية، يوما اثر يوم، من النضال الأممي المشترك. كما أنها لا تجيب بالأخص على السؤال حول كيف بالإمكان تناول الوضع العالمي بالغ التعقيد وتطوره بالتحليل الوافي دون إخضاعه للممارسة العملية المشتركة في معظم أنحاء العالم، بواسطة منظمات متعاضدة في الحزب العالمي ذاته. لماذا لا تزال الأممية الرابعة ضعيفة وغير قادرة على قيادة ثورات بروليتارية ظافرة ؟ إن الجواب الذي يجب بلورته دون الوقوع في شراك اللا موضوعية أو المثالية (لا يمكن اعتبار هذا أو ذلك) "الخطأ" المرتكب من قبل مجموعة صغيرة من البشر في هذا أو ذاك المكان أو الوقت عنصرا حاسما في التاريخ العالمي) لا يمكن أن يكون إلاّ: لأن مستوى الوعي الطبقي عند البروليتاريا، بما في ذلك طليعتها الواسعة، لا يزال دون حاجات ثورات بروليتارية منتصرة، أي ثورات في بلدان تشكل فيها الطبقة العاملة القوة الاجتماعية الرئيسية من حيث تعدادها، في العملية الثورية. وفي الحقيقة نجد أن كل الثورات الظافرة التي ظهرت منذ الثورة الروسية، وبظل قيادات لم تكن ماركسية ثورية (يوغوزلافيا، الصين، كوبا، وثورات الهند الصينية) قد ظهرت في ظروف لم تكن الطبقة العاملة فيها القوة الرئيسية ضمن القوى المشتركة في العملية الثورية. كما نجد أن تدني مستوى الوعي الطبقي هذا ما هو إلاّ نتاج فترة طويلة من الهزائم للثورة العالمية (1923-1943)، ونتائجها الكاريثية التي مكنت الإصلاحية و الستالينية وتعبيراتها المتنوعة الأخرى من تشديد هيمنتها على جمهور العمال المنظمين. وعلى كل حال، فلقد كان من شأن صعود الثورة العالمية إثر الحرب العالمية الثانية، وتمكنها من تسجيل أولى انتصاراتها في البلدان المتخلفة، أن أطلقت، بدءا من أيار 1968، أول موجة جديدة من النضالات، إن يكن في البلدان الإمبريالية أو شبه-المستعمرة أو في الدول العمالية المبقرطة. في ظل هذه الظروف، نجد أن هناك عودة تدريجية للنضالات الثورية إلى الأشكال البروليتارية "الكلاسيكية" وتعبيراتها الأخرى، على الأقل فيما يتعلق ببعض المسائل الهامة، كما نشهد نموا متوازيا لليسار الثوري مع بوادر تأثير جماهيري. إن هناك تسريعا في خطى بناء الأممية الرابعة. إن تحولها إلى أممية جماهيرية سيتم بالدرجة الأولى عبر اندماجها مع تلك الطليعة البروليتارية الصاعدة في أقطار عدة عبر العالم. لكن هل يعني هذا أن فائدة الأممية الرابعة اقتصرت حتى الآن كمنظمة أممية، على حقل البرنامج والدعاية والثقافة الأمميتين ؟ ففي الوقت الذي لم يصبح بمقدور الأممية الرابعة فيه بعد تأطير قيادة ثورات على الصعيد العالمي، إلاّ أنها قادرة على تنظيم نضالات أممية بفعالية متزايدة –نضالات لا شك بقدرة المنظمات الجماهيرية على تنظيمها، وبفعالية أكبر، غير أن هذه التنظيمات ترفض القيام بها لأنها كفت منذ زمن بعيد عن أن تكون منظمات ثورية تناضل من أجل هدف إطاحة الرأسمالية على مستوى عالمي والدكتاتورية البيروقراطية في الدول العمالية المبقرطة. وفيما يلي أمثلة بالغة على بعض النضالات الأممية الفعالة التي خاضتها الأممية الرابعة: لقد كان الفرع الفرنسي للأممية الرابعة في أواخر الخمسينات التيار الوحيد داخل الحركة العمالية الفرنسية الذي أنقذ شرفه بالعمل الدؤوب على توفير التضامن والدعم الفعليين مع الثورة الجزائرية (كذلك قامت مجموعات وأفراد عديدون خارج الحركة العمالية الفرنسية المنظمة بالنشاط في الاتجاه نفسه). وفي ذلك الوقت وبالرغم من أن الأممية الرابعة كانت أكثر ضعفا مما هي عليه اليوم نجدها وقد نجحت في إنشاء أول مصنع للسلاح الخفيف الحديث للثورة الجزائرية، التي كانت عمليا في عزلة عن أي دعم أممي. كذلك قامت قوى الأممية الرابعة عبرالعالم، في أواسط وأواخر الستينات، بالمشاركة النشيطة، ومن مواقع قيادية في بلدان عدة، في تنظيم أطر عمل جماهيرية تضامنا مع الثورة الفيتنامية. ويأتي الدور الذي لعبه رفاقنا في الولايات المتحدة في تنظيم الحركة الجماهيرية المعادية للحرب ليشكل موضوعيا إسهاما حاسما في انتصار الثورة الفيتنامية عبر إرغام الإمبريالية الأمريكية على سحب وحداتها العسكرية من فيتنام. في عام 1971، كانت الأممية الرابعة المنظمة الوحيدة التي بادرت إلى إطلاق حملة احتجاج عالمية (شارك ضمنها رفاقنا في سريلانكا) ضد المجازر وحملات التشهير الجماعية التي ارتكبت بحق الشبيبة الثورية في سريلانكا من قبل حكومة بندرانيكا التي تدعمها كل من واشنطن ولندن وموسكو وبيكين ونيودلهي وإسلام أباد، أي عمليا كل القوى والدول القائمة في العالم. ولقد تم إنقاذ حياة زعيم الـ JVP، روها ويجنيكا بفضل حملة الدعم الأممية هذه. عند صدور حكم الإعدام بحق القائد الفلاحي الثوري في البيرو، هوغو بلانكو، من قبل سلطات ذلك البلد، قامت الأممية الرابعة بتنظيم حملة دفاع عالمية أنقدت حياته. كذلك تم عند نفيه لاحقا تنظيم حملة دعم مشابهة من أجل عودته. واليوم يعتبر هوغو بلانكو الشخصية اليسارية الأكثر تأثيرا في الجماهير في البيرو، وهو اليوم منشغل في عملية بناء فرع قطري قوي للأممية الرابعة. عند إقدام دكتاتورية فرانكو المتداعية على الحكم على ستة من ثوار الباسك القوميين بالإعدام خلال محاكمة برغوس (Burgos) سيئة الصيت في يناير عام 1971، بادرت الأممية الرابعة إلى تنظيم حملات دعم ومظاهرات جماهيرية قوية في كل أوروبا من أجل إنقاد حياتهم، كانت نتيجتها عدم تنفيذ هذه الأحكام وقيام فرع بكامله من ثوار الباسك بالإندماج مع الفرع الإسباني للأممية الرابعة. إثر الإطاحة بدكتاتورية الشاه سيئ الصيت، وفي صيف 1979، بدأت قوات الخميني بقمع اليسار الثوري والقوميات المضطهد (كأكراد إيران)، فجرى التصدي للمنظمة التروتسكية الناشئة بسبب تضامنها النموذجي مع النضال الكردي. تم اعتقال أربعة عشر رفيقا وصدرت بحقهم أحكام الإعدام. عندها نجحت الأممية الرابعة بتنظيم أوسع حملة دفاع عالمية في تاريخها لصالح أولئك الرفاق، متلقية دعم كل التيارات الجماهيرية داخل الحركة العمالية الأوروبية عمليا، إلى جانب قطاعات كبرى من الاتحادات النقابية في مناطق أخرى من العالم. وكنتيجة لهذه النضالات لم يعدم الرفاق، كما تم إطلاق سراحهم جميعا الآن. ومنذ بداية عام 1979 والأممية الرابعة منهمكة في عملية تنظيم حملة دعم عالمية للثورتين النيكاراغوية والسالفادورية، أو المشاركة في تلك الحملة، وقد أضيفت إلى ذلك في هذه الأيام مهمة تنظيم حملة من أجل إطلاق قادة إضراب 200 ألف عامل تعدين في ساو باولو في البرازيل، تم سجنهم من قبل الدكتاتورية العسكرية البرازيلية. لقد كانت القوى التي تعتبر نفسها تروتسكية، والأممية الرابعة من ضمنها، أدوات فاعلة في النضال من أجل إطلاق سراح رموز أساسية عدة من المعارضة ضد البيروقراطية داخل الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبية شرقية مختلفة. ولقد تم بنجاح تحرير عالم الرياضيات بليوتش (Plioutch). كما أن معركة إطلاق سراح بيتر أول (Peter Uhl)، زعيم الحزب الاشتراكي الممنوع في تشيكوسلوفاكيا واحد مؤسسي ميثاق 77، قد بدأت.
6- لماذا عرفت الحركة التروتسكية العديد من الإنشقاقات ؟ إنه اعتراض أخير لابد من الإجابة عليه. نحن دائما نتكلم على "الـ" أممية الرابعة، لكن هل هذه المنظمة موجودة حقا ؟ أليس هنالك منظمات عدة تدعي أنها "الـ" أممية الرابعة ؟ ألم تشهد الأممية إنشقاقات وانقسامات لا تعد منذ تأسيسها ؟ قبل كل شيء لا بد من التنويه بأن هناك عنصرا قويا من المبالغة في هذه المماحكة. فغالبية الذين يدعون بأنهم تروتسكيون هم منظمون في الأممية الرابعة. ليس هناك "عدة" أو حتى "بعض" الأمميات الرابعة. هناك أممية رابعة واحدة تعمل كمنظمة عالمية. وكل ما عداها من التشكيلات – في الواقع، تكتلات وشيع – تدعي التروتسكية، فإن لم تكن معزولة تماما بعضها عن البعض الآخر على الصعيد القطري، فإننا نجدها تعمل داخل إطار "أممي" مائع دون وجود الانضباط والديموقراطية الحقيقيتين، أي دون توفر الحدود الدنيا من مستلزمات تنظيم حزب حقيقي، كما عرفها لينين أولا و تروتسكي بعد عام 1933 عند بدئه عملية بناء الأممية الرابعة. كذلك فإننا إذا ما القينا نظرة على سجل الأحزاب الشيوعية الرسمية، دونما أي حاجة للحديث عن سجل الماويين، نكتشف أنهم شهدوا من الانشقاقات خلال العقد الأخير أكثر بكثير مما شهدته الأممية الرابعة. في كل حال، لقد ظهرت انقسامات هامة عدة في تاريخ الأممية الرابعة. فكيف نفسرها ؟ إن معاينة دقيقة لكل هذه الانقسامات مؤداها أنها كلها ارتبطت بمنعطفات هامة في الصراعات الطبقية العالمية منذ عام 1939، تصرفت بمواجهتها أجزاء من الحركة التروتسكية كل منها بطريقة مختلفة عن الطريقة الأخرى. وليس في ذلك ما يثير الدهشة. فلطالما حدث ذلك في تاريخ الحركة العمالية العالمية. وما على المرء إلاّ أن يستعيد الخلافات الحادة الناشئة في تلك الحركة حول مسائل تتعلق بما إذا كان يجب على العمال المبادرة إلى بناء أحزابهم السياسية المستقلة أو الانخراط فقط بالعمل المباشر داخل المصنع، وبما إذا كان على هذه الأحزاب السياسية، وفي ظروف معينة، الدخول في حكومات ائتلافية مع البرجوازية أو لا، وبما إذا كان على الاشتراكيين دعم الحرب الإمبريالية أو معارضتها، وبما إذا كان عليهم دعم الثورة الروسية وتنظيم المجالس العمالية (السوفياتات) بمواجهة الديموقراطية البرجوازية البرلمانية التقليدية أو لا. كان من شأن كل هذه الخيارات المتتالية أن قادت إلى نقاشات حادة وأدى معظمها إلى إنشقاقات مديدة داخل الحركة العمالية. لقد مثلت هذه الخيارات مسائل حياة أو موت بالنسبة للصراع الطبقي، وحولها أعادت التيارات السياسية تجميع نفسها بغض النظر عن قناعاتها السابقة، بفعل قوة الضغط الاجتماعي الصاعد في ذلك الحين. هكذا لم يكن بمستطاع الأممية الرابعة، وهي الحركة الأكثر ضعفا، النجاة من القدر ذاته. إن أكثر قضايا الصراع الطبقي العالمي إلحاحا، التي قادت إلى هذه الانقسامات داخل الأممية الرابعة منذ تأسيسها هي: ما يسمى بالمسألة "الروسية"، أو، بعمومية أكثر، مسألة الطبيعة المزدوجة للبيروقراطيات الحاكمة في الدول العمالية (وطبيعة الستالينية). فعند اندلاع الحروب (مثل الحرب الروسية-البولونية والروسية-الفنلندية في 1939، والحرب الكورية في 1950) رفضت تيارات في الأممية الرابعة الدفاع عن الإتحاد السوفياتي، بوجه الإمبريالية بغض النظر عن انحطاطه البيروقراطي، تحت وقع ضغط البرجوازية الطبقي. كذلك الأمر، في كل مرة تخطو فيها البيروقراطية إلى "اليسار"، أي تتخذ إجراءات ضد الملكية الخاصة من أجل الدفاع عن سلطتها وامتيازاتها هي، التي تبقى قائمة على أساس الملكية الجماعية، نجد اتجاهات داخل الحركة التروتسكية ذات ميل للاستسلام للستالينية لتعطي البيروقراطية وظيفة "تقدمية" أو حتى لتصور الإصلاح الذاتي على أنه خطوة نحو عودة الديموقراطية السوفياتية. حدث ذلك في بداية عهد الحرب الباردة ومن ثم بداية عهد خروتشيف.كذلك حدث الأمر نفسه في ما يخص البيروقراطية الصينية عند بدء الثورة الثقافية. إن كلا الخطأين كارثيان من وجهة نظر مصالح الطبقة العاملة العالمية. ولقد تمت معارضتهما بحق من قبل أكثرية الأممية الرابعة كما سيتم معارضتهما في المستقبل. ثورة المستعمرات وموقعها من الثورة العالمية –لقد كان من شأن الهزائم التاريخية، التي تم وصفها أعلاه، والتي لحقت بالثورة البروليتارية في الغرب، والتدني المؤقت لمعدل الوعي الطبقي العمالي في الدول الرأسمالية المتقدمة (وفي الاتحاد السوفياتي) أن إنتقل مركز ثقل النضالات الثورية خلال 20 عاما – أي ما بين 1948 و1968 – إلى البلدان المتخلفة. وكنتيجة لذلك الانتقال، ظهر في صفوف الأممية مرة أخرى خطآن متوازيان. فالبعض اعتقد أن القوة الثورية الكامنة للطبقة العاملة الصناعية في البلدان الرأسمالية (وفي الاتحاد السوفياتي) قد أعدمت، أو على الأقل قد شلت لفترة تاريخية بكاملها، وأنه على الأممية الرابعة أن تركز بالتالي على إعطاء الدعم لنضالات التحرر القومي، التي لا بد أن تنتصر قبل أن يكون هناك أي ثورة اشتراكية في أي مكان آخر من العالم (حتى أن البعض منهم قد شط بعيدا إلى درجة التخلي التدريجي عن مفهوم بناء أحزاب ثورية مستقلة، طالما أن الميدان الثوري "تحتله" منظمات قومية ثورية على المرء أن يقتصر نشاطه على دعمها وإسداء النصح لها ليس إلاّ). إننا لسنا بحاجة للقول أنهم فوجئوا تماما بالصعود الهائل للانفجارات الجماهيرية البروليتارية الكلاسيكية (إضرابات عامة، انتفاضات مدينية، عودة أشكال مجالس العمال إلى الظهور) منذ ماي 1968 ليس في الغرب وحده بل في بلدان "العالم الثالث"، كما أنهم فوجئوا بإفلاس معظم القيادات القومية-الثورية التقليدية في المستعمرات وشبه المستعمرات، التي ما استطاعت إلاّ استقدام أنظمة نيو كولونيالية. ولقد كان هنالك خطأ مواز يقوم على وصف حركات جماهيرية واسعة، ذات طبيعة معادية للإمبريالية وذات دينامية واضحة في معاداتها للرأسمالية، بأنها "قومية" و"برجوازية صغيرة" (أو حتى "برجوازية صرف" و"رجعية") لمجرد أنها كانت في مرحلة أولى بقيادة قوى برجوازية أو برجوازية صغيرة قومية. لم يكن من شأن هكذا نهج عصبوي أن يقطع الطريق على إمكانية بناء فروع جدية للأممية الرابعة في البلدان شبه-المستعمرة وحسب، بل انه غالبا ما قاد مؤيديه إلى تبني موقف هي لصالح الإمبريالية موضوعيا، إذ أن رفضهم لتقديم أي تيار بروليتاري في البلدان الإمبريالية دعما للنضالات التحررية، بحجة أن قياداتها سيئة، أو أن أيديولوجيتها "غير نقية"، قد ساعد الإمبريالية موضوعيا على محاربة تلك النضالات وسحقها وعلى إبقاء الطبقة العاملة الغربية مفصولة عن حلفائها الطبيعيين في المستعمرات. حتى أن البعض أنكر على عمال البلدان المتخلفة و فلاحيها قدرتهم على استلام السلطة، واضعين نظرية الثورة الدائمة بمجملها على رأسها، خالطين ما بين الثورة الاشتراكية – التي لا بد ستفتح الطريق لتقدم هائل أمام البلدان المتخلفة – والبناء النهائي للمجتمع الاشتراكي. ومرة أخرى تبنت الأممية الرابعة الموقف الصحيح عموما من تلك المسألة الراهنة، رافضة اللحاق بأي من الميول الانتهازية المتجهة إلى التصفية والتحريف فيما يخص احتمالات الاشتراكية العالمية والثورة البروليتارية، ورافضة الطلاق العصبوي مع واجب إعطاء الدعم النقدي لكل الإجراءات والحركات الجماهيرية ذات الطبيعة المعادية للإمبريالية في المستعمرات وشبه المستعمرات بغض النظر عن طبيعة قياداتها. ج- العلاقة ما بين المنظمات التقليدية للطبقة العاملة والطليعة الثورية، وتأتي بالارتباط معها مسألة نهج الثوريين تجاه مؤسسات الدولة الديموقراطية البرجوازية. إن التأخر الطويل للثورة العالمية أدى إلى تمديد فترة سيطرة الأجهزة البيروقراطية لكل من الاشتراكية-الديموقراطية و الستالينية والشيوعية الأوروبية والاتحادات النقابية على أوسع جمهور الطبقة العاملة المنظمة في البلدان الصناعية. الأمر الذي أدى إلى مواجهة الثوريين معضلة تكتيكية صعبة وهي انه كيف يمكن التوصل إلى حوار وإمكانية عمل مشترك مع هذا الجمهور من العمال دون تغذية أوهامهم الإصلاحية، ودون أن يؤدي ذلك إلى تقوية روابطهم بقادتهم من دعاة التعاون الطبقي، بدلا من العمل باتجاه الانفصال التقدمي لهذه الجماهير عن الإصلاحيين. هكذا دعا البعض إلى التخلي عن فكرة بناء أحزاب طليعية ثورية مستقلة لصالح تكتيكات "دخولية عميقة على أمد طويل" في الأحزاب الإصلاحية، متوهمين إمكان تحويل هذه الأحزاب إلى أدوات أصيلة من أجل قلب الرأسمالية. حتى أنهم قد ذهبوا إلى حد تخيل إمكانية قلب الرأسمالية دون قلب مؤسسات الدولة البرجوازية للديموقراطية البرلمانية، عبر الدفع بأحزاب إصلاحية تكون قد تمكنت من الفوز بالأغلبية البرلمانية إلى تطبيق البرنامج الاشتراكي. إن تحريف النظرية الماركسية-اللينينية حول الدولة، والأوهام المبالغ فيها في ضوء السجل التاريخي، التي اكمن خلف هذه المفاهيم واضحة تماما. وكما دلت التجربة الأخيرة للثورة البرتغالية مرة أخرى، في عامي 1974-1975، فالخيار النهائي ما بين نصر الثورة في البلدان الصناعية وهزيمتها غالبا ما سيكون مرهونا –إن لم نقل دوما- بالخيار بين البرلمانية البرجوازية (بما فيها الجمعية التأسيسية)، حتى بغالبية إصلاحية مطلقة، ونقل السلطة إلى نظام ديموقراطي مركزي للمجالس العمالية والشعبية (السوفياتات). فإذا انتصر الخيار الأول، فإنه نصر للديموقراطية المضادة للثورة أي لصالح توطيد سلطة الدولة البرجوازية، حتى في ظل قيادة اشتراكية ديموقراطية (أو أوروبية شيوعية). وهنالك خطأ مواز يعتقد أن التطبيق الدؤوب لتكتيك الجبهة المتحدة دون أن يرافق ذلك النمو الموازي لحزب ثوري مستقل سوف يقود فعليا إلى انفصال عفوي للطبقة العاملة عن الإصلاحية، ذلك أن الإصلاحيين سيكونون "مرغمين" على تأليف حكومة "دون وزراء برجوازيين". إن تجربة ست حكومات عمالية في بريطانيا منذ سنة 1929 والتجربة الأكثر كارثية للحكومة الاشتراكية الديموقراطية "الصرفة" لسواريز في البرتغال، تدحضان كليا ذلك الوهم. كذلك فإن البعض الآخر قد أخذ يميل، نتيجة الاستقراء الخاطئ للسياسات الخيانية لكل من الزعامات المضللة للطبقة العاملة، الاشتراكية الديموقراطية و الستالينية والشيوعية الأوروبية، إلى مساواة الحزبين الشيوعي والاشتراكي مع الأحزاب البرجوازية، بادئا بنكران الاختلاف في الوعي السياسي الطبقي الذي يشكل خلفية تحرك الطبقة العاملة نحو تشكيل أحزابها السياسية الخاصة بها بمواجهة أحزاب أرباب العمل (حتى لو كان لتلك الأحزاب قيادات وسياسات تعاون طبقي مؤازرة للرأسمالية)، كما رفض الدعوة للتصويت الطبقي لصالح هذه الأحزاب بمواجهة أحزاب برجوازية، ورفض تطبيق سياسة الجبهة العمالية المتحدة فيما يخص هذه الأحزاب وتبنّي أوهاما يسارية قصوية حول أنه، بطريقة ما، سيؤدي النمو المستقيم لليسار الثوري من خلال تصدره المعارك مع الإصلاحيين إلى جذب أوسع جمهور الطبقة العاملة إلى الماركسية الثورية. هكذا نجدهم لا يفهمون أنه فقط بخوض تجربة مشتركة من النضال والتعبئة مع العمال الذين لا زالوا يتبعون القادة الإصلاحيين المضللين، يصبح بالإمكان تحقيق ذلك الهدف. وأن ذلك جوهر سياسة الجبهة المتحدة، التي نجدها اليوم أكثر راهنية مما في أي وقت مضى. وفي الوقت الذي اعتبرت فيه – ولا زالت تعتبر – الخلافات التي ظهرت داخل الأممية الرابعة، حول هذه المسائل الحيوية، هامة وليس بالإمكان تجنبها عمليا داخل منظمة ثورية، إلاّ أنه لا يترتب عليها بالضرورة إنشقاقات. يكون الانشقاق فقط إذا كانت المنظمة غير ديموقراطية – وليست هذه حال الأممية الرابعة بالتأكيد ! – أو إذا وقعت هذه الاتجاهات، نتيجة خلافاتها مع الأكثرية حول مسائل كهذه، ضحية الزمروية والعصبوية التنظيمية أي الإيمان بصوابية إقدامها على شق منظمة ثورية حول مسائل تكتيكية أو ظرفية. هكذا نجدهم يخلطون ما بين بناء الحزب وبناء التكتل، الأمر الذي يتطور بالضرورة باتجاه التعصب. لقد كان هذا مرضا مهلكا داخل الحركة الثورية منذ أوائل العشرينات. لذا يجب التعرض له دائما على هذا الأساس، ويجب تثقيف الأعضاء ضده. هناك بعض الانتقادات للأممية الرابعة تعتقد بأن "ليبرالية" نظامنا الداخلي قد دفعت أو حتى تسببت بالإنشقاقات التي عرفناها، أي، تلك الليبرالية التي تتمثل بالاحترام الحازم لحق تشكيل الاتجاهات وحتى التكتلات، طالما أن العاملين فيها لا زالوا يحترمون مبدأ الانضباط في العمل على أساس قرارات الأكثرية. إننا نعتقد أن عكس ذلك تماما هو الصحيح. إن من شأن المنظمات التي لا تحترم الديموقراطية الداخلية ولا الحق في تشكيل الاتجاهات أن تشهد عددا أكبر من الانشقاقات، وليس أقل مما تشهده الأممية الرابعة. إن الديموقراطية الداخلية بالنسبة إلينا هي مسألة مبدأ، كالديموقراطية الاشتراكية داخل الدولة العمالية. إذ أننا لا نؤمن بعصمة أي قائد، أو أي مجموعة صغيرة من الرفاق القادة، من الخطأ. إننا نؤمن أن كل المنظمات ترتكب أخطاء، وبدون ديموقراطية داخلية يصبح من الأصعب ولأبطأ تقويم هذه الأخطاء. كذلك الأمر، فبدون ديموقراطية داخلية، يصبح بالغ الصعوبة تشكيل فرق قيادية مشتركة، ومن الصعوبة تدريب أقصى ما يمكن من الأعضاء على المشاركة الحية في تطوير خط الحزب. فقط الحزب الذي لديه أعضاء من هذا النوع هو حقا قوي وقادر على قيادة الطبقة العاملة إلى نموذج الدولة العمالية الذي نطمح إليه، دولة تكون السلطة فيها بأيدي الطبقة العاملة نفسها من خلال مجالس العمال المنتخبة ديموقراطيا والتي يستطيع الحزب الثوري من داخلها أن يفوز بالسلطة والهيمنة السياسية، من خلال التفوق السياسي وليس من خلال إجراءات إدارية. |