أرنست ماندل
1923–1995
إرنست ماندل. أسماء مستعارة: إ. جيرمان، هنري فالان، بيار غوسيه، والتر، إي.ر بقلم
مايكل لوي وإنزو ترافيرسو
ولد إرنست ماندل يوم 5 نيسان/أبريل عام 1923 في فرانكفورت
(ألمانيا)، وتوفي يوم 20 تموز/يوليو عام 1995 في بروكسل (بلجيكا)؛ وهو اقتصادي ماركسي مشهور عالميا.
أحد قادة الأممية الرابعة الرئيسيين ومنظرها الرئيسي بعد وفاة تروتسكي.
كان إرنست ماندل
ذكيًا ومثقفا وخطيبا وكاتبًا لامعا، وحميما وجافا على حد سواء، ومناضلا مخلصا ونشطًا وواثقًا من
نفسه ومتفائلا إلى حد كبير. كان على قدر قليل من الموهبة بالمهام الإدارية والتنظيمية، وكان يحب في
المقام الأول النقاش والجدل والمواجهة، التي كان يشنها بحماس مع احترام خصومه. وُلد في ألمانيا
لعائلة يهودية كان أجدادها قد غادروا بولندا في بداية القرن. انتقل والداه، اللذان كانا يحتفظان
بالجنسية البولندية، إلى بلجيكا بعد وقت قصير من ولادته. ولم يحصل على الجنسية البلجيكية سوى في
بداية سنوات الخمسينيات. كان والده شيوعيًا قديما وعلى معرفة براديك في ألمانيا، وبسبب استيائه من
محاكمات موسكو، كان أنشأ لجنة دفاعا عن المتهمين. وبهذه المناسبة، كان إرنست ماندل التقى بعض مناضلي
مدينة أنتويرب التروتسكييين الذين أجروا اتصالات مع والده. وفي عام 1938، بعد محاضرة ألقاها ناتي
جولد، مندوب حزب العمال الاشتراكي الأمريكي، التي كان يخبر مناضل مدينة أنتويرب بتأسيس الأممية
الرابعة، انضم في سن الخامسة عشرة إلى الحزب الاشتراكي الثوري (SRP)، الذي أصبح فرع الحركة الجديدة
في بلجيكا.
مع الاحتلال الألماني في عام 1940، حاولت المجموعة الصغيرة التنظيم سريا ونشرت
جريدة غير شرعية، تحمل اسم طريق لينين La Voie de Lénine. كان القائد الرئيسي للحزب
الاشتراكي الثوري هو الشاب أبراهام ليون المولود في وارسو عام 1918، والمتوفى في أوشفيتز عام 1944،
الذي أصبح صديق إرنست ماندل وضمه إلى قيادة المجموعة. كان هدف الحزب محاربة الاحتلال النازي عبر
مقاومة جماهيرية معادية للفاشية وعبر عمل سياسي تجاه الجنود الألمان (بالتعاون مع التروتسكيين
الألمان المنفيين في بلجيكا في تلك اللحظة، مثل فيدلين). شارك ليون وماندل في الاجتماعات السرية لـ
«لجان النضال النقابية» التي كانت تتدخل في إضرابات العمال في سنوات 1941-1942 في قطاع
المعادن في أنتويرب ولييج، وكذلك في مناجم شارلروا. التحق إرنست ماندل باللجنة المركزية للحزب في
تموز/يوليو عام 1941 وتشرين الثاني/نوفمبر عام 1943، وشارك لأول مرة في اجتماع الأمانة المؤقتة
الأوروبية المشكلة حديثا. في شباط/فبراير عام 1944 حضر أول مؤتمر أوروبي للأممية الرابعة. مع
أبراهام ليون، حرر وثائق حول «مهام الأممية الرابعة في أوروبا» (شباط/فبراير عام 1942)
وحول «الحل الثوري للحرب الامبريالية» وقدمها لقيادة الحركة (أواخر عام 1943). كما نشر
مقالا، يحمل توقيع E.R، حول «الأزمة العالمية للحركة العمالية ودور الأممية الرابعة»،
في المجلة التي تحمل نفس الاسم [الأممية الرابعة] (عدد 3 كانون الثاني/يناير عام 1944). وكما كتب في
وقت لاحق احياء لذكرى رفقيه أبراهام ليون، في تلك السنوات الصعبة من سيادة الفاشية في أوروبا، فإن
مبدأهما كان: «وراء كل سبب يثير الاستياء يلزم البحث عن سبب للأمل».
في ظل
احتلال بلجيكا، ساهم إرنست ماندل بنشاط في نشر وتوزيع نشرات سرية عديدة، باللغتين الفلمنكية
والألمانية على حد سواء. كانت أهم نشرة طبعا هي الكلمة الحرة Het Vrije Woord، الذي أصدرها بمساعدة
والده وشقيقه في فترة ما بين 8 أيلول/سبتمبر عام 1940 و31 آب/أغسطس عام 1942. وإذ اعترف بها كصوت
دال في الصحافة الفلمنكية السرية، فقد مكنت إرنست ماندل من الحصول على الجنسية البلجيكية بعد الحرب.
في هذه المجلة، كتب في عام 1940 أنه كان لزاما أخذ على محمل الجد تصريحات هتلر حول إبادة يهود
أوروبا جسديا. ثم ساهم في تحرير مطبوعات سرية أخرى أقل انتشارا: Vrank En Vrije، التي كانت تصدر بين
فاتح أيار/مايو عام 1943 إلى 1 أيلول/سبتمبر عام 1944، و Das Freie Wort ، التي كانت تصدر بين 6
كانون الثاني/يناير عام 1943 إلى 1 أيلول/سبتمبر عام 1944. كان إرنست ماندل اعتقل مرتين. أول مرة،
أثناء توزيع منشورات على الجنود الألمان؛ كان معتقلا في سجن سان جيل، ومعدا للترحيل نحو معسكر
أوشفيتز، لكنه تمكن من الفرار. وثاني مرة، في آذار/مارس عام 1944، بعد توزيع منشورات في مصانع
كوكيريل في لييج؛ حكمت عليه المحكمة العسكرية بالأعمال الشاقة ونُقل إلى معسكر أشغال في ألمانيا
(فيزيلينغ). ومرة أخرى، تمكن من الفرار، بفضل مساعدة مجموعة من عمال بلجيكا الذين جُندوا في خدمة
العمل الاجباري STO وبعض الحراس الألمان، ومناضلين اشتراكيين أو شيوعيين قدماء، الذين أقام معهم
علاقات سياسية. وبعد القاء القبض عليه مرة أخرى، سيطلق سراحه أخيرًا بعد هزيمة ألمانيا النازية في
آذار/مارس عام 1945. وكما لاحظ في تعليق يسترجع أحداث الماضي في عام 1989، كانا «شابا
مجنونا» ولم ينقذ حياته سوى حظ غير عادي. كانت هذا الحدث أيضا ميزة طبعت كل حياة إرنست ماندل
مناضلا سياسيا: التفاؤل الراسخ. كان سعيدًا إلى حد ما لإرساله إلى ألمانيا عام 1944 لأنها كان يرى
أن هذ البلد سيصبح، كما في 1918-1919، مركز الثورة الأوروبية… نجد هذه السمة في أول تحليلاته
أثناء ما بعد الحرب العالمية الثانية: على سبيل المثال، في مقال عام 1946، كان ماندل يصر على أن
انتفاضات سنوات 1944-1945 لم تكن سوى «المرحلة الأولى من الثورة الأوروبية»، والتي
سرعان ما ستليها مرحلة ثانية. لن يكون هناك «استقرار نسبي» على حد قوله: لا يمثل الوضع
الحالي سوى «هدوءٍ قبل العاصفة»، مرحلة انتقالية نحو الصعود الثوري
الشامل».
في أول مؤتمر للأممية الرابعة بعد الحرب (آذار/مارس 1946)، انتخب إرنست ماندل
عضو اللجنة التنفيذية العالمية (IEC) للحركة التروتسكية. قدم محاضرات في باريس، في حَلقة لينين، تحت
اسم بلانشارد. وبدءا من هذا العام، شارك، حتى وفاته، في الهيئات القيادية للأممية، وكان حاضرا في
جميع مؤتمراتها. وكعضو في الأمانة العالمية، سافر إلى أوروبا (إيطاليا وألمانيا) وآسيا (إندونيسيا
والهند وسريلانكا) للمساعدة في إعادة بناء الحركة. كما شارك في ألوية العمل التي نظمتها الأممية
الرابعة في يوغوسلافيا في عام 1950. وفي المؤتمر الثالث للأممية الرابعة (آب/أغسطس عام 1951)، قدم
ماندل وثيقة بعنوان «عشر أطروحات»، والتي اعتبرها معارضو توجه الأغلبية بقيادة ميشيل
رابتيس (ميشيل بابلو) * كأساس سياسي بديل، وهذا ما كان المؤلف ينكره. كما قدم أيضا تقرير نشاط
اللجنة التنفيذية العالمية أثناء المؤتمر. وفي كانون الثاني/يناير عام 1952، عندما صوتت الهيئات
القيادية للأممية الرابعة على تعليق عضوية غالبية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العالمي-الفرع
الفرنسي للأممية الرابعة، لأنه كان يرفض المصادقة على خط «الدخولية» في الحزب الشيوعي
الفرنسي-قرار يعتبره ليفيو مايتان، باسترجاع أحداث الماضي (في عام 1989) بمثابة «القرار
الأخطر (والأكثر تعسفا) الذي لم تتخذه قيادتنا بأي وجه في تاريخها»- كان إرنست ماندل طرفا من
الأقلية التي عارضت هذا الإجراء. ولمتابعته عن كثب أحداث أوروبا الشرقية-كان مقررًا حول
“المسألة الروسية” في المؤتمر الثاني عام 1948 -كان حاضراً في انتفاضة حزيران/يونيو عام
1953 في برلين الشرقية، والتي غطاها كمراسل للوبسورفاتور L’Observateur تحت اسم مستعار، بيار
غوسيه. ثم كان متحمسًا لانتفاضات العمال في بولندا والمجر عام 1956، واللتان كانتا في صلب تقريره
الهام: «صعود الستالينية وانحطاطها وانهيارها»، المقدم في مؤتمر الأممية الرابعة الخامس
(عام 1957).
وبعد منعطف «الدخولية» للأممية الرابعة، في بداية سنوات 1950، انضم
ماندل إلى الحزب الاشتراكي البلجيكي (PSB) وأصبح صحفيًا في جريدة الشعب Le Peuple اليومية، لهذا
الحزب، وكذلك -بفضل دعم أندريه رونارد -عضو في ذات النفوذ «لجنة الدراسات الاقتصادية»
التابعة لنقابة الفدرالية العامة للعمال البلجيكيين. وبدءا من عام 1956، حفز على نشر صحيفتين
أسبوعيتين للجناح اليساري في الحزب الاشتراكي، لاغوش La Gauche، التي كان رئيس تحريرها، ولانكس (في
فلاندر). في 1960-1961، أثناء الإضراب العام في بلجيكا، ألهم مطالب اليسار النقابي، وبوجه خاص كراس
أندريه رونارد، «عبر النضال من أجل الاشتراكية». طُرد هذا التيار اليساري من الحزب
الاشتراكي البلجيكي في 1964-1965. وانطلاقا من عام 1962، مع نشر كتاب النظرية الاقتصادية الماركسية،
حظي إرنست ماندل بأول اعتراف عالمي، أبعد كثيرا من حدود بلجيكا وتخوم الحركة التروتسكية. نشر جملة
محاضرات ألقاها في مركز الدراسات الاشتراكية للحزب الاشتراكي الموحد PSU تحت عنوان مدخل إلى
الاشتراكية العلمية (عام 1963)؛ تُرْجم هذا الكراس إلى لغات عديدة، وطُبع عشرات المرات، بمئات آلاف
النسخ، وساهم أيضا في التعريف بكاتبه على نطاق واسع جدا. وفي عام 1963، اضطلع إرنست ماندل بدور هام
في إعادة توحيد الأممية الرابعة -التي شهدت عودة حزب العمال الاشتراكي (SWP) وأنصاره في أمريكا
اللاتينية- بالإسهام في صياغة الوثيقة الرئيسية للمؤتمر السابع: «ديالكتيك الثورة العالمية
الحالي». يتعلق الأمر بتحليل روابط متبادلة بين الثورة الدائمة في البلدان المستعمرة وشبه
المستعمرة، والثورة السياسية ضد البيروقراطية في البلدان الشرقية، والثورة البروليتارية في البلدان
الرأسمالية المتقدمة.
في عام 1964، دعا تشي جيفارا إرنست ماندل للمشاركة في النقاش مع تشارلز
بيتيلهيم * حول مسألة قانون القيمة في اقتصاد المرحلة الانتقالية إلى الاشتراكية. إن مقاله
«أنواع الأسواق في المرحلة الانتقالية»، الذي يدعم مواقف قريبة من مواقف الثوري الكوبي،
نُشرت في حزيران/يونيو عام 1964 في مجلة وزارة الصناعة الكوبية، نويسترا أندوستريا [صناعتنا،]
Nuestra Industria. سعى إرنست ماندل أيضًا إلى فتح حوار مع يسار الأحزاب الاشتراكية والشيوعية
الأوروبية، كما على سبيل المثال في مقاله «استراتيجية ثورية لأوروبا الغربية» الذي نشر
في حزيران/يونيو عام 1965 في المجلة العالمية للاشتراكية لـ ليليو باسو. في هذا الفترة تقريبا تعرف
على زوجته الأولى، جيزيلا شولتز، المناضلة في الاتحاد الاشتراكي الألماني للطلبة وعضو القيادة
البلجيكية والأممية مستقبلا، التي توفيت في مقتبل العمر عام 1982. ساهم في النقاش الماركسي الأممي
في سنوات 1960، بمشاركته في اللقاءات التي تنظمها المجموعة اليوغسلافية «براكسيس» في
جزيرة كوركولا، حيث تعرف إلى إرنست بلوخ، الذي كان في رأيه «أعظم فيلسوف ماركسي في القرن
العشرين». في عام 1967 نشر كتابه الأكثر «فلسفية»، «تشكل الفكر الاقتصادي
لكارل ماركس (قدمه في المقام الأول كأطروحة في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا)، حيث كان يجادل
فيه ضد الماركسيين الألتوسيريين- المرتبطين غالبًا بالأحزاب الشيوعية- الذين كانوا يرفضون تعبير
الاغتراب بصفته «غير علمي» و«قبل ماركسي»، ومنتم إلى العالم الفكري
الإنساني-الفيورباخي لـ«لشاب ماركس». على عكس هذا الموقف، كان ماندل يوضح أن مفهوم
الاغتراب ( Entfremdung ) لم يكن غائبا بتاتا في كتابات ماركس الاقتصادية اللاحقة: تثبت دراسة عن
تطوره الفكري الانتقال من مفهوم أنثروبولوجي للاغتراب، ميزة مخطوطات عام 1844، إلى مفهوم تاريخي،
والتي يمكن ايجاده في كتاب الأيديولوجية الألمانية، الغروندريسة [مخطوطات ماركس ] وحتى الكتاب الأول
من مؤلف رأس المال.
في شباط/فبراير عام 1968، كان إرنست ماندل أحد المتحدثين الرئيسيين في
الاجتماع الأوروبي الذي عقد في برلين ضد الحرب على فيتنام، وبعد ثلاثة أشهر، شارك بنشاط في
«أحداث» باريس، إلى جانب رفاقه في الشبيبة الشيوعية الثورية، ما سبب طرده من فرنسا وحظر
منحه الإقامة لسنوات عديدة. إن مقاله «دروس 68 أيار/مايو» الذي نشره في مجلة الأزمنة
الحديثة في أيلول/سبتمبر عام 1968، كان له تأثير كبير. افتتحت أحداث أيار/مايو 1968 فترة جديدة في
مسار إرنست ماندل السياسي والفكري. في السنوات العشرين التي أعقبت هذا المنعطف الكبير، كثف نشاطه
كقائد للأممية الرابعة، التي تعززت الآن بتأسيس فروع جديدة في بلدان عديدة وبتسارع ازدياد أعضائها.
ومع بروز جيل جديد من المناضلين السياسيين الذين تكونوا في نضالات الحركة العمالية والطلابية، تمكن
من الحد من انخراطه في الحياة اليومية للمنظمة البلجيكية للتفرغ أكثر إلى دوره كمنظِر
و«مستشار استراتيجي». في مقالات وندوات عديدة، دافع بقوة عن رؤيته حول الثورة العالمية
كسيرورة جارية في ثلاثة قطاعات رئيسية: الغرب الرأسمالي، وكتلة «الدول العمالية»
الشموهة أو المنحطة بيروقرطيا، وبلدان العالم الثالث المضطهدة. إن تزامن هذه القطاعات الثلاثة (من
أحداث 68 إلى الثورة البرتغالية، ومن وربيع براغ إلى الثورة الفيتنامية) يشكل، في نظره، أصل فكرة
وممارسة جديدتين للأممية قد يمكنان المنظمة التي أسسها تروتسكي، التي ظلت حتى الآن هامشية، من
التطور والتحول إلى نواة أممية جماهيرية مستقبلا. ولأن إرنست ماندل معروف كقائد الحركة التروتسكية
العالمية وملهمها، جرى منعه تدريجياً من الإقامة في كل بلدان «الاشتراكية القائمة
بالفعل». (باستثناء يوغوسلافيا)، ثم في عدد كبير من البلدان الغربية مثل الولايات المتحدة
وفرنسا وألمانيا وسويسرا وإسبانيا وأستراليا. ولم ترفع هكذا أشكال الحظر، في البلدان الغربية، سوى
في نهاية سنوات السبعينيات أو بداية سنوات الثمانينيات، ما لا يمنع إرنست ماندل من السفر سرا إلى
إسبانيا أو فرنسا، للمشاركة في لقاءات أو حتى للحديث في بعض التجمعات الجماهيرية كتلك التي نظمتها
العصبة الشيوعية في باريس عام 1971، بمناسبة الذكرى المئوية لكومونة باريس، بحضور 100000
شخص.
في عشرين سنين التي أعقبت أيار/مايو 68، أدى التفاؤل الثوري لإرنست ماندل، في تناغم تام
مع الأحداث، إلى تأليف أعمال كبيرة في مجالات عديدة، من الاقتصاد إلى السياسة، ومن التاريخ إلى
الأدب. إذا كان كتاب النظرية الاقتصادية الماركسية قد جعله بالفعل مشهورًا في الأوساط الفكرية
اليسارية، ففي هذه اللحظة حظي باعتراف في الأوساط الأكاديمية. وفي عام 1972، عُيِّن أستاذاً
للاقتصاد في جامعة برلين الحرة، حيث حصل للتو على درجة الدكتوراه، وحيث كان مدرسا لمدة عامين كأستاذ
زائر. ألغت اللجنة العلمية للبلدية (التي يتحكم بها الحزب الديمقراطي الاشتراكي) هذا التعيين بمبرر
أنشطته التخريبية ضد الدولة (قرار أثار نقاشات عديدة ووصف، في صفحات الأسبوعية الألمانية دير شبيجل
Der Spiegel، بأنه مماثل لما أعلن عنه غوبلز في عام 1933 من قرارات منع). وفي عام 1978، اختير أرنست
ماندل من قبل كلية الاقتصاد والسياسة في جامعة كامبريدج، في بريطانيا العظمى، لالقاء المحاضرة
الافتتاحية المرموقة لهذا العام. وفي عام 1982، عين أخيرًا أستاذاً رسميا للعلوم السياسية في جامعة
بروكسل الحرة (القسم الفلمنكي)، حيث كان يدرس منذ عام 1970 (ثم تولى إدارة معهد الدراسات
السياسية).
في عام 1972، نشر إرنست ماندل، باللغة الألمانية، دون شك لإعادة الروابط مع
تقاليد الماركسية الكلاسيكية، مؤلفه الأكثر طموحا وأهمية: Der Spätkapitalismus، الذي تُرجم
إلى لغات عديدة في السنوات التالية (باللغة الفرنسية) العصر الثالث للرأسمالية، 1975 و 1998). رأى
هذا الكتاب النور كأطروحة دكتوراه، ويشكل على حد تعبيره في المقدمة، محاولة لتفسير إعادة تنظيم
الاقتصاد الرأسمالي في فترة ما بعد الحرب. كان يستلهم فيه على حد سواء طريقة الماركسي الأوكراني
رومان روسدولسكي ونظرية الأمواج الطويلة، التي طورها في بداية سنوات العشرينات الاقتصادي الروسي
كوندراتيف. كان إرنست ماندل يحلل فيه الظروف التاريخية التي سمحت بنمو قوى الانتاج في إطار
الرأسمالية، وبروز موجة انكماش طويلة جديدة وترابطها مع الدورة السياسية للصراع الطبقي. وطور
نظريته، بعد عشر سنوات، في كتاب جديد، هذه المرة باللغة الإنجليزية: أمواج التطور الرأسمالي الطويلة
The Long Waves of Capitalist Development، الذي ضم محاضراته التي ألقاها في جامعة كامبريدج في عام
1978.
أثناء سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، مارس إرنست ماندل نشاطًا مذهلا
ككاتب، حيث ألف بلغات عديدة أعمال مبسطة مخصصة لجيل جديد من الباحثين الماركسيين (بما في ذلك مقدمات
الطبعة الانجليزية لكتاب ماركس رأس المال بمجلدات الثلاثة) والمناضلين الثوريين (مُجمل فكر تروتسكي
وكراس حول مكانة الماركسية في التاريخ). بدأ ينشر، في هذه الفترة، مؤلفات مختلفة حيث جمع كتاباته عن
تاريخ القرن العشرين (الفاشية، معنى الحرب العالمية الثانية) وحول مشاكل مختلفة متعلقة بتاريخ
الحركة العمالية (المجالس العمالية والمثقفون وصراع الطبقات، نظرية التحرر الذاتي للبروليتاريا عند
ماركس، نقد روزا لوكسمبورغ للاشتراكية الديمقراطية الألمانية، مفهوم المنظمة الثورية لدى لينين،
خصائص الماوية والثورة الصينية، علاقة الماركسية بالبيئة ، إلخ).
وبالموازاة، جادل بحيوية
بارزة أثناء تدخله في خلافات اليسار الجذري العالمي الداخلية وفي النقاشات السياسية الكبرى في ذلك
الوقت. وكرس نصوصا عديدة لتعريف الطبيعة الاجتماعية للاتحاد السوفياتي، وكان يصر على وصفها، على
غرار تروتسكي، الدولة العمالية المنحطة بيروقراطيا، ضد كل محاولات اعتبارها كشكل من أشكال رأسمالية
الدولة أو نظام تشريك شمولي بيروقراطي. غالبًا ما تكون نصوصه حول ما يسمى بالدول العمالية مثيرة،
لكنها لا تخلو دوما من دوغمائية معينة يمكن أن تؤدي أحيانا إلى مآزق نظرية وسياسية حقيقية (على سبيل
المثال، عندما أراد إثبات الطبيعة العمالية -غير الرأسمالية- لدولة كامبوديا واقتصادها في ظل حكم
الخمير الحمر). من ناحية أخرى، كانت دراساتها النقدية أكثر إثارة للنقاش والانتباه حول الشيوعية
الأوروبية (جمعت في مجلد عام 1978) وحول اشتراكية السوق، ضد الاقتصادي البولندي الأصل أليك نوفي
(بين عامي 1986 و1988، في مجلة نيو ليفت روفيو New Left Review).
بالإضافة إلى هذه الأعمال،
وجد الوقت لتخصيص كتاب صغير حول التاريخ الاجتماعي للرواية البوليسية، والذي قدم فيه تحليلا
ماركسيًا يكشف، بطريقة غير معتادة إلى حد ما، تأثير مدرسة فرانكفورت (جرائم القتل المتقنة Meurtres
exquis، 1986). في كل هذه الكتابات، لم يكن يفوت فرصة اعلان تشبته بتقليد الماركسية الكلاسيكية،
وحتى الأرثوذكسية، مؤكدا في الآن ذاته – على سبيل المثال في نقاش متبادل مع الفيلسوف الألماني
يوهانس أنيولي- على حد سواء شخصيته “المنفتحة” و«الخلاقة»، والمستعد دوما
لوضع موضع نقاش وتساؤل نماذجه الخاصة والتجدد في تعايش مع تحولات المجتمع والتاريخ. هذه هي وحدة
وقوة عمل إرنست ماندل، الذي كانت جهوده لتفسير العالم دوما غير منفصلة عن النضال لتغييره. بهذا
المعنى، كان -كما لاحظ نقاد عديدون- آخر ممثل للماركسية الكلاسيكية. لكن هذا التثبيت كان له أيضا
نقاط ضعفه، والتي غالبا ما كانت تدفعه إلى جعل الماركسية «توليفا» لجميع العلوم
الإنسانية والاجتماعية.
نظر إرنست ماندل على الفور إلى صعود غورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد
السوفييتي كانعطاف تاريخي كبير، على عكس ملاحظين غربيين عدة الذين لم يكونوا يرون في ذلك سوى مجرد
تمويه ينفّذه زعيم نظام شمولي جامد في العمق (أين يسير الاتحاد السوفياتي في ظل غورباتشوف؟، عام
1989). وفيا لتوقعات تروتسكي، فسر إرنست ماندل هذه الأزمة على أنها أمارة نذير نهاية الهيمنة
البيروقراطية. ولكن يبدو أن نتيجة هذا الانعطاف تكذب افتراضاته الأكثر تفاؤلاً. لم يؤد سقوط الاتحاد
السوفياتي إلى حركة جماهيرية مناهضة للبيروقراطية -الثورة السياسية التي يطمح إليها تروتسكي في
كتالب الثورة المغدورة- ولكن في سيرورة انتقال إلى الرأسمالية على نحو معقد ومؤلم، عبر خصخصة
الاقتصاد السوفياتي تدريجيا. بدأ تحول مماثل في أواخر عام 1989 في جميع بلدان أوروبا الشرقية
المنتمية إلى حلف وارسو. كان إرنست ماندل حاضرا في التعبئات الحاشدة في ألمانيا الشرقية في خريف عام
1989، حيث تدخل في اجتماعات سياسية عديدة نظمتها المعارضة (وفي بعض النقاشات المتناقضة في وسائل
الإعلام الألمانية). إن إعادة توحيد ألمانيا في إطار الرأسمالية، في أقل من عامين، حطمت الأمل الذي
كان عقده على أحداث عام 1989. كان التفاؤل المفرط لإرنست ماندل قد اهتز بشدة بسبب هاتين التجربتين.
إن إعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفياتي على نحو سلمي وإعادة توحيد ألمانيا في إطار جمهورية
ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية)، التي تحققت بوجه سلبية الحركة العمالية، خيبا أملا كان لا
يزال كامنا في عمله، ألا وهو أن تصبح البروليتاريا الألمانية يوما ما مُحرّك ثورة أوروبية، مناهضة
للرأسمالية في الغرب ومناهضة للبيروقراطية في الشرق. ثم اضطر والحالة هذه إلى الإقرار بأن قوة
الرأسمالية الألمانية الغربية وعقود عدة من تراكم الهزائم كانت حالت دون اضطلاع البروليتاريا
الألمانية بهذا الدور.
أثناء هذه الفترة، أبرز في كتاباته، البعد الأخلاقي للنضال الاشتراكي،
بإيلاء اهتمام جديد لبعض الكوارث التي كانت ميزت تاريخ القرن العشرين، مثل إبادة اليهود في الحرب
العالمية الثانية. بدءا من أوائل سنوات 1990، لو تتوقف الظروف الصحية لإرنست ماندل عن التدهور، لكن
هذا لم يمنعه من مواصلة الكتابة: في عام 1992، كتاب السلطة والمال Power and Money، علم اجتماع
ماركسي للبيروقراطية؛ بعد ثلاث سنوات، بناءً على طلب دار النشر لحزب الاشتراكية الديمقراطية
الألماني PDS، تروتسكي كبديل Trotzki als Alternative. لكن نصوصه لم تعد تتمتع بحدة النقد اللاذع
كما في العقود السابقة، وغالبًا ما تعطي انطباعًا بوجود مسافة معينة بينها وبين المشكلات والنقاشات
التي كانت تسود في الأحداث الراهنة.
تضاءلت قدراته الجسدية، ثم أصيب بأول أزمة قلبية في
كانون الأول/ديسمبر عام 1993، وساهم بنشاط في تحضير مؤتمري الأممية الرابعة، في عامي 1991 و1995،
قبل بضعة أشهر من وفاته. وافته المنية في 20 تموز/يوليو عام 1995، بمنزله في بروكسل.
ترجمة
جريدة المناضل-ة
|