بعد أن درسنا البنية الاقتصادية الداخلية لاقتصاديات الفلاح ومالك الأرض، يجب ان نعالج الآن مسألة التحولات في الانتاج الزراعي، وأن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل تعبر هذه التحولات عن نمو للرأسمالية وللسوق الداخلية؟ (…) [1]
في الفصول 2 و3 و4، عالجنا مسألة الرأسمالية في الزراعة الروسية من زاويتين. درسنا أولا النظام الراهن للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في اقتصاديات الفلاح ومالك الارض، هذا النظام الذي تكوّن في فترة «ما بعد الاصلاح». ورأينا أن الفلاحين آخذين في الانقسام بسرعة هائلة إلى برجوازية ريفية قليلة العدد لكنها قوية اقتصاديا من جهة، وإلى بروليتاريا زراعية من جهة ثانية.
وترتبط عملية «انتزاع الهوية الفلاحية» هذه ارتباطا وثيقا بانتقال ملاك الارض من نظام العمل-الخدمة إلى نظام المزارعة الرأسمالية. ثم نظرنا في هذه العملية اياها من زاوية أخرى: انطلقنا من طريقة تحوّل الزراعة إلى الانتاج السوقي، وتفحصّنا العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المميِّزة لكل شكل من الأشكال الرئيسية للزراعة السوقية. فتبين لنا ان العمليات اياها تظهر في مزارعة الفلاح ومزارعة المالك العقاري في ظل منوعات عديدة من الظروف الزراعية.
فلننظر الآن في الخلاصات الناتجة عن الاحصائيات التي تناولنا اعلاه:
1-ان ابرز سمة للتطور الزراعي بعد «الإصلاح» هي نمو الطابع التجاري-الرأسمالي للزراعة. فيما يتعلق بمزارعة المالك العقاري، فإن هذه الواقعة من البداهة بحيث أنها لا تحتاج إلى شرح تفصيلي. أما في فيما يتعلق بمزارعة الفلاح، فان اثباتها ليس بالقدر ذاته من البداهة. أولا، لأن استخدام العمل المأجور ليس سمة جوهرية مطلقة تلازم البرجوازية الريفية الصغيرة. فكما لاحظنا أعلاه، تضم هذه الفئة جميع المنتجين السوقيين الصغار الذين يغطون نفقاتهم بواسطة المزارعة المستقلة، شرط أن لا يكون النظام الاقتصادي العام مرتكزا إلى التناقضات الرأسمالية التي عالجناها في الفصل الثاني. وثانيا، لأن البرجوازي الصغير (في روسيا كما في سائر الاقطار الرأسمالية) يرتبط ب«الفلاح» المالك الصغير وبالعامل الزراعي المحاصص بواسطة سلسلة من المراحل الانتقالية. وهذا هو أحد الاسباب التي تفسر انتشار النظريات التي لا تميز بين البرجوازية الريفية وبين البروليتاريا الزراعية في اوساط «الفلاحين».
2-ان الزراعة –بحكم طبيعتها- تنتقل إلى مرحلة الانتاج السوقي بطريق مميزة، تختلف عنها في الصناعة. تنقسم الصناعة اليدوية (المانيفاتورة) إلى فروع متميزة ومستقلة، يتخصص كل واحد منها في انتاج منتوج معين أو جزء من هذا المنتوج. أما الصناعة الزراعية، فإنها لا تنقسم إلى فروع متميزة، بل هي تتخصص في انتاج منتوج سوقي معين في حالة معينة ثم تنتقل إلى التخصص في انتاج منتوج آخر في حالة اخرى. هذا وتتكيف كافة أوجه الزراعة مع هذا المنتوج (السوقي) الرئيسي. لذا تكون اشكال الزراعة السوقية شديدة التنوع، لا يختلف بعضها عن بعض باختلاف المناطق وحسب، وإنما باختلاف المزارع ايضا. فلا يجوز إذن أن نقتصر على الاحصائيات الاجمالية للإنتاج الزراعي عامة خلال دراستنا لمسألة نمو وتطور الزراعة السوقية.
3-ان نمو الزراعة السوقية يؤدي إلى تكوّن سوق داخلية للرأسمالية. أولا، يؤدي التخصص في الزراعة إلى قيام التبادل بين مختلف المناطق، ومختلف المشاريع، ومختلف المنتجات الزراعية. ثانيا، بقدر ما يجري اجتذاب الزراعة إلى نطاق التداول البضاعي، يتزايد طلب سكان الريف على منتجات الصناعة اليدوية المستخدمة للاستهلاك الشخصي. وثالثا، بذاك القدر يتسارع نمو الطلب على وسائل الإنتاج، لأن رب العمل الزراعي الصغير او الكبير، عاجز عن خوض غمار الزراعة السوقية بواسطة الأدوات «الفلاحية» والمنشآت القديمة، الخ. رابعا وأخيرا، ينمو الطلب على قوة العمل، لان تكوّن برجوازية ريفية صغيرة، وتحوّل ملاك الاراضي إلى المزارعة الرأسمالية يفترضان تكوّن جسم من العمال الزراعيين، الدائم منهم والمياوم. والواقع ان نمو الزراعة السوقية هو وحده الذي يفسر ذاك الاتساع التي تميزت به السوق الداخلية للرأسمالية في فترة «ما بعد الإصلاح» (اي تطور الزراعة الرأسمالية، وتطور الصناعة المعملية عموما وصناعة الهندسة الزراعية خصوصا، وتطور ما يسمى «الصناعات الزراعية» الفلاحية، اي العمل المأجور، الخ).
4-ان الرأسمالية تعمم بين العاملين في الزراعة كافة التناقضات الكامنة في النظام الرأسمالي، لا بل هي تزيد هذه التناقضات حدة وتفاقما. ورغم ذلك، تبقى الزراعة الرأسمالية في روسيا قوة تقدمية هائلة من حيث دلالتها التاريخية.
أولا: ان هذه الرأسمالية قد حولت المُزارع من «سيد إقطاعي» من جهة، ومن فلاح بطريركي تابع من جهة أخرى، إلى نوع من الصناعي، شأنه شأن سائر المالكين في المجتمع الحالي. فقبل ظهور الرأسمالية، كانت الزراعة في روسيا من شأن النبلاء، هواية من هوايات الاسياد لدى البعض، وواجبا ضروريا لدى الآخرين. وبالتالي، لم يكن بالإمكان ممارسة الزراعة إلا وفق الأساليب القديمة الرتيبة، وهذا يعني بالضرورة عزلة المُزارع الكاملة عن كل ما يجري في العالم خارج إطار قريته، وان نظام العمل-الخدمة- بما هو الترسب الحي للأزمنة الماضية في الاقتصاد الراهن –يؤكد هذه المقولة بشكل كاسح. والرأسمالية هي أول من أعلن القطيعة مع نظام المراتب الاجتماعية في الملكية العقارية إذ حولت الارض إلى سلعة. وصار منتوج الفلاح معروضا للبيع، فإذا به موضع اعتراف اجتماعي- في السوق المحلي ثم في السوق الوطني وأخيرا في السوق الدولي. وبذلك انهارت نهائيا العزلة السابقة للفلاح الفظ عن سائر العالم. وإذا ابه مضطر –تحت طائلة الخراب الاقتصادي- لأن يراعي مجموع العلاقات الاجتماعية في بلده وفي سائر البلدان، وقد باتت السوق العالمية تربط بينها. حتى نظام العمل-الخدمة، الذي كان يُؤمِّن في السابق لأبلوموف [2] مدخولا مضمونا دون أية مجازفة من طرفه، دون أي توظيف لرأس المال ودون أية تغيرات في اسلوب الانتاج القديم الذي يعتمده، بات الآن عاجزا عن حمايته من منافسة المزارع الامريكي. لذا نستطيع ان نطبق على روسيا «ما بعد الاصلاح» حرفيا ما قبل منذ نصف قرن عن أوروبا الغربية –ان الرأسمالية الزراعية كانت «القوة الدافعة التي أدخلت الأنشودة الرعوية في حركة التاريخ» [3] .
ثانيا: نسفت الرأسمالية الزراعية، لأول مرة، الركود القديم لزراعتنا، وأعطت دفعا قويا للتحول في تقنيته، ولتطور القوى الانتاجية للعمل الاجتماعي. والواقع ان عقودا قليلة من «العمل التخريبي» الذي بذلته الرأسمالية قد حقق، في هذا المجال، اكثر بكثير مما حققته قرون بأكملها من التاريخ السابق. فحلّ التنوع في اشكال الزراعة السوقية محل رتابة الاقتصاد الطبيعي. وأخذت الادوات الزراعية البدائية تخلي الساحة أمام الادوات المتطورة والآلات. وإذا بالأساليب الزراعية الحديثة تنسف جمود الانظمة الزراعية التقليدية. ويرتبط مسار كل هذه التغيرات ارتباطا وثيقا بظاهرة التخصص في الزراعة، المذكورة اعلاه.
على ان الرأسمالية في الزراعة (كما في الصناعة)، بحكم طبيعتها، ليست تتطور بطريقة متكافئة. فهي تنمي احد جوانب الزراعة في مكان معين (في بلد او منطقة او مزرعة)، فيما تنمي جانبا آخرا في مكان آخر. وتجدها تحوّل تقنية هذه العمليات الزراعية حينا، فيما تحول تقنية سواها من العمليات أحيانا أخرى، فتفصلها عن الاقتصاد الفلاحي البطريركي او عن العمل-الخدمة البطريركي.
وبما أن كمل هذه العملية محكومة بمقتضيات السوق «المزاجية» وغير المعروفة دائما من قبل المنتج، فان الزراعة الرأسمالية، في كل حالة معينة (غالبا في كل منطقة على حدة، وأحيانا في كل بلد بمفرده) تزداد أحادية الجانب والتشويه اللاحقان بها عما كاناه في الحالة الابقة. على ان هذه الزراعة الرأسمالية نفسها –اذا ما نظرنا اليها نظرة إجمالية- تمسي أكثر شمولا وعقلانية من الزراعة البطريركية. ان انبثاق انماط متمايزة من الزراعة الرأسمالية يؤدي إلى حتمية قيام الازمات الرأسمالية في الزراعة وحالات من فائض الانتاج الرأسمالي. غير أن هذه الازمات (مثلها مثل سائر الازمات الرأسمالية) تزيد من وتيرة نمو الانتاج على النطاق العالمي كما تعزز الطابع الجماعي للعمل [4] .
ثالثا: لأول مرة في تاريخ روسيا، أدت الرأسمالية غلى قيام الانتاج الزراعي الكبير المرتكز إلى استخدام الآلات والى التعاون الواسع النطاق بين العمال. فقبل ظهورها، كان انتاج المنتوج الزراعي يتم، على الدوام، على نطاق ضيق، بائس، لا يتغير –عندما كان الفلاح يعمل لحسابه الخاص وعندما كان يعمل لصالح مالك الارض. وقد عجزت كل «الاشكال الجماعية» لملكية الارض عن تحطيم هذا الانتاج الشديد البعثرة. والواقع أن تشتت الفلاحين انفسهم وثيق الارتباط بهذا الانتاج المبعثر [5] .
ذلك أن الفلاحين، المقيدين بحصص الأرض خاصتهم، وبقريتهم المشاعية المقفلة، كانوا معزولين كليا عن فلاحي القرية المجاورة، بسبب التباين في الانتماء الاجتماعي (بين فلاحين تابعين سابقا لمالك عقاري وفلاحين تابعين سابقا للدولة، الخ)، وبسبب الفروقات في أحجام حيازتهم –اي بالاختلاف في شروط انعتاق كل منهم (وهي شروط غالبا ما كانت تقررها شخصية المالك العقاري، بل مزاجه). ان الرأسمالية قد حطمت هذه الحواجز القرن أوسطية الصافية لأول مرة-وتلك لعمري مهمة مجيدة! أما الآن، فان التمايزات بين مختلف مراتب الفلاحين، بين مختلف الشرائح بناء على حجم حصة الأرض، هي اقل بكثير من التمايزات الاقتصادية داخل كل مرتبة وكل شريحة وكل قرية مشاعية. ان الرأسمالية تحطم الانكفاء المحلي والعزلة، وتستبدل الانقسامات القرن اوسطية الدقيقة بين المزارعين بانقسام أساسي، يشمل الامة ككل، يوزع هؤلاء المزارعين إلى طبقات تحتل مواقع مختلفة في التنظيم العام للاقتصاد الرأسمالي. كانت جموع المزارعين مقيدة سابقا بأماكن سكنها عبر ظروف الانتاج نفسها، في حين ان تنوع أشكال ومناطق الزراعة التجارية والرأسمالية حتَّم تحرك جماهير غفيرة من السكان في كافة انحاء البلاد. وبدون حراكية السكاهن هذه (كما سبق لنا القول) يستحيل تنمية وعيهم وإطلاق مبادرتهم.
رابعا: وأخيرا، فان الرأسمالية الزراعية في روسيا أدت، ولأول مرة، إلى اقتلاع نظام العمل-الخدمة والتبعية الشخصية للمزارع من الجذور. والمعروف ان نظام العمل-الخدمة هذا يسيطر سيطرة بلا منازع على زراعتنا منذ ايام «روسكايا برافدا» [6] إلى الزراعة الراهنة لحقول المالك الفردي للأرض بواسطة ادوات الفلاحين، وان بؤس وجلافة المُزارع ذي الموقع الدوني بسبب كون العمل الذي يبذله ذي طابع «شبه حر»- ان لم نقل انه عمل في ظروف إقطاعية- هما من المترتبات الحتمية لهذا النظام. ولم تطرأ التعديات على الحقوق المدنية للمزارع (عبر انتمائه إلى ادنى مرتبة اجتماعية، مثلا، والعقوبات الجسدية، وتسخيره للعمل في المشاريع العامة، وتقيده بحصة الأرض، إلى آخره) لما كان أمكن قيام واستمرار نظام العمل-الخدمة.
لهذا السبب بالذات، فان الرأسمالية الزراعية في روسيا قد أدت خدمة تاريخية عظيمة في استبدالها العمل-الخدمة بالعمل المأجور. وإذا شئنا تلخيص ما ورد اعلاه عن الدور التاريخي التقدمي للرأسمالي الزراعية الروسية، يمكن القول انها جعلت الانتاج الزراعي جماعيا-وبالتأكيد، فإن تحول الزراعة من امتياز مهني للمرتبة الأعلى ومن واجب مفروض على المرتبة الادنى إلى وظيفة تجارية وصناعة عادية، وتحوّل الزراعة عمل المزارع إلى موضوع حساب اجتماعي في السوق، وتحول الزراعة الرتيبة المتماثلة إلى زراعة تجارية متحولة تقنيا ومتعددة الأشكال، وانهيار العزلة المحلية والطبيعية المفتتة للمزارعين الصغار، وحلول المبادلات غير المشخصنة في شراء وبيع قوة العمل محل مختلف اشكال العبودية والتبعية الشخصية- تلك هي جميعا حلقات في مسار واحد يزيد من جماعية العمل الزراعي ويكثف التناقض بين فوضوية تقلبات السوق، بين الطابع الفرد للمنشآت الزراعية المستقلة والطابع الجماعي للزراعة الرأسمالية الواسعة النطاق.
وهكذا لا بد لنا من ان نكرر انه في معرض توكيدنا على الدور التاريخي التقدمي للرأسمالية في الزراعة الروسية، يجب الا ننسى اطلاقا الطابع التاريخي الانتقالي لهذا النظام الاقتصادي ولا التناقضات الاجتماعية العميقة التي تعتمل داخله. بل العكس، فقد يبيّنا اعلاه ان الشعبويين، الذين لا يجيدون غير الانتخاب على «الدور التخريبي» للرأسمالية، هم الذين يقدمون تقييما سطحيا لتلك التناقضات، فيغفلون التمايز بين الفلاحين، ويتجاهلون الطابع الرأسمالي لاستخدام المتزايد للآلات في زراعتنا، ويطمسون ظهور طبقة من العمال الزراعيين المأجورين بعبارات مثل «الصناعات الزراعية» و«الاستخدامات».
لا بد من ان نردف الاستنتاجات الايجابية التي استخلصناها أعلاه حول دلالات الرأسمالية بدراسة لبعض «النظريات» الخاصة بهذه المسألة التي يكثر تداولها في ادبياتنا. على العموم، عجز الشعبويون عندنا عن ان يهضموا كليا آراء ماركس الاساسية حول الرأسمالية الزراعية. فالأكثر صراحة بينهم اعلن جهازا ان نظريات ماركس ليست تنطبق على الزراعة (اليد فورنتسوف في كتابه «اتجاهاتنا»)، بينما فضّل الآخرون (أمثال السيد دانيالسون) ان يتفادوا بدبلوماسية مسألة العلاقة بين «طروحاتهم» وبين نظريات ماركس. ومن الأطروحات الاكثر شيوعا بين الاقتصاديين الشعبويين نظرية «تحرير الزمن الشتوي»، وجوهرها كالآتي:
في ظل النظام الرأسمالي، تمسي الزراعة صناعة قائمة بذاتها، لا علاقة بسواها من الصناعات. على انها لا تجري ممارستها على مدار السنة، وإنما خلال خمسة او ستة أشهر فقط. من هنا، فإن رسملة الزراعة تؤدي إلى «تحرير الزمن الشتوي»، إلى «تحديد زمن العمل للطبقة الزراعية بقسم فقط من سنة العمل»، وهذا هو «السبب الاساسي لتدهور الاوضاع الاقتصادية للطبقات الزراعية (دانيالسون، ص 229) ولـ«انكماش السوق المحلية»، وأخيرا لـ«التبديد والهدر في القوى الإنتاجية» للمجتمع (اليد فورنتسوف).»
هنا نجد كل النظرية الشهيرة التي تبني الخلاصات التاريخية والفلسفية الاكثر حسما على الحقيقة الكبيرة التي تقول ان الاعمال الزراعية موزعة بطريقة متفاوتة خلال السنة! ان الاكتفاء بهذه السمة الواحدة، وتسفيهها بواسطة الفرضيات المجردة، واستبعاد دائر السمات المميزة للعملية المعقدة التي تتحول الزراعة البطريركية بموجبها إلى زراعة رأسمالية –تلك هي الوسائل التبسيطية المستخدمة في آخر المحاولات لإحياء النظريات الرومانسية حول «الانتاج الشعبي» قبل الرأسمالي.
لكي نبين مدى ضيق الافق في هذه الفرضية المجردة، فلنُشر باختصار إلى تلك الجوانب من المسار الفعلي التي يغفلها الشعبويون كليا أو يقللون من اهميتها.
أولا، بقدر ما يتقدم التخصص في الزراعة، بذاك القدر يتناقض السكان الريفيون، ويصبحون جزءا متقلصا باستمرار من مجموع السكان. وهذا ما يتناساه الشعبويون، على الرغم من انهم، في تجريداتهم، يرفعون التخصص في الزراعة إلى مرتبة لا تصلها في الواقع العملي. انهم يفترضون ان عمليات بذر الحبوب وحصادها قد تحولت إلى صناعة منفصلة. ان فلاحة وتسميد الأرض، ومعالجة المنتوج ونقله، وتربية المواشي، والتحريج، وإصلاح الابنية والأدوات، الخ.الخ. –كل هذه العمليات قد تحولت إلى صناعات رأسمالية منفصلة. أما تطبيق مثل هذه التجريدات على الوقائع الراهنة فإنه لن يساعد كثيرا على تفسيرها.
ثانيا، ان الانطلاق من ان الزراعة تشهد عملية تخصص كاملة كهذه، يفترض سلفا تنظيما رأسمالا صرفا للزراعة، وانقساما كاملا بين مزارعين رأسماليين وعمال مأجورين. اما الحديث عن «الفلاح» في مثل هذه الحالات (كما يفعل السيد دانيالسون، ص 215) فإنه الذروة في مجافاة المنطق. ان التنظيم الرأسمالي الصرف للزراعة ويفترض، بدوره، توزيعا أكثر عدالة للأعمال على مدار السنة (بسبب المناوبة في المحاصيل، والتربية العقلانية للماشية، الخ)، مثلما يفترض أن تترافق الزراعة مع المعالجة التقنية للمنتوج، وبذل كمية اكبر من الايدي العاملة لاستصلاح التربة، الخ).
ثالثا، ان الرأسمالية تفترض الانفصال التام بين المنشآت الزراعية والمنشآت الصناعية. ولكن، بأي حق يجوز الانتاج بان هذا الانفصال يحول دون المزج بين العمل المأجور الزراعي والعمل المأجور الصناعي؟ ان مثل هذا المزج موجود في اقرى المجتمعات الرأسمالية. تفصل الرأسمالية بين العمال المهرة والشغيلة العاديين، وهؤلاء الأخيرون يتقلبون بين مهمة وأخرى، فتارة يجذبهم العمل في منشأة كبيرة وطورا يُقذف بهم إلى مصاف العاطلين عن العمل [7] . والواقع انه مع تسارع وتيرة نمو الرأسمالية والصناعة الكبيرة، تتزايد بشكل عام التقلبات في طلب اليد العاملة ليس في الزراعة وحسب، بل وفي الصناعة ايضا. لذا فإذا افترضنا اقصى درجات التطور الرأسمالي، ينبغي أن نفترض أيضا الحد الاقصى من السهولة في انتقال العمال من الأعمال الزراعية إلى الأعمال غير الزراعية، كما ينبغي أن نفترض نشوء جيش احتياط يستمد منه مختلف ارباب العمل قوة العمل الت يحتاجون.
رابعا، إذا نظرنا إلى ارباب العمل الريفيين الحاليين، فلا يمكننا، بالطبع، أن ننكر أنهم يعانون احيانا من الصعوبات في توفير العمال لمزارعهم. ولكن لا يجوز أن ننسى، في المقابل، انهم يملكون الوسائل لربط العمال بمزارعهم، خاصة عبر تخصيص حصص ارض لهم، وما شابه. ان العامل الزراعي المحاصص أو المياوم هو نمط مشترك بين كل البلدان الرأسمالية. واحد أبرز الاخطاء التي يرتكبها الشعبويون هو أنهم يتجاهلون نشوء مثل هذا النمط في روسيا.
خامسا، يخطئ من يناقش تحرير الزمن الشتوي للمزارع بمعزل عن المسألة الاجمالية التي هي مسألة فائض السكان الرأسمالي. ذلك ان تكوّن جيش البطالة الاحتياطي هو سمة مميزة للرأسمالية بشكل عام، أما خصائص الزراعة فإنها لا تؤدي إلا إلى نشوء أشكال مخصوصة من هذه الظاهرة. ولهذا السبب، فإن مؤلف «رأس المال»، مثلا، يعالج توزيع العمالة في الزراعة من خلال صلتها بمسألة «فائض السكان النسبي»، كما يعالجها في فصل خاص حيث يناقش الفارق بين «فترة العمل» و«زمن الإنتاج» (رأس المال، الكتاب الثاني «ب»، الفصل 13) وفترة العمل هي الفترة التي يُبذل فيها العمل على المنتوج؛ أما زمن الانتاج فهو الزمن الذي يتم خلاله انتاج المنتوج، بما في ذلك فترة بذل العمل على هذا المنتوج. ان فترة العمل ليست متطابقة مع زمن الانتاج في العديد من الصناعات، ومن ابرزها الزراعة، مع أنها ليست الحالة الوحيدة. واذا قارنَّا روسيا بسائر البلدان الأوروبية، يظهر ان الفارق كبير فيما بين فترة العمل وزمن الانتاج في الزراعة.
«عندما يستكمل الانتاج الرأسمالي الفصل بين الصناعة اليدوية والزراعة، يصبح العامل الزراعي اكثر اعتمادا على العمل الموسمي والطارئ بما يجره ذلك من تدهور في اوضاعه. بالنسبة لرأس المال… تتساوى الفروقات في المردود. لكن هذا ليس هو حال العامل» (كارل ماركس، المصدر السالف الذكر، ص 223-224).
من هنا، فالخلاصة الوحيدة التي يمكن استخلاصها من المميزات الخاصة بالزراعة في الحالة التي نعالج هي ان اوضاع العامل الزراعي لا بد وأن تكون اسوأ من أوضاع العامل الصناعي. ولا زلنا بعيدين جدا عن «نظرية» السيد دانيالسون التي تقول أن تحرير الزمن الشتوي هو «السبب الأساسي» لتدهور اوضاع «الطبقات الزراعية» (!؟). فلو ان فترة العمل في الزراعة كانت تسلاوي عندنا 12 شهرا، فان عملية تطور الرأسمالية كانت ستسير كما تسير الآن تماما، اما الفارق الوحيد فهو ان مكتوى معيشة العامل الزراعي سيكون أقرب، إلى هذا الحد أو ذاك، من مستوى معيشة العامل الصناعي [8] .
وهكذا فان «نظرية» السيدين فورنتسوف ودانيالسون لا تقدم اي اسهام على الاطلاق حتى للمشكلة العامة لتطور الرأسمالية الزراعية. اما فيما يخص المميزات الخاصة بروسيا، فإنها لا تكتفي بعدم تفسيرها، بل هي تنشر عليها حجبا من الغموض. ان البطالة الشتوية بين الفلاحين عندنا ليست تعود الى الرأسمالية بقدر ما تعود إلى القصور في تطور الرأسمالية. ولقد بيَّنا (في القسم الرابع من هذا الفصل)، بناء على احصائيات الأجور، ان البطالة الشتوية هي الاكثر انتشارا في تلك المقاطعات من «روسيا الكبرى» حيث الرأسمالية هي الاقل تطورا وحيث العمل-الخدمة لا زال سائدا، وهذا امر مفهوم جدا. ذلك ان العمل-الخدمة يؤخر تطور انتاجية العمل، ويعيق نمو الصناعة والزراعة، ويؤخر بالتالي نمو الطلب على قوة العمل، وهو، إذ يقيد الفلاح بحصته، لا يوفر له العمل خلال الشتاء ولا امكانية اعالة نفسه من زراعته البائسة.
«ان مبدأ المشاعة يمنع راس المال من السيطرة على الانتاج الزراعي»- هكذا يعبر السيد دانيالسون عن نظرية اخرى من النظريات الشعبوية المتداولة، المصاغة بالتجريد اياه الذي صيغت به النظرية السابقة. ولقد استشهدنا، في الفصل الثاني، بسلسلة من الوقائع التي تثبت خطل هذه المقولة الاجمالية. أما الآن فلا بد لنا من أن نضيف الأمر التالي: انه لمن الخطأ بمكان ان نعتقد ان انبثاق الرأسمالية الزراعية يتطلب شكلا معينا من تملك الأرض.
«ان شكل ملكية الارض الذي يجابهه نمط الانتاج الرأسمالي الوليد لا يتلاءم معه. فيعمد اولا إلى تكوين الشكل الملائم بإخضاع الزراعة لرأس المال. وهكذا، فانه [أي نمط الانتاج الرأسمالي] يحوّل الملكية الإقطاعية، والملكية العشائرية، والملكية الفلاحية الصغيرة ضمن المشاعة- بغض النظر عن التباين في اشكالها القانونية- إلى الشكل الاقتصادي المستجيب لمتطلباته» (رأس المال، الكتاب الثالث، الجزء الثاني، ص 156).
وهكذا، ففي طبيعة الأمر ان ما من خاصة من خصائص نظام حيازة الأرض تستطيع ان تشكل عقبة يتعذر تجاوزها أمام الرأسمالية، هذه الرأسمالية التي تكتسي أشكالا مختلفة باختلاف ظروف الزراعة، والعلاقات القانونية، وأنماط الحياة. ويتضح بالتالي مدى الخطل في مجرد طرح الشعبويين للمسألة، بعد أن انتجوا تراثا ادبيا متكاملا حول موضوع «القرية المشاعية أم الرأسمالية؟». فاذا ما قرر ارستقراطي مهووس بنمط الحياة البريطاني ان يقدم جائزة لأفضل كتاب عن استخدام الزراعة الرأسمالية في روسيا، او تقدمت جمعية علمية بمشروع لتوطين الفلاحين في المزارع، أو لفَّق موظف كسول اقتراحا باعتماد ملكيات زراعية من 60 «دسياتين»، يسارع الشعبويون إلى رمي القفاز وإلى قرع طبول الحرب ضد هذه «المشاريع البرجوازية» الرامية إلى «ادخال الرأسمالية» وإلى تدمير أسس «الصناعة الشعبية» المتمثلة بالقرية المشاعية. ولن يخطر ببال السادة الشعبويين ابدا أن الرأسمالية تشق طريقها بغض النظر عن صياغة مختلف أنواع المشاريع أو رفضها، وان القرية المشاعية آخذة في التحول، بل هي قد تحولت فعلا، إلى قرية من صغار المزارعين.
بهذا، نجدنا قليلي المبالاة بمسألة شكل حيازة الفلاحين للأرض. فمهما يكن هذا الشكل، لا يطرأ اي تغير أساسي على
العلاقة بين البرجوازية الريفية والبروليتاريا الزراعة. اما المسألة الهامة حقا، فلا علاقة لها البتة بشكل حيازة
الأرض، بل ببقايا الماضي القرن أوسطي، التي لا تزال ترزح بثقلها على الفلاحين –عزلة المجتمعات الفلاحية في ظل
المراتب الاجتماعية، نظام المسؤولية الجماعية، الضرائب الباهضة وغير المتناسبة اطلاقا مع الضرائب على الأراضي
المملوكة فرديا، انعدام الحرية الكاملة في شراء وبيع اراضي الفلاحين، وفي حركتهم واستيطانهم. ان كافة هذه المؤسسات
البالية، لا تحول، بأي حال، دون تفكك الفلاحين، لكنها تؤدي فقط إلى مضاعفة شتى أشكال العمل-الخدمة والاسترقاق، وإلى
اعاقة كبيرة للتطور الاجتماعي برمته.
ولا بد، ختاما، من معالجة محاولات شعبوية مبتكرة لتفسير بعض مقولات لماركس
وانغلز في الكتاب الثالث من رأس المال، بحيث تدعم رأيهم القائل ان الزراعة الصغيرة متفوقة على الزراعة الكبيرة، وانه
ليس من دور تاريخي تقدمي تلعبه الرأسمالية الزراعية. وغالبا ما يستشهد الشعبويون، خدمة لغرضهم هذا، بالمقطع التالي
من الكتاب الثالث لرأس المال:
«تقول عبرة التاريخ، التي يمكن استخلاصها أيضا من ملاحظات اخرى حول الزراعة، ان النظام الرأسمالي يتجه باتجاه متماسك مع الزراعة العقلانية، أو فلنقل ان الزراعة العقلانية لا تتلاءم مع النظام الرأسمالي (على الرغم من التحسينات التقنية التي يدخلها هذا الأخير على الزراعة)، وانه –أي النظام الرأسمالي- يتطلب جهد الفلاح الصغير الذي يعتاش من عمله او السيطرة الجماعية للمنتجين» (رأس المال، الكتاب الثالث، القسم الأول، الطبعة الألمانية، ص 98).
ما الذي يمكن استنتاجه منن هذا القول (الذي تجدر الملاحظة انه مقطع مجتزأ تسلل إلى فصل يعالج طريقة تأثير التغيرات في اسعار المواد الخام على الأرباج، ولم يرد في القسم الرابع الذي يعالج الزراعة تخصيصا)؟ القول بأن الرأسمالية غير متلائمة مع التنظيم العقلاني للزراعة (كما هو الحال ايضا بالنسبة للصناعة) أمر معلوم منذ فترة، وليس هذا موضع الخلاف مع الشعبويين. والواضح أن ماركس يشدد هنا بنوع خاص على الدور التقدمي تاريخيا للرأسمالية في الزراعة. تبقى اشارة ماركس إلى «الفلاح الصغير الذي يعتاش من عمله». لم يكلف اي من الشعبويين نفه مشقة شرح هذه النقطة، أو ربطها بسياقها من جهة، وبنظرية ماركس العامة عن الانتاج الزراعي الصغيير، من جهة ثانية.
ان المقطع المقتطف من كتاب رأس المال يعالج مدى التذبذب الذي تعرفه اسعار المواد الخام، وكيف تؤثر هذه التذبذبات سلبيا على وتيرة الانتاج وانتظامه، وتؤدي إلى اضطراب في توافق الزراعة والصناعة. في هذا المجال فقط –في مجال وتيرة الانتاج وانتظامه ومساره المبرمج- يضع ماركس الانتاج الفلاحي الصغير في مصاف اقتصاد «المنتجين المتشاركين». وفي هذا الصدد تتماثل حتى الصناعة القرن اوسطية الصغيرة (أ الحرفية) مع اقتصاد «المنتجين المتشاركين». (انظر بؤس الفلسفة، الطبعة المذكورة أعلاه، ص 90)، في حين تتميز الرأسمالية عن كلا هذين النظامين من أنظمة الاقتصاد الاجتماعي بفوضى الانتاج فها. فبأ منطق حق للمرء ان يتنتج من هذا أن ماركس يعترف بجدوى الانتاج الزراعي الصغير [9] ، بأنه لا يعترف بالدور التقدمي تاريخيا للرأسمالية في الزراعة؟ هذا ما يقوله ماركس عن الموضوع في ذلك القسم الخاص من كتابه المتعلق بالزراعة، وتحديدا بالإنتاج الفلاحي الصغير (الفصل 47، ص 5):
«ان ملكية قطع الأرض تستبعد، بطبيعتها، تطور قوى الانتاج الاجتماعي، والأشكال الاجتماعية للعمل، والتمركز الاجتماعي لرأس المال، والاقتصاد الرعوي الواسع النطاق، والتطبيق التقدمي للعلوم [على الزراعة].
«ولا ريب أن الربا والأنظمة الضريبية تؤدي بالضرورة الى افقار [الزراعة الصغيرة]. مثلما يؤدي توظيف رأس المال في الارض إلى حذف رأس المال هذا من الفلاحة. ان البعثرة اللامتناهية لوسائل الانتاج، وعزل المنتجين انفسهم، بعضهم عن بعض والهدر الجبار للطاقة البشرية، والتدهور المطرد لشروط الانتاج والارتفاع المطرد لأسعار وسائل الانتاج –ذلك هو القانون الحتمي لملكية قطع الارض الصغيرة. (رأس المال، الكتاب الثالث، المجلد الثاني، ص 341-342).
«ان ملكية الارض الصغيرة تفترض سلفا ان تكون أكثرية السكان قاطنة في الريف، مثلما تفترض سيادة العمل الفردي المبعثر، لا العمل الجماعي. وبالتالي، ففي ظروف كهذه، يتعذر تراكم الثروة ونمو عملية اعادة الإنتاج، من حيث شروطها المسبقة المادية والفكرية، وبالتالي يتعذر أيضا توافر الشروط المسبقة لزراعة عقلانية» (المصدر ذاته، الكتاب الثالث، الجزء الثاني، ص 347).
ان كاتب هذه السطور لا يشيح بنظره عن التناقضات الكامنة في الزراعة الرأسمالية الكبيرة، بل، بالعكس تماما، فانه يفضح هذه التناقضات بلا هوادة. على أن هذا لا يمنعه من تقدير الدور التاريخي للرأسمالية:
«ان واحدا من ابرز نتائج نمط الانتاج الرأسمالي هو انه يحوّل الزراعة من مجرد عملية تجريبية وميكانيكية تكرر نفسها باستمرار، يمارسها القطاع الأكثر تخلفا من المجتمع، إلى التطبيق العلمي الواعي للهندسة الزراعية، بالقدر الممكن في ظل الملكية العقارية ومالك الارض… ان عقلنة الزراعة بما يجعلها ملكية الارض من علاقات القهر والتبعية، من جهة، وفصل نهائيا، من جهة أخرى، بين الارض بما هي أداة انتاج وبين الملكية العقارية ومالك الارض… ان عقلنة الزراعة بما يجعلها لأول مرة قادرة على الفعل على الصعيد الاجتماعي، من ناحية، وتحويل الملكية العقارية إلى قضية عبثية، من ناحية أخرى، هما ابرز انجازات نمط الانتاج الرأسمالي. على أنه، شأنه شأن سائر التحولات التاريخية، لا يحقق هذه الانجازات إلا بعد افقار المنتجين المباشرين» (رأس المال، الكتاب الثالث، المجلد الثاني، ص 156-157).
بعد الاطلاع على مثل هذه التأكيدات القاطعة لماركس، يساور المرء شعور بأنه يستحيل ان يختلف اثنان حول موقفه من مسألة الدور التقدمي تاريخيا للرأسمالية الزراعية. على أن السيد دانيالسون يخبئ لنا مناورة جديدة: انه يستشهد برأي لانغلز حول الازمة الزراعية الراهنة، بما يدحض –في رأيه- مقولة الدور التقدمي تاريخيا للرأسمالية في الزراعة.
لننظر الآن فيما يقوله انغلز فعلا. بعد تلخيص الأطروحات الرئيسية لنظرية ماركس عن الريع التفاضلي، يقدم انغلز القانون الذي يقول «بقدر ما ترتفع كمية رأس المال الموظف في الأرض، ويرقى تطور الزراعة والحضارة عامة في بلد معين، بذاك القدر تتضخم الجزية التي يدفعها المجتمع لكبار الملاك العقاريين على شكل أرباح إضافية» (رأس المال، الكتاب الثالث، المجلد 2، ص 258). ويستطرد انغلز قائلا ان هذا القانون يؤكد «الحيوية الرائعة التي تتمتع بها طبقة كبار الملاك العقاريين» الذن لا يلبثون ان «يسقطوا واقفين على أقدامهم» في كل الأزمات، رغم مراكمتهم للديون الهائلة. وكمثال على ذلك، فان الغاء «قوانين الذرة» في انكلترا، وما أدى اليه من انخفاض في أسعار الحبوب، بدلا من ان يحمل معه خراب الملاك العقاريين، ضاعف ثرواتهم بمعدلات أسطورية.
وهكذا، فقد يبدو وكأن الرأسمالية عاجزة عن النيل من جبروت الموقع الاحتكاري الذي تمثله الملكية العقارية.
غير أن انغلز يستطرد قائلا: «لكن كل شيء انتقالي وزائل». «فالمراكب البخارية العابرة للمحيطات وسكك الحديد في شمال أمريكا وجنوبها وفي الهند» استدعت قيام منافسين جدد. وإذا بالمروج الامريكية («البريريز») وسهول «البامباس» الارجنتينية وما شابهها، تغرق السوق العالمية بالحبوب الرخيصة. «وفي وجه هذه المنافسة –الزاحفة من الاراضي العذراء ومن الفلاحين الروس والهنود المسحوقين بالضرائب- تعذر على الفلاح او المزارع الضامن [10] الأوروبي ان يحافظ على موقعه المرموق بواسطة اشكال الريع القديمة. فإذا بقسم من الارض الاوروبية ينسحب من المنافسة نهائيا فما يخص زراعة الحبوب، وإذا الريع ينخفض اينما كان. وهكذا، فان الحالة الثانية التي نعالج (المنوع 2)- أي انخفاض الأسعار وانخفاض انتاجية التوظيفات الرأسمالية الاضافية –اصبحت هي القاعدة في أوروبا. ومن هنا، كان نحيب الملاك العقاريين يتعالى من سكوتلاندا الى إيطاليا، ومن جنوب فرنسا إلى شرقي بروسيا. ولحسن الحظ، فان السهول ليست كلها مزروعة، فبقي منها ما يكفي ليؤدي الى خراب جميع كبار الملاك العقاريين في اوروبا وعهم المالكين الصغار أيضا…» (المصدر ذاته، ص 260، وفي الترجمة الروسية، ص 698، حيث اسقطت عبارة «لحسن الحظ»).
إذا كان القارئ قد قرأ هذا المقطع بعناية، فسوف يتضح له ان انغلز يقول عكس ما يريد السيد دانيالسون تحميله اياه. يرى انغلز ان الازمة الزراعية الراهنة تؤدي إلى خفض الريع، لا بل هي تتجه نحو الغائه كليا، وبمعنى آخر، فان الرأسمالية الزراعية تواصل مسيرتها الطبيعية نحو الغاء الموقع الاحتكاري للملكية العقارية.
حقا، ان السيد دانيالسون عاثر الحظ بالنسبة لـ«استشهاده»! ان الرأسمالية الزراعة تخطو خطوة جبارة جديدة إلى أمام؛ انها تضاعف بلا حدود المنتجات الزراعية السوقية، وتجر عددا من الاقطار الجديدة إلى الساحة العالمية، وتطرد الزراعة العشرية من آخر معاقلها، كما في روسيا والهند، خالقة سابقة جديدة في الزراعة –الانتاج الصناعي المحض للحبوب، المرتكز إلى تعاون جماهير من العمال المزودين بأحدث الآلات؛ ثم ان هذه الرأسمالية الزراعية تفاقم من حالة البلدان الاوروبية القديمة، فتخفض الريع، وتنسف بذلك ما بدأ وكأنه الموقع الاحتكاري الاكثر مناعة، وتحوّل الملكية العقارية إلى «حالة عبثية» ليس في النظرية وحسب، وإنما أيضا في الممارسة؛ وهي تزيد بسرعة من الحاجة إلى تشريك الانتاج الزراعي بحيث بدأت تلبية هذه الحاجة في الغرب حتى على يد ممثلي الطبقات المالكة. وإذا بانغلز، بسخريته المرحة المعهودة، يرحب بالخطوات الاخيرة للرأسمالية العالمية، فيقول: لحسن الحظ، فانه لا تزال توجد مساحات من المروج غير المزروعة بما يسمح للأمور ان تسير حسب عاداتها المألوفة حتى الآن. غير أن عزيزنا اليد دانيالسون، بلا أدنى سبب، يتنهد متحسرا على «الفلاح الموجيك» للأزمنة الخوالي، وعلى ركود زراعتنا «المبجّل عبر التاريخ»، وكافة أشكال الاسترقاق الزراعي التي لم ينجح في زعزعتها «لا الصراع بين الأمراء القاصرين [11] »، ولا غزوات التتار، فإذا بها الآن –ويا للهول!- مهددة بالزوال على يد هذه الرأسمالية المسخ! فيا لها من سذاجة مقدسة!
[1].
في الأقسام الثمانية الاولى من هذا الفصل، يعالج لينين بالتفصيل المعطيات عن نمو الزراعة السوقية. فيلاحظ ان
الحبوب المنتجة للتسويق تحتل حصة متزايدة من مجموع انتاج الحبوب في البلد. ثم يؤكد ان المزيد من تخصص الزراعات
المختلفة هو مؤشر أكيد على نمو الزراعة السوقية. بعدها، يستعرض المؤلف عددا من اوجه عملية نمو الزراعة السوقية.
-توسع منطقة زراعة الحبوب. ويلاحظ لينين هنا انتقال منطقة الحبوب الرئيسية من مقاطعات التربة السوداء الوسطى، إلى
مقاطعات السهوب والفولغا السفلى التي شهدت هجمة من الرساميل والبشر المهاجرين وإنتاج الحبوب للتسويق المباشر (للداخل
وللسوق الاوروبية) وفق زراعة رأسمالية متطورة (مزارع شاسعة. استخدام واسع النطاق للآلات. تعاون انتاجي كبير)، بما
يرافق ذلك بالضرورة من تمايز كبير بين الفلاحين (3 بالمئة من «الفلاحين» يسيطر على 3/1 الأرض المزروعة).
كذلك يلاحظ لينين هنا أن نمو الزراعة السوقية في هذه المنطقة قد ترافق مع تصنيعها المتسارع.
-التحولات في تربية المواشي، من التربية لأغراض السماد إلى التربة لأغراض استخراج وبيع الحلب ومشتقاته. وهكذا تنمو
صناعة الزبدة والأجبان وتنمو مراكز مدينية تأخذ بربط قرى وتجمعات مزارعين عديدة تربي الماشية للسوق (الحليب –
تسمين الماشية للحمها)، حيث يلعب السماسرة دورهم التقليدي في شراء المنتوج ونقله للمدن. وهكذا تزداد تبعية الفلاح
والمزارع للرأسمالي في المدينة الذي يبدأ بفرض شروطه على نوعية الانتاج. كذلك ينمو التمايز بين كبار مربي المواشي
وبين صغارهم، الذن يتحولون إلى شبه بروليتاريا من الرعاة. وتشهد فئات الفلاحين الفقراء (بدون بقرة او ببقرة واحدة)
انخفاضا ملحوظا في مستوى معيشتها.
-توسع زراعة المحاصيل السوقية المباشرة كالكتَّان مثلا. وهو محصول صناعي تضاعف انتاجه ثلاث مرات منذ الاصلاح وارتفعت
نسبة الصادرات منه ارتفاعا مذهلا. هنا ايضا تسيطر قلة السماسرة وكبار مالكي الارض الذين يؤجرونها لزراعة الكتَّان
على اكثرية الفلاحين وعلى معظم المحصول والمداخيل. بل وتنمو وكالات كبيرة للكتان تحل تدريجيا محل صغار ومتوسطي
السماسرة (ظاهرة تمركز رأس المال). والنتائج باتت مألوفة –خراب الفلاحين، الذين يؤجرون اراضيهم وغالبا ما
يهاجرون لامتهان العمل الصناعي.
-اتساع المعالجة التقنية للمحاصيل الزراعية وأبرزها (أ) معامل التقطير (للمشروبات الكحولية ومن البطاطا خصوصا)، (ب)
السكر الشمندري، وهي زراعة رأسمالية كبيرة وآلية يملكها الملاك الاقطاعيون والنبلاء، مثلها كمثل معامل التقطير، (ج)
استخراج النشاء من البطاطا (الذي زاد انتاجه عشرة اضعاف)، (د) انتاج الزيت النباتي، حيث ينمو التمايز بين الفلاحين
اصحاب المعاصر الكبيرة والصغيرة، أو المحرومين منها، (ه) زراعة التبغ، الواقعة بيد كبار الرأسماليين (نصف المزارع هي
من صنف المزرعة الصغيرة، لكن حصتها من اجمالي الانتاج لا تتجاوز 10/1 ومعظم هذه الزراعات تستقطب العمال المهاجرين.
-أخيرا، يتعرض لينين لزراعة الخضار والفواكه بطريقة صناعية في ضواحي المدن، حيث يصبح الفلاح-المزارع خاضعا للرأسمالية
إلى حد ان الشعبويين انفسهم يعترفون بأنه «لم يعد فلاحا»! –المترجم-
[2]. أوبلوموف Oblomov شخصية في رواية للقاص الروسي غونشاروف تمثل مالك الارض الكسول وضعيف الإرادة –المترجم-
[3]. الاستشهاد من ماركس في «بؤس الفلسلفة». والأنشودة الرعوية idyll تصف عادة الحياة الريفية او حياة الرعاة في جو من الرضا والهناءة والطمأنينة. ويقصد ماركس أن الرأسمالية تقتلع الحياة الريفية من ركودها التقليدي لتقحمها في حركة التاريخ –المترجم-.
[4]. ان الرومنطقيين الاوروبيين الغربيين والشعبويين الروس يشددون كثيرا، في وصف هذه العملية، على أحادية الجانب في الزراعة الرأسمالية، وعلى القلاقل والأزمات الناجمة عن التطور الرأسمالي –وبناء عليه، فإنهم ينكرون على التطور الرأسمالي طابعه التقدمي بالقياس إلى ركود الحقبات قبل الرأسمالية (ملاحظة لينين).
[5].
بناء عليه، وعلى الرغم من الفوارق في اشكال حيازة الأرض، فان باستطاعة المرء أن يطبق على الفلاح الروسي كليا ما
قاله ماركس عن الفلاح الفرنسي الصغير:
«ان الفلاحين المالكين الصغار يشكلون جمعا كبيرا من الناس، يعيش افراده في ظروف متشابهة ولكن دون أن يدخلوا في
علاقات متشابكة فيما بينهم. ذلك أن نمط الانتاج خاصتهم يعزل واحدهم عن الآخر بدلا من ان يفرض عليهم التفاعل. وتتفاقم
هذه العزلة بسبب رداءة وسائل النقل الفرنسية وبؤس الفلاحين. ثم ان حقل الانتاج خاصتهم، الملكية الصغيرة، لا يسمح
بقسمة العمل في الفلاحة، ولا بتطبيق العلم، وبالتالي، فانه لا يسمح بالتطور المتعدد الوجوه، او تنوع الكفاءات، او
الغني في العلاقات الاجتماعية. فكل اسرة فلاحية تكاد ان تكون مكتفية ذاتيا بمفردها، فهي المنتج المباشر لمعظم ما
تستهلكه، وهي تحصل بالتالي معاشها من التبادل مع الطبيعة الاكثر مما تحصله من التفاعل مع المجتمع. قطعة ارض صغيرة،
وفلاح وعائلته والى جانبهم قطعة ارض أخرى، وفلاح آخر وعائلة اخرى. ويتجمع بضعة عشرات من امثال هؤلاء لتكوين قرية،
وبضعة عشرات من القرى تتكون منهم مقاكطعة، وأكثرية الأمة الفرنسية تتكون من الجمع البسيط لكميات مماثلة، مثلما كمية
البطاطا في كيس تشكل كيسا من البطاطا» (18 برومير للويس بونابارت، 1885، ص 98-99) (ملاحظة لينين).
[6]. أي منذ أول تنظيم قانوني للامتيازات الاقطاعية في روسيا (القرن الحادي عشر) –المترجم-.
[7].
ان الصناعة الرأسمالية الكبيرة تخلق طبقة عاملة مرتحلة. وإذا كانت تتشكل من السكان الريفيين، إلا أنها تشتغل
أساسا في الوظائف الصناعية: «انهم جنود المشاة في جيش رأس المال، يقذف بهم، حسب حاجاته، إلى هذه الجبهة تارة
وطورا إلى تلك… وهكذا يجري استخدام اليد العاملة المرتحلة هذه في عمليات مختلفة في البناء، وفي تصرف المياه،
وصناعة القرميد، والكلس، وبناء خطوط سكك الحديد، الخ.» (كارل مارك، راس المال،ى الكتاب الأول، ص
292).
«بشكل عام فان المشاريع الكبيرة كبناء سكك الحديد تسحب كمية معينة من قوة العمل من سوق العمل، وهذه
الكمية تأتي من فروع معينة من الاقتصاد كالزراعة مثلا…» (المصدر ذاته، الكتاب الثاني، ب 2 من 303)
(ملاحظة لينين).
[8]. نقول «إلى هذا الحد أو ذاك»، لان تدهور الاوضاع المعيشية للعامل الزراعي لا يمكن أن يعود سببه فقط إلى عدم انتظام عمله. (ملاحظة لينين).
[9]. فلنتذكر أن انغلز، قبيل وفاته بزمن قصير، وفي وقت تفاقمت فيه الأزمة الزراعية المرتبطة بانخفاض الأسعار، وجد لزاما عليه أن يحتج بعنف على «تلامذته» الفرنسيين الذين قدموا تنازلات معينة لنظرية القائلة بجدوى الانتاج الصغر (ملاحظة لينين).
[10]. الفلاح المستأجر للأرض –المترجم-.
[11]. الامراء القاصرون هم الامراء غير المستفيدين من حق البكورية التي يرث بموجبه الابن البكر أراضي ابيه في النظام الاقطاعي –المترجم-.