التصور الثوري والتصور الإصلاحي |
إن كون النضالات الجماهيرية الواسعة جدا والمندفعة، التي تضع موضوعيا على جدول الأعمال إمكان إطاحة النظام الرأسمالي، لا تنفجر إلا بشكل دوري أمر يطرح على الماركسيين مسألة النشاط اليومي. إذ تتعذر مواصلة نشاط ثوري على المدى الطويل دون ممارسة من الجماهير تكون بالأقل ذات نتائج ثورية موضوعيا. و إن كل محاولة ممارسة ثورية معزولة عن الجماهير وغير مفهومة لديها تعطي نتائج غير مثمرة إلى حد بعيد. ولكن من جهة أخرى، تؤدي كل ممارسة إصلاحية حصرا ؛ أي غير مقتصرة على القابل للتحقيق آنيا وحسب، بل على ما هو مقبول من البرجوازية(1) (هنا بالضبط يكمن منطق الإصلاحية الجهنمي) إلى ثلاث عواقب كارثية. تنزع تلك الممارسة إلى إفساد تربية الجماهير وعدم إعدادها لانعطافات الوضع المباغتة المحتومة في عصرنا(2)، والى جعلها ُتقبل على أزمات ما قبل ثورية و ثورية من غير فهم ما هو ضروري وممكن. ولنفس السبب تنزع موضوعيا إلى كبح و تجزيء، وحتى إلى تحطيم واع، للنضالات الجماهيرية التي تهدد التوافق مع البرجوازية وتتجاوز إطار الدولة البرجوازية. وتنزع إلى تشويه المنظمات السائرة على هذا النهج نفسها بجعلها عاجزة أكثر فأكثر عن فهم مآل الرأسمالية(3) وإضعاف قدرتها على الانتقال إلى الفعل الثوري عندما يغدو هذا الأخير ممكنا. جرى اقتراح حلول مختلفة لتذليل هذه الصعوبة الفعلية. وجلي أن الانكفاء على الدعاوة (الثورية) وحدها ليس حلا. فكل منظمة تهجر كل تدخل في الصراع الطبقي الفعلي مقتصرة على تدخل دعاوي تنحط بشكل أوتوماتيكي تقريبا إلى عصبة من نموذج شهود جيهوفا (بدعة ظهرت بالولايات المتحدة عام 1874 بناء على انتظار مجيء المسيح في آخر الأزمان. تنشر عقيدتها بالتبشير وتوزيع مناشير وطبع كتب ومجلات دورية – م ). كما أن الانكفاء على التماثل حصرا مع الثورات الفعلية الجارية في مناطق من العالم ـ تبعا لممارسة الأممية الثالثة أيام تحكم التيار الستاليني أو تبعا للممارسة الماوية ـ عقيم أيضا. إن هكذا تماثل مفيد ولا غنى عنه بما هو إحدى مكونات النزعة الأممية البروليتارية. بيد أنه لا يمكن بأي حال أن يقوم مقام تدخل عادي في الصراع الطبقي في كل بلد، منطلق من حاجات هذا الأخير الموضوعية ومن الانشغالات الفعلية للجماهير باستقلال عما يجري في بلدان أخرى. كما لا يقدم الاندماج الثابت وبشكل أولوي في المنظمات الجماهيرية والطبقة العاملة جوابا كافيا على السؤال. طبعا لا غنى عن هذا الاندماج، لكنه يعيد إلى المشكل الأصلي: ما هدف الاندماج ؟ وأي سياسة يتعين نهجها ؟ إذا قمنا بتأليف كل ما هو إيجابي في هذه المقاربات الثلاث الناقصة بسبب طابعها الجزئي بالذات، نقترب أكثر من حل مُرض لخصه ما سماه تروتسكي والأممية الرابعة باستراتيجية المطالب الانتقالية. انطلاقا من الانشغالات الآنية للجماهير، التي تظل حتما خلال أوضاع غير ثورية مركزة على إصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية وديمقراطية وثقافية ومناهضة للحرب وللميل نحو الدولة القوية القمعية …إلخ، يبرهن الثوريون بالممارسة عن كونهم أفضل منظمي هذه النضالات سواء بصياغة أهدافها أو مقترحات العمل أو التنظيم الفعلي للنضال. ويبذل الثوريون قصاراهم لتأمين أقصى ما يمكن من نجاح لهذه النضالات. ولكنهم يجمعون في كل مركب هذا النشاط مع دعاوة منهجية مناهضة للرأسمالية لا تكف عن تحذير الجماهير من وهم تقدم متواصل في إطار النظام، وتنبه إلى الأخطار المحتومة المهددة بإلغاء كلي أو نسبي للمكاسب الجزئية، وُتعد لجماهير للأزمات وردود الفعل المحتومة للرأسمال ودولته "الديمقراطية" وتصوغ الأجوبة اللازمة لتلك الأزمات وردود الفعل. وتتوج هذه الأجوبة في صيغ سلطة تواجه بها الجماهير الكادحة سلطة البرجوازية. ليس المقصود مهمة بيداغوجية وأدبية خالصة مع أنه ينبغي إلا نستهين بهذا الجانب من الإستراتيجية الإجمالية. إن للدعاوة تأثير على الصراع الطبقي الفعلي بقدر اكتسائها شكل إنماء دائم لتنظيم الجماهير الذاتي وللجان الإضراب واللجان القاعدية في الأحياء الشعبية واللجان المركزية للإضراب والتنسيقات الوطنية في حركات جماهيرية .إن هذه مدارس لا غنى عنها من تجربة نضال الجماهير المباشر خارج البرلمان التي يستحيل بدونها أي تحول إجمالي لهذه النضالات نحو الازدواجية المعممة للسلطة، وبالأحرى الاستيلاء على السلطة بالبلدان واسعة التصنيع. هذه تجارب ممكنة وضرورية حتى انفجار أزمات ثورية. بهذا الصدد يتجابه على الدوام التصور الإصلاحي والتصور الثوري للسياسة بالأقل في إطار الديمقراطية البرجوازية – البرلمانية، وذلك باستقلال عن مستقل عن الظرف المحدد. فعند الإصلاحيين (والإصلاحيين الجدد من كل صنف) تساوي السياسة الانتخابات والأنشطة داخل مؤسسات الدولة البرجوازية. وتعتبر الإضرابات بما هي "اقتصادية" أساسيا وبالتالي أدنى من السياسة – وحتى معدومة السياسة. وتنطبق نفس الملاحظة، إجمالا، على الأشكال الأخرى من نشاط الجماهير المباشر (إن لم يرفضها الإصلاحيون بشكل مسبق). يجب إذن إخضاعها للمتطلبات الانتخابية البرلمانية. هذا هو جوهر الانتخابوية الإصلاحية. وعلى العكس بالنسبة للثوريين يظل النشاط الانتخابي البرلماني(4)، أيا كانت أهميته، خاضعا للنشاط الذاتي والتنظيم الذاتي للجماهير الذي يمثل الممارسة التحضيرية الحقيقية لتحررالعمال.هذا الأخير لا يمكن أن يكون إلا من صنع العمال أنفسهم،لا من صنع أحزاب أو نقابات أيا كان دورها الضروري فضلا عن ذلك، ناهيكم عن أن يكون من صنع برلمانات أو بلديات. هنا تكمن الماركسية بكاملها. لا يقتصر إذن تعارض الإستراتيجية الإصلاحية والاستراتيجية الثورية على استبعاد الأولى حتمية الأزمات الثورية وحتى إمكانيتها. إنهما تتعارضان بشكل خاص بممارسات متباينة في الصراع الطبقي اليومي حتى في ظرف غير ثوري. فالأولى تخضع أكثر فأكثر الدفاع عن مصالح العمال لـ"الحفاظ على المؤسسات" وعلى "التوازن الاجتماعي" أي لممارسات تعاون طبقي. أما الثانية فتدافع بالرغم من كل شيء على مصالح العمال والعاملات و تذود لهذه الغاية عن الاستقلال السياسي للبروليتاريا ليس اتجاه الأحزاب البرجوازية وحسب، بل اتجاه مؤسسات الدولة البرجوازية أيضا. يمثل الدفاع المستميت عن الثورات الاشتراكية الجارية في أنحاء العالم جزءا لا يتجزأ من استراتيجية المطالب الانتقالية. إنه في المقام الأول مهمة عملية لأن تلك الثورات معرضة عموما لهجمات متعدد من الإمبريالية. و تتوقف إلى حد بعيد قدرتها على المقاومة والصمود، وكذا مصيرها اللاحق، على مدى اتساع حركة التضامن العالمية ردا على تلك الهجمات. وقد كان أرنستو تشي غيفارا على صواب، أكثر مما أُدِرك آنذاك، عندما اغتاظ من ضعف التضامن بوجه العدوان على الثورة الفيتنامية الهند-صينية في الستينات (وبعد اغتيال تشي في السبعينات). فحتى إن انتصرت الثورة الفيتنامية في الأخير، فقد جرى ذلك في شروط وبثمن جعلا كامل مستقبلها مرهونا بشكل عميق. قد تكون ردود الفعل النفسية-الأيديولوجية في أوساط "المنتمين لليسار" اتجاه الكارثة الكامبودجية ومجرى الأحداث في فيتنام اكثر اعتدالا لو راعت ما للحركة العمالية والحركة العالمية المناوئة للإمبريالية من قسط من مسؤولية المأساة الهند-صينية. كما يمثل الدفاع عن الثورات الاشتراكية الجارية مهمة رقي بالوعي الطبقي. فلا تُتعلم الروح الأممية من الكتب سوى على نطاق الأفراد. أما على نطاق جماهيري فتُستوعب عبر ممارسة متواترة. ليس فعل التضامن مع الثورات الجارية الشكل الوحيد الممكن لممارسة الأممية البروليتارية. لكنه يظل، طالما لم ترتم الجماهير نفسها في النشاط الثوري ببلدها الخاص، الوسيلة الوحيدة لرفع الوعي نحو إدراك الثورة كواقع تاريخي أساسي لشرائح أوسع..إنها ذات أهمية قصوى لمستقبلها الخاص. وبالنظر للتجربة السياسية الواسعة لبرجوازية البلدان الإمبريالية وما لها من احتياط اقتصادي، يبدو تمكن البروليتاريا من الظفر بالسلطة مستبعدا بغير مستوى وعي وقيادة جرى إعدادها سنوات من قبل. لذا فإن المكون المناهض للرأسمالية في النشاط الجاري للحركة العمالية أساسي للمستقبل. فبغير نظرية معادية للرأسمالية متماسكة و وبغير تربية الجماهير بشكل منهجي تربية معادية للرأسمالية و بغير ممارسة معادية للرأسمالية عند المنظمات الثورية لا مجال لانتصار بروليتاري ممكن في البلدان الإمبريالية، و بالتالي لا حل لأزمة البشرية ولا مستقبل لهذه الأخيرة.
(1) هنا يكمن المنطق الجهنمي للإصلاحية:الإقدام على
القفز الخطير من ما هو قابل للتحقيق فورا ( "الحركة كل شيء والهدف لا
شيء" عند برينشتاين) إلى ما هو متلائم مع مؤسسات الدولة البرجوازية
–البرلمانية أي مع الحفاظ على توافق أساسي مع البرجوازية.
(2) "لا يكمن الطابع الثوري لعصرنا في إمكان القيام
بالثورة كل لحظة، أي الاستيلاء على السلطة. ما يؤمن هذا الطابع الثوري
هو اهتزازات عميقة وفجائية وتغيرات متواترة وعنيفة." تروتسكي: نقد
برنامج الأممية الشيوعية في كتابه الأممية الثالثة بعد لينين.
(3) مثالان كلاسيكيان عن ذلك: أكد كاوتسكي في مقال
لمجلة نيو زايت أن الفوق-إمبريالية ستجعل الحروب مستحيلة. صدر المقال
غداة اندلاع الحرب العالمية الأولى.
(4) حسب كارل ماركس، يقدر الثوريون حق قدره كل تشريع
اجتماعي يتيح أن يمتد إلى مجموع الطبقة، لاسيما أضعف قطاعاتها، اقلها
تنظيما وأكثرها عرضة للاستغلال، ما يمكن للقطاعات الأفضل تنظيما
(وعموما الأفضل أجورا) دون غيرها انتزاعه بالنضال المباشر. |