واجهت الحركة العمالية الاشتراكية في بداية القرن العشرين مشاكل ناشئة
عن عقدين من النمو المطرد. هذا النمو كان بنفسه مرتبطا بتطور الاقتصاد
الرأسمالي في عصر الإمبريالية. فقد ضمن الشيء الكثير للعمال فيما يخص
مستوى المعيشة، وشروط الحياة والعمل، والحريات السياسية والنقابية.
وفوق كل شيء خلق شعورا هائلا بالثقة بالنفس والإيمان بتقدم لا يقاوم
على ما يبدو في اتجاه الإشتراكية، في اتجاه المجتمع اللا طبقي. لكن لم
يكن هناك أي وضوح حول الطريق التي سيأتي عبرها ذلك المجتمع الإشتراكي.
لقد ظن العديد أنه سينشأ عن أزمة اقتصادية بالغة الخطورة، "أزمة
انهيار" للنظام. ورأى الآخرون أنه متعلق بحرب "قادمة". وتصور آخرون بأن
البرجوازية يمكن أن تطرح على بساط البحث المكتسبات الديموقراطية
الرئيسية للطبقة العاملة –وقبل كل شيء حق الاقتراع العام- عندما تصل
إلى نقطة تضع عندها تلك المكاسب الاشتراكية-الديموقراطية على مرأى من
الاستيلاء على السلطة السياسية (التي يتم مماثلتها بشكل عام مع كسب
الأكثرية المطلقة في البرلمان). وبمواجهة هذا "الانقلاب" الرجعي، سترد
الحركة العمالية بوسائل ثورية.
لكن هذه الافتراضات انحصر نقاشها في أوساط ضيقة نسبيا، وقلما انطرحت في
الهيئات الحزبية الكبيرة مثل المؤتمرات القومية أو العالمية. ولعبت
دورا بسيطا في تشكّل وعي الجماهير الواسعة. ولم ترتبط بتحليل منظم
للتغيرات البنيوية التي أحدثتها الإمبريالية في طريقة عمل النظام
الرأسمالي نفسه. حتى أنها كانت أقل ارتباطا من ذلك بالممارسة اليومية
للأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الجماهيرية وللنقابات، تلك الممارسة
التي تمحورت على وجه الحصر تقريبا حول التحضير للحملات الانتخابية
والنضال من أجل الأجور ومطالب أخرى اقتصادية وسياسية مباشرة للطبقة
العاملة (الحقوق الدستورية الشاملة في البلدان كبلجيكا والنمسا).
على أساس هذه الخلفية، علينا أن نفهم تأشير ما يسمى بالنقاش "التحريفي"
الذي أطلقه كتاب برنشتاين متطلبات الإشتراكية ومهام
الاشتراكية-الديموقراطية. لقد عبر برنشتاين عما أحس به غريزيا العديد
من الكوادر والقيادات الاشتراكية-الديموقراطية: أي، أن الفكر النظري
للحركة ورؤياها على المدى البعيد لم يكونا متوافقين مع واقع الممارسة
اليومية. وحاول برنشتاين حل التناقض بتحريف النظرية والمنظورات بعيدة
المدى من خلال عقلنة الممارسة الموجودة. أما الاتجاه السائد للقيادة
فقد سعى للحفاظ على الوضع القائم مع كل تناقضاته: كل من الممارسة
اليومية الإصلاحية والمنظور الثوري المبهم المرتبط بنظرية ما حول
"الانهيار" النهائي.
إنه من الواضح، على أساس رؤيا لاحقة للأحداث، أن ما يسمى بالماركسية
الوسطية (كاوتسكي وآدلر)، من بين الاتجاهات الرئيسية الثلاثة في الحركة
العمالية ما قبل الحرب، كان لديه أقل إمكانية للبقاء. فهيمنة هذا
الاتجاه تعتمد على مدى تمكنه من الحفاظ على التوازن المضطرب بين نظام
إمبريالي يتجه نحو الأزمة والحرب، وطبقة عاملة تنمو قوة وثقة بالنفس –
أي دون أن تخل الأزمة بالتوازن، ودون أن يتحدى الأسياد الإمبرياليون
الحركة العمالية على نحو حاسم، ودون أن تتحدى الطبقة العاملة على نحو
حاسم الرأسمالية، ودون قبول سياسي بالتعاون الطبقي وتبرير نظري له
كوسيلتين لتجنب الاصطدام المقبل. إنها سلسلة من الشروط غير الواقعية،
إذا قيّض لها أن تكون.
من جهة أخرى، يمكن للمؤيدين التحريفيين لبرنشتاين وميلران أن يأملوا
بكسب الهيمنة، لكن فقط إذا لم تصل تناقضات النظام المتنامية إلى نقطة
الانفجار وتَقُم بتجذير قطاعات هامة من الطبقة العاملة. بكلام آخر، فقط
بحال لم تنشب في الحياة الواقعية الحروب أو الثورات. وفقط في مثل هذه
الظروف يمكن أن يقبل أكثرية العمال بفكرة التحول التدريجي للرأسمالية –
عبر ممارسة إصلاحية طويلة تترافق مع مكاسب حقيقية مستمرة – كفكرة أفضل،
وأقل خطورة، وكطريقة عملية أكثر نحو تغيير النظام الاجتماعي.
إن الحرب بين روسيا القيصرية واليابان، ومن ثمة الثورة الروسية الأولى
التي جرت في أعقابها، قد وضعت الحركة العمالية والطبقة العاملة فجأة
أمام واقعتين أساسيتين لقرننا حاولت تحريفية برنشتاين تجنبهما. لقد
أصبحت الحروب والثورات إمكانيات واقعية لا حلم يقضة لمتجذرين مصابين
بجنون الإضطهاد. ومع المواجهة الأولى لثورة حية منذ كومونة باريز قبل
35 سنة، إنضاف جواب ثالث للسؤال "إلى أين يتجه الإشتراكيون ؟"، إنه جواب
مختلف عن جواب كل من الجبريين الماركسيين التقليديين على طراز كاوتسكي،
والتحريفيين البرينشتاينيين.
كانت التنوعات الرئيسية للجواب الثالت هذا كل من بلشفية لينين (كانت
محصورة في البداية فقط بروسيا)، ونظرية روزا لوكسمبرغ حول الإضرابات
الجماهيرية السياسية، ونظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة. ومع ذلك، كان
هناك ضرورة لتجربة جديدة أكثر صدما –تجرية الحرب العالمية الأولى وثورة
أكتوبر الروسية المنتصرة وهزيمة الثورة الألمانية في نوفمبر 1918 -
يناير 1919 – لكيما تتركب هذه التنوعات في برنامج جديد ومفهوم
استراتيجي جديد كما عبرت عنهما وثائق المؤتمرات الأربعة الأولى للأممية
الشيوعية.
لقد قدم تروتسكي دون شك مساهمة جوهرية في هذه الخطوة العملاقة إلى
الأمام في الفكر والممارسة الماركسيين، وهذا الكتاب مكرس لاستعراض ملخص
ومنظم لتلك المساهمة. فبينما وجدت هذه المساهمة العديد من عناصرها في
كتابات تروتسكي الباكرة – وبالأخص في عمله الرائع في شبابه نتائج
وتوقعات الذي يضع الدروس الرئسية التي استخلصها في تجربة 1905 – أصبحت
تلك العناصر فيما بعد أكثر تعقيدا وارتباطا بعضها بالبعض الآخر مع كل
مرحلة هامة في تطور تروتسكي الثقافي والسياسي. ومن المراحل الرئيسية
البارزة في السيرورة تلك: قراره بالإنظمام إلى الحزب البلشفي عام 1917،
ودوره في ثورة أكتوبر، ومفوضات السلام في بريست ليتوفسك، وبناء الجيش
الأحمر والأممية الشيوعية، ونضاله ضد صعود البروقراطية في الإتحاد
السوفياتي وانحطاط الكومنترن، ونضاله ضد صعود الفاشية والحرب، ونضاله
من أجل الأممية الرابعة. وفي كل هذه المراحل المتلاحقة تمت إعادة فحص
وإغناء وتطوير لسمات مهمة تخطت النظرية الموجودة سابقا بكثير، بينما
اندمجت في الوقت نفسه في النظرية الماركسية بطريقة عززت من تماسكها
الداخلي ووحدتها الكلية.
وعند استعراضنا لمساهمات تروتسكي في تطوير الفكر الماركسي، سنكتشف فيها
لا أقل من محاولة لتقديم تفسير متماسك لجميع الإتجاهات الأساسية
لعصرنا، محاولة لتفسير القرن العشرين. وبالتالي فإننا سنقوم بتوضيح فكر
تروتسكي في ترتيبه المنطقي أكثر منه في ترتيبه الزمني: خاصة وأننا لا
نقوم بكتابة سيرة لحياته، بل فقط بتحليل أفكاره المتميزة.
إننا لا نؤمن بإن هناك شيئا ما كإنسان عبقري معصوم عن الخطأ، ولا
بالطبع حزب سياسي أو لجنة مركزية أو قيادة لحزب معصومة عن الخطأ. لقد
كان لتروتسكي أخطاؤه، وسنشير إلى بعضها في مسار تحليلنا. ولكن كحالة
المفكرين الكبار الآخرين وبالأخص الثوريين الآخرين، فإن أخطاءه كانت
بدورها مصادر لمعرفة وبراهين عن منزلة رفيعة. ورغم أنه ليس لدينا أية
نية لكتابة سيرة قديس، فنحن مقتنعون حتى أكثر مما كنا حين بدأنا نضالنا
السياسي من أجل الماركسية الثورية منذ أربعين سنة، بأن مقام تروتسكي لن
يتوقف عن الإرتفاع مع مرور الزمن. |