رأينا انه في أساس تكون السوق الداخلية، في ظل الإنتاج الرأسمالي، تكمن عملية تحول المزارعين الصغار إلى ارباب عمل زراعيين من جهة والي عمال من جهة أخرى. ان كل المؤلفات عن الوضع الاقتصادي للفلاحين في فترة ما بعد الاصلاح تقريبا تتحدث عما يسمى «تمايز» الفلاحين. لذا يترتب علينا ان ندرس المميزات الرئيسية لهذه الظاهرة وتعيين مدلولتها. وسوف نعتمد، في العرض الذي سيلي، على المعطيات الاحصائية للمسوح المنزلية التي اجرتها أجهزة الزييمستوفات [1] .
(…)
(…)
والآن فلنلخص المعطيات عن تمايز الفلاحين الواردة أعلاه (الأقسام 1-8) من خلال دراسة الجدول عمودا بعمود.
ان العمود الأول إلى اليمين عن النسب المئوية للأسر يبين نسب السكان المنتمين إلى الفئات العليا والفئات الدنيا. ونجد أن حجم أسر الفلاحين الميسورين هو دوما أعلى من المعدل وان حجم الأسر الفلاحية الفقيرة هو دائما أدنى منه. لقد بق لنا الحديث عن دلالة هذه الواقعة. ولا بد من ان نضيف انه من الخطأ أن نعتمد الفرد كوحدة قياس (كما يحلو للشعبويين) بدلا من اعتماد الأسرة. وفي حين ينمو إنفاق الأسرة الميسورة بسبب كبر حجمها، فأن الانفاق الاجمالي لأسرة ينخفض بدوره (بما هو إنفاق على الانشاءات والتجهيزات المنزلية ولسد الحاجات البيتية، الخ. الخ). لذلك فإن اعتماد الفرد كوحدة قياس، وإغفال هذا الانخفاض هو بمثابة مطابقة مغلوطة ومصطنعة بين وضع «الفرد» في الأسرة الكبيرة ووضعه في الأسرة الصغيرة. وبالمناسبة، فان الجدول يبيّن بوضوح أن الفئة الميسورة من الفلاحين تستحوذ على حصة من الانتاج الزراعي هي أكبر بكثير من الحصة العائدة لها بمقتضى حساب معدل الدخل الفردي.
أما العمود الثاني فيتعلق بأراضي المحاصصة [2] . ونرى في توزيعها درجة أعلى من المساواة مما هو الحال بناء على الوضع القانوني لأراضي المحاصصة. ولكننا نجد هنا أيضا بدايات عملية طرد الفلاحين الفقراء على يد الفلاحين الميسورين. ففي كافة الحالات، تستحوذ الفئات العليا [من الفلاحين] على حصة أكبر من أراضي المحاصصة بالقياس إلى نسبة هذه الفئات إلى إجمالي عدد السكان، في حين ان الفئات الدنيا تستحوذ على حصة أدنى. وهكذا فإن «المشاعة القروية» تميل نحو خدمة مصالح البرجوازية الزراعية (…).
ثم نأتي إلى العمود المتعلق بالأراضي المشتراة. في كافة الحالات، نجد هذه الأراضي متمركزة بيد الفلاحين الميسورين. ان 5/1 الأسر الفلاحية يسيطر على 10/6 أو 10/7 من مجموع الأراضي التي اشتراها الفلاحون. بينما الفلاحون الفقراء، الذين يشكلون نصف اجمالي عدد الأسر الفلاحية، لا يسيطرون على أكثر من 15 بالمئة من هذه الأراضي! [3] .
وباستطاعة المرء أن يحكم، بالتالي، على معنى الضجة التي يثيرها الشعبويون حول تمكين «الفلاحين» من شراء أكبر كمية ممكنة من الأرض بأرخص الأسعار الممكنة.
العمود التالي يعالج الأراضي المستأجرة. هنا أيضا تشير كافة الأدلة إلى تمركز الأرض بين أيدي الميسورين (5/1 عدد الأسر تستأجر 10/5- 10/8 من إجمالي الأراضي المستأجرة) الذين يستأجرون الأرض بأرخص من سواهم، كما بيَّنا أعلاه. ان هذا الاستحواذ على الأراضي القابلة للتأجير من قبل البرجوازية الزراعية يبين بوضوح أن «الاستئجار الفلاحي يتخذ طابعا صناعيا (شراء الأرض لغرض بيع المنتوج). على أن قولنا هذا لا يؤدي بنا البتة إلى انكار أن تأجير الأرض ناتج عن الحاجة. بل بالعكس تماما، فإن الجدول يبين بوضوح الطابع المغاير تماما للتأجير من قبل الفقراء، المتشبثين بالأرض (ان نصف إجمالي الأسر الفلاحية لا يقدم إلا 10/1 أو 10/2 من اجمالي الأراضي المستأجرة). هناك فلاحون وفلاحون.
والواقع أن الدلالة المتناقضة لإيجار الأرض في «الزراعة الفلاحية» تظهر أوضح ما تظهر عندما نقارن العمود عن استئجار الأرض مع العمود عن تأجيرها. هنا تنعكس الآية كليا. فالمؤجرون الرئيسيون للأرض هم أبناء الفئات الدنيا (نصف عدد الأسر مقابل 10/8- 10/8 من الأراضي المؤجرة) الذين يسعون للتخلص من حصصهم التي تنتقل (رغم التحريمات والتقييدات القانونية) إلى أيدي المزارعين من فئة أرباب العمل. وهكذا فعندما يقال لنا أن «الفلاحين» يستأجرون الارض وان «الفلاحين» يؤجرون أراضيهم بتنا نعلم أن الحالة الأولى تنطبق على البرجوازيين الزراعيين فيما تنطبق الثانية على البروليتاريا الزراعية.
ان العلاقة بين الأرض المشتراة والمستأجرة والمؤجرة وبين أراضي المحاصصة تحدد أيضا الأراضي الفعلية التي تملكها الفئات المختلفة (العمود الخامس إلى اليمين). ونجد، في كافة الحالات، أن التوزيع الفعلي للأراضي الاجمالية للفلاحين لا يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى «المساواة» بين الحصص. ان 20 بالمئة من الأسر تتصرف بـ 35- 50 بالمئة من إجمالي الأرض، بينما 50 بالمئة من الأسر تتصرف بـ 20-30 بالمئة من هذا الإجمالي فقط. أما فيما يتعلق بتوزيع المساحة قيد الزرع (العمود الذي يله) فإن طرد الفئة الدنيا على يد الفئة العليا يبرز بوضوح أكبر، ربما لأن الفلاحين الفقراء غالبا ما يعجزون عن استثمار أراضيهم بطريقة اقتصادية فيهجرونها. ونرى من كلا العمودين (عمود إجمالي الأراضي وعمود المساحات المزروعة) ان شراء واستئجار الأراضي يؤديان إلى تقليص حصة الفئات الدنيا في النظام الاقتصاد العام، أي إلى طردهم على يد الأقلية الميسورة. وهذه الأخيرة هي الطاغية الآن على الاقتصاد الفلاحي، إذ تحتكر مساحة مزروعة توازي تقريبا المساحة المزروعة التي يتصرف باقي الفلاحين مجموعين.
ويبيّن العمودان التاليان توزيع حيوانات الجر وسواها بين الفلاحين. وبالكاد تختلف النسب المئوية للحيوانات عنها بالنسبة للمساحات المزروعة. ولا يمكن للأمر إلا أن يكون كذلك. لأن عدد حيوانات الجر (وأيضا عدد سائر الحيوانات) يقرر المساحة المزروعة ويتقرر بها.
أما العمود التالي، فانه يشير إلى حصة مختلف فئات الفلاحين من إجمالي عدد المنشآت التجارية والصناعية. ان 5/1 الأسر (=الميسورون) تسيطر على حوالي نصف هذه المنشآت، في حين أن نصف مجموع الأسر (=الفقراء) لا يسيطرون إلا على الـ 5/1. بمعنى آخر، فإن «الصناعات» التي تعبر عن تحول الفلاحين إلى برجوازية تتمركز اساسا بين ايدي المزارعين الأوفر يسرا. وبالتالي، فإن الفلاحين الميسورين يستثمرون رأس المال في الزراعة (في شراء واستئجار الأرض، واستخدام العمال، وتحسين الأدوات والتجهيزات، الخ) وفي المنشئات الصناعية، والتجارة والربا. وهكذا يتداخل رأس المال التجاري ورأس المال المقاولاتي [الصناعي] entrepreneur وتقرر الظروف المحيطة لمن ستكون الغلبة بين هذين الشكلين لرأس المال.
ومن جهة ثانية، فإن الأسر ذات «الاستخدامات»… تلقي الضوء على «الصناعات» لكن الدلالة عكسية هنا اذ تعبر عن تحول الفلاح إلى بروليتاري. ان هذه «الصناعات» تتمركز بين أيدي الفقراء (تضم 50 بالمئة من إجمالي الاسر و60-90 بالمئة من الأسر ذات الاستخدامات) في حين تلعب فئات الميسورين دورا قليل الشأن فيها (ولا يجوز ان ننسى أننا لم نستطع رسم الحد الفاصل بين المعلمين والعمال في هذه الفئة من «الصناعيين»). وكفي أن نقارن المعطيات عن «الاستخدامات» بالمعطيات عن «المنشآت التجارية والصناعية» لنتبين مدى تعاكس هذين النمطين من «الصناعات». ولندرك البلبلة العجيبة الناتجة عن الخلط المعتاد بين هذين النمطين.
ان الأسر التي تستخدم العمال الزراعيين تتمركز دائما في فئة الفلاحين الميسورين (20 بالمئة من الأسر تملك 10/5- 10/7 من إجمالي عدد المزارع التي تستخدم العمال) الذين لا يستطيعون العيش بدون طبقة من العمال الزراعيين «المساعدين» (على الرغم من انهم من اصحاب الاسر الكبيرة) (…)
أما العمود الأخير، عن توزيع الادوات الزراعية المتطورة، فيمكن عنونته «الاتجاهات التقدمية في الزراعة الفلاحية» اقتداء بالسيد فورنتسوف [4] . ذلك أن التوزيع «الأكثر عدالة» لهذه الأدوات هو قضاء نوفواوزتسك، مقاطعة سامارا، حيث الأسر الفلاحية الميسورة لا تتجاوز 5/1 المجموع، في حين أنها تملك 73 بالمئة من الأدوات، بينما الفقراء، الذين يشكلون نصف إجمالي عدد الأسر، لا يملكون غير 3 بالمئة من هذه الأدوات! (…)
لقد بيَّنا أن علاقة الفئة العليا من الفلاحين بالفئة الدنيا تحمل السمات ذاتها التي تسم العلاقة بين البرجوازية الريفية والبروليتاريا الريفية، وان هاتين العلاقتين تتشابهان بشكل ملفت للنظر في أشد المناطق تنوعا وعلى اختلاف الظروف، بل أن التعبير الرقمي عنهما (أي النسب المئوية المتعلقة بمساحة الأراضي المزروعة وعدد حيوانات الجر، الخ) يتذبذب ضمن حدود ضيقة جدا، بالمقياس النسبي. من هنا يبرز السؤال البديهي: إلى أي مدى يمكننا استخدام هذه المعطيات عن العلاقات المتبادلة بين الفئتين في المناطق المختلفة لتكوين فكرة عن الفئتين اللتين ينقسم اليهما مجموع الفلاحين الروس؟ وبعبارة أخرى، أية تقارير احصائية تمكننا من الحكم على تركيب الفئات العليا والدنيا لمجموع الفلاحين الروس وعلى العلاقات المتبادلة بينها؟
إن مثل هذه التقارير قليلة جدا، لأنه ما من مسح زراعي في روسيا يشمل كل مزارع البلد. والمادة الوحيدة التي تمكننا من الحكم على توزع الفلاحين إلى فئات اقتصادية هي احصائيات الزييمستوفات المركبة وعائدات تعداد الاحصنة لجيش عن توزيع حيوانات الجر (أو الاحصنة) على الأسر الفلاحية. وعلى رغم شحة هذه المادة، إلا أن المرء يستطيع ان يستخلص منها الاستنتاجات (التي ستكون تأكيدا بالغة العمومية وتقريبية ومتوسطية) لكنها ليست بدون اهمية خاصة وانه قد جرى تحليل نسبة الفلاحين اصحاب الاحصنة العديدة إلى اصحاب العدد القليل من الأحصنة وتبين لنا انها متقاربة إلى حد مدهش في اشد المناطق اختلافا.
(…)
إذا ما أخذنا 49 مقاطعة في روسيا الأوروبية (عائدات منطقة الدون ليست كاملة) ودمجنا معطيات العام 1888 مع معطيات العام 1891، نحصل على الصورة التالية للتوزيع الإجمالي لعدد الاحصنة التي يملكها الفلاحون في المشاعات القروية:
وهكذا، فإن توزيع أحصنة الجر بين الفلاحين على امتداد روسيا قريب جدا من درجة التمايز «المتوسطة» التي أشرنا إليها في الرسم البياني. لا بل أن التفكك أعمق: ان 22 بالمئة من الأسر الفلاحية (2.2 مليون من أصل 10.2 مليون) تملك 9.5 مليون حصان من أصل 17 مليون، أي بنسبة 56.3 بالمئة من العدد الإجمالي. ان عددا كبيرا من الأسر لا يملك الاحصنة إطلاقا ويبلغ 2.8 مليون أسرة، في حين أن 2.8 مليون أسرة تملك حصانا واحدا، أي 17.2 بالمئة من إجمالي عدد الأحصنة.
وإذا انطلقنا من الثوابت المثبتة أعلاه في العلاقة بين الفئات، نستطيع ان نستخلص الدلالة الفعلية لهذه المعطيات. فإذا كان 5/1 عدد الأسر يملك نصف إجمالي الأحصنة، يمكننا ان نجزم ان لا أقل من نصف إجمالي إنتاج الفلاحين (وربما اكثر) هو بيد هذا الخُمس (5/1). ولا يصبح تمركز الإنتاج هذا ممكنا إلا حيث الفلاحون الميسورون يتمركز بين ايديهم القسم الأكبر من الأراضي المشتراة ومن الاراضي التي يستأجرها الفلاحون، اكانت الأرض محاصصة أم لا. انها هذه الأقلية الميسورة ذاتها التي تقوم بمعظم عمليات بيع الأرض وتأجيرها، على الرغم من أنها لا تشكو نقصا على الاطلاق في اراضي المحاصصة. وفي حين نجد الفلاح الروسي «المتوسط» بالكاد يحصِّل كفاف يومه في احسن الاحوال (وهذا أمر مشكوك فيه في الغالب)، فإن هذه الاقلية الميسورة، ذات الظروف المعاشية الأعلى من المعدل، لا تغطي كل نفقاتها من خلال الزراعة المستقلة وحسب، وإنما هي تحصل على فائض كذلك. وهذا يعني انها –الأقلية- باتت تتكون من المنتجين البضاعيين، الذين يزرعون من اجل بيع منتجاتهم. بل اكثر من ذلك –انهم يتحولون إلى برجوازية ريفية تملك المزارع الكبيرة نسبيا إلى جانب المنشآت التجارية والصناعية. وقد رأينا اعلاه أن مثل هذه «الصناعات» تحديدا هي التي يتميز بها الموجيك «المقدام» [6] . وعلى الرغم من ان حجم عائداتها هو الاكبر وعدد العمال العائليين هو الاكثر (وهاتان سمتان ميَّزتا دوما الفلاحين الميسورين، حيث 5/1 إجمالي الأسر يضم قسما كبيرا من السكان يقارب الـ 10/3)، فإن الاقلية الميسورة تستخدم العمال اليدويين الدائمين والمياومين على اوسع نطاق. ان اكثرية مزارع الفلاحين الروس التي تلجأ إلى استخدام العمال هي مزارع تخص هذه الاقلية الميسورة. ومن حقنا أن نستخلص هذه النتيجة بناء على التحليل السابق وعلى المقارنة بين نسبة هذه الفئة إلى إجمالي السكان وبين الحصة التي تملكها من إجمالي عدد حيوانات الجر، وبالتالي حصتها من المساحة المزروعة، ومن الزراعة عامة. وأخيرا، فإن هذه الأقلية الميسورة قادرة على لعب دور منتظم في «الاتجاهات التقدمية في الزراعة الفلاحية». تلك هي العلاقة بين هذه الاقلية وسائر الفلاحين. وغني عن القول أن هذه العلاقة تكتسب أشكالا مختلفة وتتجلى بطرق اخرى حسب الاختلافات في الظروف الزراعية، وأنظمة الزراعة والأشكال التي تتخذها الزراعة السوقية. ذلك أن الاتجاهات الاساسية لتمايز الفلاحين أمر، والأشكال التي يكتسبها هذا التمايز، المختلفة باختلاف الظروف المحلية، امر آخر تماما.
أما حالة الفلاحين الذين لا يملكون احصنة او تقتصر ملكيتهم على حصان واحد، فإنه على النقيض من ذلك تماما. وقد رأينا أعلاه أن علماء الاحصاء التابعين للزييمستوفات يصنِّفون هؤلاء الأخيرين (ناهيك عن الأولين- أي الذين لا يملكون أحصنة) في مصاف البروليتاريا. لذا، فنحن بالكاد مبالغون في حساباتنا التقريبية، التي تصنف في فئة البروليتاريا جميع الفلاحين الذين لا يملكون احصنة وثلاثة أرباع الذين تقتصر ملكيتهم على حصان واحد (أي حوالي نصف إجمالي الأسر الفلاحية). وهؤلاء الفلاحون، الأفقر من حيث حيازتهم لأراضي المحاصصة، غالبا ما يؤجرون حصصهم بسبب افتقارهم إلى التجهيزات والأدوات، والبذار، إلى آخره. ولا يعود اليهم إلا النذر اليسير من إجمالي الاراضي التي يشتريها الفلاحون أو يستأجرونها. ثم ان مزارعهم لن تكفي أبدا لتأمين كفافهم، لذا فإن مصدر رزقهم الرئيسي هو «الصناعات» أو «الاستخدامات»، أي بيع قوة عملهم. انهم طبقة الاجراء ذوي الحصص، وعمال المزارع الدائمون، والمياومون، والعمال غير المهرة، وعمال البناء، الخ، الخ.
(…)
ان مقارنة بين فترة 1888-1891 و1896-1900 تبين الاتجاه المتزايد لمصادرة ملكية الفلاحين. فقد ازداد عدد الأسر الفلاحية بما يقارب الميلون اسرة. ولكن عدد الأحصنة انخفض، ولو انخفاضا خفيفا. على أن عدد الأسر التي لا تملك الاحصنة يتكاثر بسرعة ملفتة، وترتفع النسبة من 27.3 بالمئة إلى 29.2 بالمئة (من إجمالي عدد الأسر الفلاحية). وها نحن أمام 6.6 مليون فلاح فقير (بدون حصان او بحصان واحد) بدلا من 5.6 مليون كما في السابق. وهكذا، فإن كل زيادة في عدد الأسر الفلاحية جاءت توسع صفوف الفلاحين الفقراء. ومن جهة ثانية، فقد انخفض عدد الأسر الغنية بالأحصنة. وقد بتنا أمام مليون أسرة تملك عدة احصنة بدلا من مليونين ومئتي ألف، كما في السابق. أما عدد الأسر المتوسطة والميسورة (ذات الحصانين فما فوق) فإنه على قدر من الثبات (4465000 في 1888-1891 مقابل 4508000 في 1896-1900).
وهكذا فلا بد من أن نستخلص من هذه المعطيات الخلاصات التالية:
ان تزايد إفقار الفلاحين وتزايد مصادرة ملكياتهم امر لا يرقى إليه شك.
أما فيما يخص العلاقة بين الفئة الأعلى والفئة الأدنى من الفلاحين، فبالكاد طرأ عليها تغير يذكر. وإذا اعتبرنا، مثلما هو وراد أعلاه، أن الفئات الدنيا تشكل 50 بالمئة من الأسر الفلاحية فيما تبلغ نسبة الفئات العليا 20 بالمئة، نحصل على ما يلي: في الفترة 1888-1891 كان الفقراء، اي الـ 50 بالمئة من الأسر الفلاحية، يملكون 13.7 بالمئة من الأحصنة. أما الأغنياء، اي 20 بالمئة من الأسر الفلاحية، فقد كانوا يملكون 53.2 بالمئة من مجموع الاحصنة. وبالتالي فالعلاقة بين الفئتين لم يطرأ عليها تغير يذكر أو بالكاد.
وأخيرا، فإن الفلاحين باتوا افقر عموما فيما يملكون من احصنة. فقد انخفض عدد الأسر ذات الأحصنة المتعددة كما انخفضت نبتها. وهذا أمر يشير بداهة إلى تقهقر الزراعة الفلاحية عموما في روسيا الأوروبية. لكننا لا يجوز أن ننسى من جهة ثانية، أن عدد الاحصنة المستخدمة في الزراعة في روسيا مرتفع بطريقة غير طبيعية إذا ما قيس بمساحة الاراضي المزروعة. ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك في بلد يسوده الإنتاج الفلاحي الصغير. وهكذا فإن انخفاض عدد الاحصنة يمثل إلى حد ما «إعادة الاعتبار للمعادلة الطبيعية بين عدد حيوانات الجر وبين مساحة الأرض المروية» في أوساط البرجوازية الزراعية (انظر حجج السيد دانيالسون حول هذه النقطة في القسم الأول من هذا الفصل».
وانه من الملائم أن نتعرض هنا للمحاججات حول هذه المسألة التي تتضمنها الكتابات الاخيرة للسيد فيخلاييف «صور من الواقع الزراعي الروسي»، سان بطرسبرغ، نشر مجلة «خوزيين» ([المزارع] والسيد تشيرنتكوف «وصف للزراعة الفلاحية»، الجزء الأول، موسكو، 1905). كلا المؤلفين يجرفه تنوع الأرقام حول توزيع الاحصنة بين الفلاحين بحيث يقلب التحليل الاقتصادي ضربا من الرياضة الإحصائية. وبدلا من دراسة الفئات الفلاحية (مياوم، فلاح متوسط، مقاول)، يتصرف كلاهما كالهواة وينكبّ على دراسة جداول لا تنتهي من الأرقام، كأنهما قررا إثارة دهشة العالم بما يملكان من حماسة حسابية.
وحده هذا التلاعب بالأرقام يمكّن السيد تشيرنتكوف ان يدينني بالاعتراض على «انحيازي» في تفسير «التمايز» بما هو ظاهرة جديدة (وليست قديمة) وظاهرة «شاءت الأقدار» ان تكون رأسمالية. وبالطبع، فالسيد تشيرنتكوف حر في اعتقاده أني استخلص الخلاصات من الاحصائيات وأتناسى الاقتصاد! –وأني أحاول أن اثبت أمرا ما انطلاقا من مجرد تعديل طرأ على عدد الأحصنة وعلى توزيعها! فالواقع أن النظرة الذكية إلى تمايز الفلاحين تتطلب أخذ الصورة كاملة: استئجار الأرض، شراء الأراضي، الآلات، الاستخدامات الخارجية [7] ، نمو الزراعة السوقية، والعمل المأجور. أم تراه السيد تشيرنتكوف يعتبر أن هذه الظواهر لا هي «جديدة» ولا «رأسمالية»؟!
لكي نختتم مسألة تمايز الفلاحين، يجب أن ندرسها من زاوية أخرى –زاوية المعطيات البالغة الدقة عن موازنات الفلاحين. وهكذا سوف نرى بوضوح مدى عمق الفوارق بين فئات الفلاحين قيد البحث.
(…)
وهكذا فإن أحجام موازنات مختلف الفئات الفلاحية [8] تتباين تباينا كبيرا فيما بينها. فحتى لو تركنا الأطراف جانبا، نجد أن موازنة (هـ) هي أكثر من خمسة اضعاف موازنة (ب)، بينما حجم الأسرة في (ه) هو أقل من ثلاث مرات حجمها في (ب).
ننتقل الآن لنتفحّص توزيع النفقات:
يكفي أن نلقي نظرة ولو خاطفة على إنفاق المزارع بالمقارنة مع الانفاق العام لكل فئة من فئات الفلاحين، لكي يتبين لنا أننا هنا أمام بروليتاريين ومالكين: ففي الفئة (أ) لا يزيد إنفاق المزرعة عن 14 بالمئة من الانفاق الإجمالي، أما انفاق الفئة (و) فإنه يبلغ 61 بالمئة. أما الفروقات في الأرقام المطلقة لإنفاق المزارع فتحصيل حاصل. والواقع أن هذا الانفاق لا يكاد يُذكر ليس في حالة الفلاحين غير المالكين للأحصنة وإنما أيضا بالنسبة لذوي الحصان الواحد. فالفلاح ذو الحصان الواحد هو قريب جدا من النمط العادي من العالم الزراعي المحاصص والمياوم (في البلدان الرأسمالية) وجديرة بالملاحظة أيضا هي الفروقات الضخمة في النسب المئوية للإنفاق على الغذاء (فنفقات (أ) توازي ضعفي نفقات (و) تقريبا) وكما هو معلوم فإن النسبة المئوية المرتفعة دليل على انخفاض مستوى المعيشة وهذا هو عنصر التمييز الأبرز بين موازنة المالك وموازنة العامل.
فلننتقل الآن إلى المداخيل:
وهكذا، فالدخل من «الصناعات» يفوق اجمالي الدخل من الزراعة عند الطرفين: فئة الفلاح البروليتاري الذي يملك احصنة وفئة المقاول الريفي. «فالصناعات الشخصية» للفئات الفلاحية الدنيا تتكون، بالدرجة الأولى، من عمل مأجور، في حين ان المداخيل الواردة من تأجير الأرض تشكل عنصرا أساسيا في بند «المداخيل المتفرقة». بل أن فئة «المزارعين المستقلين» تضم أولئك الذين يستمدون دخلا من تأجير الأرض هو أقل بقليل، وأحيانا اكثر بقليل، من إجمالي الدخل من الزراعة. فمثلا نجد في حالة الفلاح ذي الحصان الواحد أن الدخل الاجمالي من الزراعة هو 61.9 روبلات، ومن تأجير الارض 40 روبلا. أما في حالة الفلاح آخر، فيبلغ الدخل من الزراعة 31.9 روبلات ومن تأجير الارض 40 روبلا. ثم انه لا يجوز أن نتناسى ان الدخل من تأجير الارض ومن الشغل بالمزرعة يذهب كليا لتغطية الحاجات الشخصية لـ«الفلاح»، في حين انه يتعين علينا ان نحسم من الدخل الزراعي الاجمالي نفقات ادارة المزرعة. وبعد ذلك الحسم، سوف نجد أن الدخل الصافي للفلاح الذي لا يملك احصنة من الزراعة يبلغ 41.99 روبلا، ومن «الصناعات» 59.04 روبلات. أما بالنسبة للفلاح ذي الحصان الواحد فالأرقام هي 69.37 و49.22 روبلا على التوالي. وان مجرد المواجهة بين هذه الارقام تبين اننا أمام نماذج من العمال الزراعيين المحاصصين يغطون جزءا من نفقات إعالتهم (ولهذا فأنهم قادرون على تخفيض أجورهم). أما الخلط بين هذه النماذج من الفلاحين وبين الملاك (من زراعيين وصناعيين)، فإنه ينطوي على تجاهل سافر لكل مقتضيات البحث العلمي.
أما في الطرف الآخر من الريف، فنجد الملاّك الذين يدمجون زراعة الغلال المستقلة مع العمليات التجارية والصناعية التي تدر دخلا لا يستهان به (في ظل مستوى المعيشة الحالي) يبلغ عدة مئات من الروبلات. أم الهلامية الكاملة لبند «الصناعات الشخصية» فإنه يخفي الفروقات بين الفئات الدنيا والعليا في هذا الصدد، غير ان حجم المداخيل المتأتية من هذه «الصناعات الشخصية» يكفي لكشف مدى ضخامة هذه الفروقات. (ولنذكِّر القارئ هنا انه في احصائيات فورونيج قد يضم بند «الصناعات الشخصية» أعمالا من نوع التسول، والعمل الزراعي المأجور، والخدمة المنزلية، وإدارة الأعمال، الخ.الخ.)
وأما بالنسبة لحجم الدخل الصناعي، فإن فئة الفلاح غير المالك للأحصنة وفئة الفلاح ذي الحصان الواحد تبرزان هنا بأوضح ما يمكن من حيث «الرصيد» البائس (روبل واحد أو وربلان) ومن حيث العجز المالي الذي تعانيه. فموارد هؤلاء الفلاحين ليست اكبر من موارد العمال المأجورين، هذا إذا لم نقل أنها أدنى. فابتداء من فئة الفلاح ذي الحصانين فقط نجد مداخيل صافية وأرصدة من بضعة العشرات من الروبلات (والتي لا يمكن الحديث عن زراعة فعلية بدونها). ويبلغ الدخل الصافي لدى الفلاحين الميسورين مبالغ (120-170 روبل) ترفعهم بعيدا فوق المستوى العام للطبقة العاملة الروسية.
وبالطبع، فان دمج العمال بأرباب العمل في فئة واحدة واحتساب موازنة «متوسطة» يقدمان صورة عن «متوسط الكفاية» وعن دخل صاف «معتدل»: مدخول من 491 روبل، نفقات من 443 روبل، رصيد من 48 روبل، بما فيه 18 روبل نقدا. على أن مثل هذه المعدلات مجرد معدلات وهمية. وهي لا تؤدي إلا إلى حجب البؤس المدقع لجماهير الفلاحين في الفئات الدنيا (الفئة (أ) والفئة (ب)، أي 30 من اصل 66 موازنة) الذين تؤدي مداخيلهم الشحيحة (120-180 روبلا للأسرة الواحدة كدخل إجمالي) إلى ترجيح المداخيل على المصاريف، فيعيشون أساسا على العمل الزراعي الدائم او على المياومة.
ان الاحتساب الدقيق للمداخيل والمصاريف النقدية والعينية يمكننا من تعيين الصلة بين تمايز الفلاحين وبين السوق، حيث المداخيل والمصاريف النقدية هي وحدها المهمة. أما حصة القسم النقدي من الموازنة إلى مجموع الموازنة لدى مختلف الفئات فهو على النحو التالي:
ونرى بالتالي أن نسبة المدخول والمصروف النقدييّن ترتفع من الفئات المتوسطة نحو الأطراف (ارتفاع المصاريف يتم بانتظام مثير للاهتمام). وتكتسب الزراعة طابعها التجاري الاشد سفورا في حالة الفلاح بدون احصنة والفلاح ذي الاحصنة العديدة. وهذا يعني ان كليهما يعيش أساسا على بيع السلع، علما أن السلعة في الحالة الاولى هي قوة العمل، بينما هي، في الثانية، سلع جرى انتاجها لغرض البيع بواسطة استخدام مكثف للعمل المأجور (كما سنرى لاحقا)، اي أنها منتوج يكتسب شكل راس المال. وبعبارة أخرى، فان هذه الموازنات تبين ايضا ان تمايز الفلاحين ينشئ سوقا داخلية للرأسمالية بتحويل الفلاح إلى عامل زراعي من جهة، وإلى منتج بضاعي صغير، إلى برجوازي صغير، من جهة ثانية.
وهناك خلاصة أخرى، لييست أقل أهمية، يمكن استخلاصها من هذه المعطيات. وهي أن جميع الفئات الفلاحية قد اصبحت تجارية إلى حد بعيد جدا، اي أنها أصبحت متكلة على السوق. فما من حالة تنخفض فيها نسبة الحصة النقدية من المدخول او المصروف عن 40 بالمئة. ويجب اعتبار هذه النسبة المئوية مرتفعة لأننا بصدد المداخيل الاجمالية لمزارعين صغار… وبديهي القول أنه حتى الفلاحين في حزام الأراضي السوداء الاوسط (حيث الاقتصاد النقدي اضعف تطورا، على العموم، منه في الحزام الصناعي أو في منطقة السهوب في الأطراف) لا يمكنهم العيش بدون البيع والشراء وقد باتوا معتمدين اعتمادا كليا على السوق وعلى جبروت المال. وغني عن القول أن هذه الواقعة ذات أهمية استثنائية، وان السادة الشعبويين يقعون في خطل كبير عندما يحاولون طمسها مدفوعين بعواطفهم تجاه الاقتصاد الطبيعي الذي انقضى إلى غير رجعة. يستحيل على المرء أن يعيش في المجتمع الحديث بدون بيع، وكل ما يعيق تطور الاقتصاد البضاعي لا يؤدي سوى إلى مفاقمة أوضاع المنتجين أنفسهم. ويقول ماركس، متحدثا عن الفلاحين، «ان مساوئ نمط الانتاج الرأسمالي… تتطابق بالتالي هنا مع المساوئ الناجمة عن التطور المتفاوت لنمط الانتاج الرأسمالي نفسه. ذلك أن الفلاح يتحول إلى تاجر وصناعي دون ان تتوافر الظروف التي تمكنه من ان ينتج منتجاته بما هي بضائع» (رأس المال، المجلد 3، الجزء 1، ص 346).
ولا بد من ان نلاحظ هنا أن المعطيات عن موازنات الاسر الفلاحية تدحض كليا الرأي الذي لا يزال شائعا حول الدور الهام الذي تلعبه الضرائب في تطور الانتاج البضاعي. مما لا شك فيه أن الرسوم البدَلية [9] والضرائب كانت ذات مرة عاملا هاما في تطور التبادل. أما الآن، وبعد رسوخ الاقتصاد البضاعي، فالأهمية المحققة للضرائب امست ثانوية. والمقارنة بين ما ينفقه الفلاح على الضرائب والرسوم وبين إجمالي نفقاته النقدية يعطينا نسبة قدرها 15.8 بالمئة (أما بالنسبة للفئات المختلفة، فهي كما يلي: الفئة (أ) 24.8 بالمئة، (ب) 21.9 بالمئة، (ج) 19.3 بالمئة، (د) 18.8 بالمئة، (هـ) 15.4 بالمئة، (و) 9.0 بالمئة). ومن هنا فإن الحد الاقصى من الانفاق على الضرائب لا يزيد عن ثلث (3/1) الانفاق النقدي الباقي الذي يقع على الفلاح حكما بسبب الظروف الحالية للاقتصاد الاجتماعي. غير أننا إذا نظرنا إلى دور الضرائب، ليس بالقياس لتطور التبادل، وإنما في علاقتها بالمدخول، فسوف نجدها مرتفعة. وليس أدل على مدى رزوح تقاليد فترة ما قبل الإصلاح على فلاحنا المعاصر من وجود الضرائب التي تستوعب 7/1 من اجمالي انفاق المزارع الصغير، أو حتى عامل المزرعة المحاصص. وبالإضافة إلى ذلك فان توزيع الضرائب داخل المشاعة متفاوت إلى حد مثير للاستغراب: فكلما ارتفع مستوى معيشة الفلاح، تقلصت الحصة من مصروفه العام التي يدفعها على شكل ضرائب. فالفلاح بدون أحصنة يدفع، بالقياس إلى دخله، ما يعادل ثلاثة اضعاف تقريبا مما يدفعه الفلاح ذو الأحصنة العديدة… وإذا كنا نتحدث عن توزيع للضرائب داخل المشاعة، فلأننا إذا احتسبنا الضرائب والرسوم للدسياتين [10] الواحد من أراضي المحاصصة، فسوف نجدها متساوية تقريبا. وبعد كل ما ورد حتى الآن، فان هذا التفاوت لا يجوز أن يثير دهشتنا. انه أمر حتمي في المشاعة، ما دامت محتفظة بطابعها الاقطاعي القسري. وكما هو معلوم، فالفلاحون يشاركون في دفع كافة الضرائب حسب الأراضي قيد التصرف: فالمشاركة في الأرض والمشاركة في دفع الضرائب تذوبان في ذهن الفلاح في مفهوم واحد: «النفَس» أو الشخص [11] . وكما سبق أن رأينا، فتمايز الفلاحين يؤدي إلى تقليص دور أراضي المحاصصة في طرفَي الريف المعاصر. وفي ظروف كهذه، يصبح من الطبيعي ان يؤدي توزيع الضرائب حسب اراضي المحاصصة قيد التصرف (وهذا أمر لا ينفصم عن الطابع القسري للمشاعة الريفية) إلى نقل كل ثقل الضرائب من الفلاحين الميسورين إلى كاهل الفلاحين الفقراء. وهكذا، فإن المشاعية (أي نظام المسؤولية الجماعية [12] المقرون بتحريم رفض الأرض) يزداد ضررها بالنسبة للفلاحين الفقراء [13] .
(ب) ننتقل الآن إلى وصف الزراعة الفلاحية (…) [14]
انها لمعطيات بليغة حقا. اذ هي تبين بشكل فاقع مدى البؤس المدقع لـ«مزرعة» الفلاح بدون حصان والفلاح ذي الحصان الواحد أيضا، كما تبيّن مدى خطل النهج المألوف في دمج هاتين الفئتين من الفلاحين مع القلة من الفلاحين الاقوياء الذين ينفقون مئات الروبلات على مزارعهم، اضافة لكونهم قادرين على تحسين تجهيزاتهم وتطوير أدواتهم، واستخدام «الشغيلة» و«شراء» الاراضي على نطاق واسع، واستئجار الأراضي بـ 50 و100 بل و200 روبل سنويا.
وجدير بالملاحظة، في هذا الصدد، ان الارتفاع النسبي في نفقات الفلاح بدون أحصنة على «الشغيلة والأعمال بالقطعة» يجد تفسيره على الأرجح في ان الاحصائيين يخلطون بين أمرين لا يجوز الخلط بينهما: العامل الذي يشتغل بأدوات رب العمل، اي استخدام عامل زراعي أو مياوم، وبين استخدام فلاح مجاور يستعمل الادوات التي يملكها هو لفلاحة ارض مستخدمه. ينبغي التمييز القاطع بين هذين النمطين من «الاستخدام» المتعاكسين من حيث الدلالة… [15]
ننتقل الآن لدراسة المعطيات حول المداخيل المتأتية من الزراعة (…)
أول ما يثير الانتباه في هذا الجدول هو الاستثناء الفاقع التالي: الانخفاض الهائل في نسبة الدخل النقدي من الزراعة بالنسبة للفئة العليا، رغم انها تستثمر اكبر مساحة من الأراضي. وهكذا يبدو أن الزراعة الواسعة النطاق هي، في معظمها، قائمة على الاقتصاد الطبيعي. ومن المثير فعلا أن نعتمد المزيد من التدقيق في هذا الاستثناء الظاهر الذي يلقي الضوء الكاشف على مسألة بالغة الاهمية هي مسألة الصلة بين الزراعة وبين «الصناعات» ذات الطابع المقاولاتي. وقد اتضح لنا ان مثل هذه الصناعات تحتل موقعا اساسيا في موازنات الفلاحين المالكين لعدة أحصنة. فانطلاقا من المعطيات قيد التحليل، يمكن القول أن أبرز مميزات البرجوازية الريفية في تلك المناطق هو ميلها لدمج المنشآت الزراعية مع المنشآت التجارية والصناعية. وليس من العسير أن نتبين، أقلا، انه من الخطأ ان نقارن هذا النمط من المزارعين مع الزرّاع العاديين، وثانيا، ان الزراعة، في مثل هذه الحالات، ليست اقتصادا طبيعيا إلا من حيث المظهر. فعندا تندمج الزراعة بالمعالجة التقنية للمنتوج الزراعي (طحن القمح، عصر الزيتون، استخراج النشأ من البطاطا، التقطير، الخ.)، فان الدخل النقدي المتأتي من مثل هذه النشاطات يمكن تصنيفه كدخل من منشآت صناعية اكثر منه دخلا من الزراعة. والواقع أن مثل هذه الزراعة لن تكون زراعة طيبيعة، بل زراعة تجارية. والقول ذاته ينطبق على حالة المزرعة حيث يجري استهلاك الحصة الاكبر من المنتوج الزراعي عينيا من أجل إعالة العمال الزراعيين او كعلَف للاحصنة المستخدمة في اعمال صناعية (كنقل البريد مثلا). ان مزرعة من هذا النوع تنتمي إلى الفئة الفلاحية العليا (… أسرة من 18 نسمة، 4 أفراد عاملين، 5 عمال زراعيين، 20 حصان –الدخل من الزراعة: 1294 روبلا، معظمه عيني، والدخل من المنشآت الصناعية 2675 روبلا. فتصوروا ان مثل هذه «المزرعة الفلاحية القائمة على الاقتصاد الرزاعي» يجري دمجها مع مزارع الفلاحين بدون احصنة أو ذوي الحصان الواحد من اجل استخراج «معدل وسطي». ان هذا المثال يؤكد لنا، مرة ثانية، مدى أهمية الدمج بين التصنيف وفق درجة ونوع النشاط الزراعي وبين التصنيف وفق درجة ونوع النشاط «الصناعي».
(ج) لننتقل الآن إلى دراسة المعطيات عن مستويات معيشة الفلاحين…
يتبين من هذا الجدول [16] كم كنا على حق عندما صنَّفنا الفلاحين بدون أحصنة والفلاحين ذوي الحصان الواحد في صنف واحد، في مقابل فئات الفلاحين الآخرين. ذلك ان الصفة المميزة لهذه الفئة من الفلاحين هي عدم كفاية الغذاء ورداءة نوعيته (البطاطس). ويبدو ان غذاء الفلاح ذي الحصان الواحد هو، من بعض النواحي، ادنى مستوى من غذاء الفلاح بدون أحصنة. وهكذا فـ«المعدل الوسطي» العام حتى حول هذه المسألة وهمي كليا، لأن الحالة الغذائية الجيدة للفلاحين الميسورين تحجب سوء التغذية لدى اكثرية الفلاحين، في الوقت الذي يستهلك فيه الاولون ضعفا ونصف المنتجات الزراعية وثلاثة أضعاف اللحوم التي يستهلكها الفلاحون الفقراء.
من أجل مقارنة باقي المعطيات الاحصائية حول غذاء الفلاحين، لا بد من احتساب المنتجات وفق قيمتها بالروبلات…
وهكذا فالمعطيات العامة عن غذاء الفلاحين تثبت ما أكدناه حتى الآن. انها تبرز ثلاث فئات فلاحية بوضوح: فئة دنيا (أسر بلا احصنة وبحصان واحد)، الفئة المتوسطة (أسر بحصانين وبثلاثة) والفئة الثالثة التي يبلغ مستوى غذائها ضعفي مستوى الفئة والعليا. غير أن صيغة «المعدل الوسطي» تمحو الفئتين الدنيا والعليا. ثم ان الانفاق النقدي على الغذاء هو الأعلى، بالمطلق ونسبيا، في الطرفين –أي لدى البروليتاريين الريفيين والبرجوازية الريفية. فالأولون يشترون اكثر لكنهم يستهلكون أقل من الفلاحين المتوسطين، الذين يشترون المنتجات الزراعية الاساسية فقط، تلك التي يشكون نقصا منها. أما الآخرون (البرجوازيون) فإنهم يشترون اكثر لأنهم يستهلكون أكثر، اضافة لكونهم يزيدون من استهلاكهم من المنتجات غير الزراعية. أما المقارنة بين هاتين الفئتين في أعلى وأسفل الهرم، فإنها التي ترينا بوضوح كيف تتكون سوق داخلية لمواد الاستهلاك الشخصي في بلد رأسمالي.
ويتبين من هذه المعطيات انقسام الفلاحين (على أساس مستويات المعيشة) إلى ثلاث فئات مختلفة. وها نحن أيضا أمام هذه الخاصية المثيرة للاهتمام: ان الحصة النقدية من الانفاق على كل الاستهلاك الشخصي هي أعلى في الفئات الدنيا (ان نصف النفقات في الفئة (أ) هي نفقات نقدية)، في حين أن الانفاق النقدي، في الفئات العليا، لا يعرف زيادة ملموسة، ويبقى في حدود الثلث فقط. فكيف يمكننا التوفيق بين هذا وبين ما اثبتناه أعلاه من ان النسبة المئوية للإنفاق النقدي ترتفع عموما في فئات الطرفين الادنى والأقصى؟ من البديهي القول أن الانفاق النقدي في الفئة العليا يتم على الاستهلاك الانتاجي (نفقات الزراعة) بينما انفاق الفئات الدنيا يتم على الاستهلاك الشخصي (…)
وهكذا فإن تحول الفلاحين إلى بروليتاريا ريفية يؤسس سوقا للسلع الاستهلاكية أساسا، في حين ان تحولهم إلى برجوازية ريفية يؤسس سوقا للسلع الانتاجية أساسا. وبعبارة أخرى، فإننا نرى بين الفئات الدنيا من الفلاحين ان قوة العمل تتحول إلى سلعة، في حين نشهد، في الفئات العليا، تحول وسائل الانتاج إلى راس مال. وينتج عن هذين التحولين عملية تكوّن سوق داخلية، هذه العملية التي رصدتها النظرية بالنسبة لكافة البلدان الرأسمالية عموما. ولهذا السبب، فإن فريدريك انغلز، حين كتب عن مجاعة العام 1891 [17] ، قال انها تعني تكوين سوق داخلية للرأسمالية –وهي مقولة عجز الشعبويون عن فهمها، وهم الذين يرون في خراب الفلاحين مجرد تقهقر لـ«الانتاج الشعبي»، وليس تحولا للاقتصاد البطريركي إلى اقتصاد رأسمالي.
ولقد وضع السيد دانيالسون كتابا كاملا عن السوق الداخلية دون أن يلاحظ عملية تكوّن سوق داخلية بفضل تمايز الفلاحين. وهو يعالج هذه المسألة في مقالته «كيف نفسر زيادة واردات الدولة عندنا؟» (نوفوي سلوفا –الكلمة الجديدة-، العدد 5، شباط/فبراير 1896) وفق المحاججة التالية: ان الجداول الاحصائية عن مدخول العامل الأمريكي ترينا انه بقدر ما ينخفض المدخول، بقدر ما يرتفع الانفاق النسبي على الغذاء. وبالتالي فإن انخفاض استهلاك الطعام يؤدي إلى انخفاض في استهلاك المواد الاخرى. ان روسيا تشهد انخفاضا في استهلاك الخبز والفودكا، ينجم عن ذلك انخفاض في استهلاك الخبز والفودكا، ينجم عن ذلك انخفاض في استهلاك المواد الأخرى، وبالتالي فإن زيادة استهلاك «الشريحة» الميسورة من الفلاحين (ص 70) يعوض عنها الانخفاض في استهلاك الجماهير.
تنطوي هذه المحاججة على ثلاثة أخطاء. أولها، ان السيد دانيالسون يقفز عن المسألة الفعلية برمتها في استبداله العالم بالفلاح، لأن موضوع البحث هو عملية تكوّن العمال وأرباب العمل. ثانيا، باستبداله العامل بالفلاح، يختزل السيد دنيالسون كل الاستهلاك بالاستهلاك الشخصي ويتغافل عن الاستهلاك الإنتاجي، مثلما يتغافل عن سوق وسائل الانتاج. ثالثا، يتناسى السيد دانيالسون ان عملية تمايز الفلاحين هي في الوقت ذاته عملية استبدال الاقتصاد الطبيعي بالاقتصاد البضاعي، وأن السوق لا تتكون بالتالي بفعل زيادة الاستهلاك، وإنما بتحويل الاستهلاك العيني (وإن يكن أوفر) إلى استهلاك نقدي مدفوع (وإن يكن اقل وفرة من الأول). وقد شاهدنا للتو كيف ان الفلاحين بدون احصنة يستهلكون أقل، لكنهم يشترون من مواد الاستهلاك الشخصي أكثر مما يشتريه الفلاحون المتوسطون. انهم يزدادون فقرا، لكنهم، في الوقت ذاته، يستحصلون على مال اوفر وينفقون مالا اوفر –وكلا العمليتين ضروري للرأسمالية.
(…)
بناء على كل ما ورد، فإن الخلاصة العامة المستمدة من تحليل المعطيات الاحصائية عن الفئة الدنيا من الفلاحين هي كالتالي: ان هذه الفئة، من حيث علاقاتها بالفئات الأخرى، التي تتولى طردها من مصاف الفلاحين، ومن حيث مستوى الزراعة الذي تمارسه، الذي يغطي جزءا فقط من نفقات إعالة الأسرة، وأيضا من حيث مصدر رزقها –معاشها- (القائم على بيع قوة عملها)، واخيرا من حيث مستوى معيشتها، ينبغي تصنيفها ضمن فئة العمال الزراعيين المحاصصين او العمال المياومين.
(…)
1-ان الوضع الاجتماعي-الاقتصادي الذي يعيشه الفلاحون الروس المعاصرون هو الاقتصاد البضاعي. حتى في الحزام الزراعي الأوسط (الذي هو اكثر تخلفا في هذا المجال بالمقارنة مع المناطق الحدودية الشرقية أو المقاطعات الصناعية)، نجد أن الفلاح يخضع كليا للسوق التي يعتمد عليها بالنسبة لاستهلاكه الشخصي ولتصريف منتجاته، ناهيك عن اعتماده عليها في دفع ضرائبه.
2-ان نظام العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية السائد بين الفلاحين (نظام المشاعة الزراعية القروية) يؤكد وجود كافة التناقضات الكامنة في كل اقتصاد بضاعي وكل نظام رأسمالي: المنافسة، النضال من أجل الاستقلال الاقتصادي، الاستيلاء على الأراضي (القابلة للشراء او التأجير)، تمركز الانتاج بيد القلة، تقهقر اغلبية الفلاحين إلى مصاف البروليتاريا، واستغلال هذه القلة لهم عن طريق رأس المال التجاري واستخدام العمال الزراعيين.
ليست توجد ظاهرة اقتصادية واحدة في اوساط الفلاحين إلا وتحمل هذا الشكل المتناقض الذي يميز النظام الرأسمالي –عنينا الصراع والتضاد بين المصالح، والفائدة للبعض التي تتحول إلى مصدر ضرر للبعض الآخر. ذلك هو الحال بالنسبة لاستئجار الأرض وشرائها، وبالنسبة لـ«الصناعات» على اختلاف وتناقض أنواعها، كما هو الحال بالنسبة للتقدم التقني في الزراعة.
اننا نعلق أهمية قصوى على هذه الخلاصة ليس فقط بالنسبة للرأسمالية في روسيا، وإنما أيضا بالنسبة للعقيدة الشعبوية عموما. فان هذه التناقضات هي التي تكشف لنا –كشفا واضحا وقاطعا لا يسمح النقض- ان نظام العلاقات الاقتصادية في القرية المشاعية ليس شكلا اقتصاديا مميزا («الانتاج الشعبي» او ما شابه) وإنما هو نظام من العلاقات الاقتصادية من النمط البرجوازي الصغير لا اكثر ولا اقل. وعلى الرغم من النظريات التي سادت عندنا على امتداد نصف القرن الأخير، فان فلاحي المشاعات الروية ليسوا مناهضين للرأسمالية، وإنما هم بالعكس أعمق وأرسخ ركيزة من ركائز هذه الرأسمالية. نقول انهم الركيزة الأعمق للرأسمالية لأننا نجد في القرية المشاعية نفسها، بعيدا عن كل التأثيرات «المصطنعة» وعلى الرغم من المؤسسات التي تعرقل نمو الرأسمالية، نجد التكوّن المتواصل لعناصر الرأسمالية داخل المشاعة . ثم نقول ان فلاحي المشاعات الروسية هم الركيزة الأرسخ للرأسمالية، لأن الزراعة عموما، والفلاحين خصوصا، هي الأكثر انصياعا لتقاليد الماضي الغابر، تقاليد نمط الحياة البطريركية (العشائرية)، وبالتالي فان الآثار التحويلية للرأسمالية (اي نمو قوى الانتاج وتحوّل العلاقات الاجتماعية وغيرهما) لا تظهر هنا إلا ببطء شديد وتدرج مديد [18] .
3-ان مجموع التناقضات الاقتصادية بين الفلاحين هو ما نميه بعملية تمايز الفلاحين. والواقع ان الفلاحين انفسهم يصيبون كبد الحقيقة عندما يصفون هذه العملية بعبارة «فقدان الهوية الفلاحية». وتؤدي هذه العملية إلى الاضمحلال الكامل للنمط القديم من الفلاحين البطريركيين ونشوء أنماط جديدة من السكان الريفيين.
قبل ان نصل إلى وصف هذه الأنماط، لنلاحظ ما يلي: ان الاشارة إلى هذه العملية متوافرة في أدبياتنا منذ فترة طويلة وقد تكررت في مناسبات عديدة (…) لكن تلك الاشارات منهجية. ولذلك، فلا زلنا حتى يومنا نشكو نقصا فادحا في المعلومات عن هذه الظاهرة، على الرغم من الثروة المتضمنة في احصائيات الزييمستوفات من بيت إلى بيت. ويرتبط بذلك كون أكثرية الكتاب الذين عالجوا هذه القضية ينظرون إلى تقهقر الفلاحين على أنه يوازي فقط التفاوت في الملكية بينهم، أي على أنه مجرد «تمايز»، إذا شئنا استخدام المصطلح المحبَّب «للشعبويين» عموما وللسيد كاريشيف خصوصا. (انظر كتابه عن الايجارات ومقالاته في «روسكويي بوغاتسوفا»). مما لا شك فيه ان نمو التفاوت في الملكية هو منطلق العملية كلها. لكن العملية بحد ذاتها غير قابلة للاختزال إلى مجرد «التمايز» في الملكية. فالحقيقة ان النمط القديم من الفلاحين لا يتعرضون فقط إلى مجرد «عملية تمايز»، وإنما هم ينقرضون أيضا، وتحل محلهم أنماط جديدة من سكان الريف تشكل ركيزة لمجتمع يسوده الاقتصاد البضاعي والإنتاج الرأسمالي. وهذه الأنماط الجديدة هي البرجوازية الريفية (المكونة أساسا من البرجوازية الصغيرة) والبروليتاريا الريفية –أي طبقة منتجي السلع في الزراعة وطبقة الاجراء الزراعيين.
وانه لذو دلالة عميقة ان التحليل النظري البحت لعملية تكوّن الرأسمالية الزراعية يبين ان تمايز المنتجين الصغار يشكل عاملا هاما من عوامل تلك العملية. واننا نستذكر هنا واحدا من أكثر الفصول اثارة في الجزء الثالث من رأس المال، تحديدا الفصل 47 بعنوان «ولادة الريع العقاري الرأسمالي»، حيث يعتبر ماركس ان نقطة الانطلاق في عملية التكوّن هذه هي العمل-الريع-«حيث يستخدم المنتج المباشر أدوات العمل (المحراث، حيوانات الجر، الخ.) التي يملكها فعلا أو قانونيا، وحيث يفلح هذا الأرض التي يملكها هو أيضا فعلا خلال قسم من الأسبوع، ثم يعمل في الايام الباقية في مزرعة السيد الاقطاعي دون أن يتلقى منه أي مقابل…» (رأس المال، الكتاب الثالث، الجزء الثاني، ص 323).
وأما الشكل الآخر للريع فهو الريع العيني حيث ينتج كامل منتوجه على الأرض التي يستثمرها هو نفسه، ويقدم للمالك كل فائض الإنتاج عينيا. هنا نجد أن المنتج يتمتع باستقلال أوفر، ويحصل بواسطة عمله على فائض معين يزيد من كمية الإنتاج التي تستخدم لسد حاجاته الضرورية. «وبالطريقة ذاتها، فان هذا الشكل» من أشكال الريع «يؤدي إلى تمايزات اكبر في الموقع الاقتصادي للمنتجين المباشرين الافراد. ويمكن القول، أولا، أن امكانية ظهور مثل هذا التمايز باتت متوافرة، كما هي متوافرة إمكانية امتلاك المنتج المباشر للوسائل اللازمة لاستقلال سائر الشغيلة بطريقة مباشرة» (المصدر ذاته، ص 329). ومن هنا، فرغم استمرار سيادة الاقتصاد الطبيعي، تظهر بذور تمايز الفلاحين مع اول بوادر تحرر واستقلالية يحرزها الفلاحون التابعون. لكن هذه البذور لا تنمو إلا في ظل الشكل الثاني من اشكال الريع، أعني الريع النقدي الذي هو مجرد تحول في شكل الريع العيني. هنا، لا يقدم المنتج المباشر لمالك الأرض حصة من المحصول، وإنما يدفع له ثمن هذا المحصول [19] . إلا أن أساس هذا النمط من الريع يبقى هو نفسه: المنتج المباشر لا يزال هو الحائز التقليدي للأرض، لكن «أساس هذا النمط من الريع… يسير نحو الاضمحلال» (ص 330). فالريع النقدي يفترض سلفا نموا ملحوظا للتجارة والصناعة المدينية والإنتاج البضاعي عموما، أي انه يفترض بالتالي وجود التداول النقدي» (ص 331). هنا تتحول العلاقة القانونية التقليدية بين الفلاح التابع ومالك الأرض إلى علاقة تعاقدية ونقدية صرفة. وهذا ما يؤدي إلى مصادرة ملكيات الفلاحين التقليديين من جهة، مثلما يؤدي، من جهة أخرى، إلى شراء الفلاح لأرضه وحريته بالمال: «ان تحول الريع العيني إلى ريع نقدي تصاحبه، بل تسبقه، ولادة طبقة من العمال المياومين المحرومين من الملكية العقارية، الذين يؤجرون انفسهم لقاء المال. وخلال عملية تكونهم، اي عندما يكون ظهور هذه الطبقة الجديدة لا يزال متقطعا، تنمو بالضرورة بين الفلاحين الميسورين، المحكومين بدفع الريع، عادة استغلال العمال الزراعيين المأجورين لحاسبهم الخاص… وبذلك يمتلك هؤلاء تدريجيا القدرة على مراكمة ثروة معينة فيتحولون هم انفسهم إلى رأسماليين. أي أن حائزي الأرض الذين كانوا سابقا يعملون بأنفسهم باتوا يشكلون مشتلا للمستأجرين الرأسماليين، الذين يتقرر نموهم وفق منطق التطور العام للإنتاج الرأسمالي الذي يتجاوز حدود الريف» (رأس المال، الجزء الثالث، ص 232).
4)ان تمايز الفلاحين، الذي ينمي قطبي الفلاحين على حساب «الفلاحين» المتوسطين، يولِّد نمطين جديدين من السكان الريفيين. والسمة المشتركة لكلا النمطين هي الطابع البضاعي والنقدي للاقتصادي الذي يضمهما. أول نمط جديد هو البرجوازية الريفية، أي فئة الفلاحين الميسورين. وهي تشمل المزارعين المستقلين الذين يتعاطون الزراعة التجارية بأشكالها المختلفة (وسوف نعالج أبرز هذه الأشكال في الفصل الرابع)، مثلما تشمل مالكي المؤسسات التجارية والصناعية، وأصحاب المشاريع التجارية، الخ. ان اندماج الزراعة التجارية بالمؤسسات التجارية والصناعية هو نمط «اندماج الزراعة بالصناعات» الذي تتميز به هذه الفئة من الفلاحين. وتنشأ طبقة المزارعين الرأسماليين من صفوف هؤلاء الفلاحين الميسورين، لأن استئجار الأرض لغرض بيع الحبوب (في الحزام الزراعي) يلعب دورا أساسيا في مزارعهم، وغالبا ما يكون أهم من الدور الذي يلعبه التحصيص. ان حجم المزرعة، في معظم الحالات، يتطلب قوة عمل أكبر من التي توفرها العائلة. لذلك فإن تكوّن فئة من العمال الزراعيين ومن المياومين تحديدا، هو شرط ضروري لوجود الفلاحين الميسورين. والنقد الاضافي الذي يحصل عليه هؤلاء الفلاحون، على شكل مدخول صافٍ، إما ان يتوجه نحو العمليات التجارية والربوية، البالغة التطور في مقاطعاتنا الريفية، وأما أن تتوافر له ظروف مؤاتية، فيجري استثماره في شراء الارض وإدخال التحسينات على المزرعة، الخ. بكلمة، اننا هنا أمام فئة من الزراعيين الصغار. فمن الناحية العددية، تشكل البرجوازية الفلاحية اقلية صغيرة بين الفلاحين، ولعلها لا تتجاوز خمس اجمالي عدد الأسر الفلاحية (أي ما يعادل تقريبا ثلاثة اعشار اجمالي عدد السكان) على الرغم من أن النسبة تتفاوت بالطبع بين مقاطعة واخرى. على أن البرجوازية الفلاحية هي الفئة الطاغية بدون أدنى شك، من حيث وزنها في اجمالي الزراعة الفلاحية، وفي اجمالي وسائل الانتاج التي يملكها الفلاحون، أو في اجمالي المحصول الذي ينتجه هؤلاء. ان البرجوازية الفلاحية هي فئة الاسياد في الريف المعاصر.
5)النمط الآخر هو البروليتاريا الريفية، طبقة العمال المأجورين المحاصصين. وهذا يشمل الفلاحين الفقراء، بمن فيهم المحرومين كليا من الأرض. على أن الممثل النموذجي للبروليتاريا الريفية الروسية هو العامل الزراعي المحاصص والمياوم والعامل غير الماهر وعامل البناء وسواهم من العمال المحاصصين. الفلاحة القليلة الأهمية، المزرعة الخربة كليا (وهذا يدل عليه بنوع خاص تأجير الأرض)، العجز عن البقاء على قيد الحياة بدون بيع قوة العمل («صناعات» الفلاحين الفقراء)، المستوى المعيشي الشديد الانخفاض (وربما كان اكثر انخفاضا من مستوى العامل المحروم من حصة أرض)- تلك هي السمات المميزة لهذه الفئة من الناس. ولا بد من القول أن ما لا يقل عن نصف مجموع الأسر الفلاحية (أي حوالي 10/4 من السكان) ينتمون إلى البروليتاريا الريفية، أي جميع الذين لا يملكون أحصنة والقسم الأكبر من الذين يملكون حصانا واحدا. (وهذا بالطبع حكم تقديري اجمالي وتقريبي، وهو بالتالي عرضة لتعديلات مهمة إلى هذا القدر أو ذاك حسب المناطق المختلفة والظروف المحلية). أما الاعتبارات التي تدفعنا للاعتقاد بأن مثل هذه النسبة الهامة من الفلاحين باتت تنتمي إلى البروليتاريا الريفية، فقد سبق عرضها أعلاه. غير أنه تجدر الاضافة ان أدبياتنا غالبا ما تنطوي على فهم جامد للمقولة النظرية التي تقول أن الرأسمالية تتطلب وجود العامل «الحر»، المحروم من الأرض. ان هذه المقولة صحيحة كليا بصفتها تعيِّن اتجاها رئيسيا، غير أن الرأسمالية تتغلغل في الزراعة ببطء شديد وبأشكال بالغة التنوع. ان تحصيص الأرض للعامل الزراعي غالبا ما يكون لمصلحة أرباب العمل الريفيين أنفسهم، ولهذا السبب نجد أن العامل الزراعي المحاصص نمط موجود في كل البلدان الرأسمالية. ويتخذ هذا النمط أشكالا مختلفة باختلاف البلدان: فساكن الكوخ الانكليزي ليس هو الفلاح المالك الصغير في مقاطعات فرنسا او «الراين». فكل من هؤلاء يحمل آثار نظام زراعي مخصوص، وتاريخا مميزا من العلاقات الزراعية –على أن هذا لا يمنع الاقتصادي من تصنيفهم جميعا تحت صنف واحد هو البروليتاري الزراعي. والواقع ان الاساس القانوني لحق هذا البروليتاريا في قطعة الأرض لا يملك أدنى تأثير على مثل هذا التصنيف. فالأرض إذا كانت ملكية كاملة له (بصفته مالكا صغيرا) أو إذا كان يتمتع بحق استخدام هذه الأرض الذي يمنحه اياه مالك الأرض أو سيد القصر [الألماني] أو، أخيرا، إذا كان يتمتع بحق حيازة الأرض بصفته عضوا في قرية مشاعية في روسيا الكبرى –لا يغير في الأمر شيئا. وإننا، في تصنيفنا الفلاحين الفقراء في فئة البروليتاريا لا نضيف جديدا. فلقد سبق للعديد من الكتَّاب ان استخدموا هذا المصطلح تكرارا. وحدهم الاقتصاديون الشعبويون يصرون على الحديث عن الفلاحين بشكل عام، بصفتهم فئة مناهضة للرأسمالية، ويغمضون أعينهم أمام حقيقة كون هذه الجموع من «الفلاحين» باتت تحتل موقعا محددا في النظام العام للإنتاج الرأسمالي. وهذا الموقع هو موقع العمال المأجورين في الزراعة والصناعة (…).
6)ان حلقة الوصل بين مختلف هذه الأنماط «الفلاحية» لفترة «ما بعد الإصلاح» هي الفلاحون المتوسطون، ويتميزون بالمستوى الأكثر انخفاضا لتطور الانتاج البضاعي عندهم. فالعمل الزراعي المستقل لهذه الفئة من الفلاحين يكفي لإعالتهم في افضل السنوات فقط وفي ظل ظروف ملائمة للغاية. ولهذا نجد ان حالة الفلاح المتوسط جد متقلقلة. والفلاح المتوسط لا يسد جوعه، في معظم الحالات، إلا باللجوء إلى الاستدانة، مسددا ديونه بواسطة العمل-الخدمة، الخ.، أو بالسعي وراء عمل «إضافي» على الهامش، يقوم جزئيا أيضا على بيع قوة عمله، إلى آخره. ان كل موسم فاشل يقذف بجماهير جديدة من الفلاحين المتوسطين إلى مصاف البروليتاريا. اما في علاقاتها الاجتماعية، فان هذه الفئة تتراوح بين الفئة العليا، التي تنجذب اليها مع أنه لا تدخلها إلا قلة ضئيلة من المحظوظين، وبين الفئة الدنيا التي يدفعهم نحوها كل مسار التطور الاجتماعي. ولقد رأينا سابقا ان البرجوازية الزراعية تطرد لا الفئة الدنيا وحدها، وإنما الفئة الوسطى أيضا من الفلاحين. وهكذا تتم عملية هي من مميزات الاقتصاد الرأسمالي حيث يجري تكنيس الفئات الوسيطة، بينما تتعزز الاطراف –هذه هي بالضبط عملية «نزع الهوية الفلاحية».
7)ان تمايز الفلاحين ينشئ سوقا داخلية للرأسمالية. وتتكون هذه السوق، لدى الفئة الدنيا، بفضل المواد الاستهلاكية (انها سوق الاستهلاك الشخصي). فالبروليتاري الزراعي يستهلك أقل من الفلاح المتوسط ثم انه يستهلك طعاما من نوعية أردأ (البطاطا بدلا عن الخبز، الخ.) لكنه يشتري اكثر من هذا الفلاح المتوسط. ان نشوء البرجوازية الزراعية وتطورها يكوّن سوقا بمعنيَين: اولا وأساسا بفضل وسائل الانتاج (سوق الانتاج الاستهلاكي) طالما ان الفلاح الميسور يسعى أن يحوّل إلى رأس مال وسائل الانتاج التي «يجمعها» من كل من ملاّك الأرض الذين «يمرون بظروف صعبة» ومن الفلاحين المنكوبين. ثانيا، تتكون السوق هنا أيضا بفضل الاستهلاك الشخصي نظرا لزيادة حاجات الفئات الأوفر يسرا من الفلاحين [20] .
8)بصدد السؤال ما إِذا كان تمايز الفلاحين ظاهرة متطورة، وإذا كان الأمر كذلك فبأية وتيرة –لسنا نملك الاحصائيات الدقيقة قياسا إلى المعلومات التي توفرها الجداول المندمجة. ولا عجب في ذلك، لأنه، كما سبق القول، لم تبذل أية محاولة حتى الآن لدراسة المعطيات الاحصائية عن تمايز الفلاحين دراسة منهجية، واستبيان الاشكال التي تتخذها هذه العملية. غير أن كافة الاحصائيات العامة عن اقتصاديات مناطقنا الريفية تشير إلى وجود تمايز متواصل وسريع: يجهز الفلاحون أراضيهم ويؤجرونها، ويتزايد عدد الفلاحين الذين لا يملكون أحصنة، فيما يهرب «الفلاحون» إلى المدن، الخ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، «فالاتجاهات التقدمية في الزراعة الفلاحية» تواصل مسارها، «فالفلاحون» يشترون الأراضي، ويحسِّنون مزراعهم، ويدخلون المحاريث الحديدية، ويطورون المراعي وتربية ماشية اللبن، الخ. وقد بتنا نعلم الآن أي نوع من «الفلاحين» يساهم في كل من الوجهين المتعاكسين لهذه الظاهرة.
وبالاضافة لذلك، فان تطور حركة الهجرة يشكل حافزا جبارا لتمايز الفلاحين [21] ، وخاصة تمايز الفلاحين المتعاطين مباشرة بالزراعة. فمن المعروف ان هجرة الفلاحين تتم أساس من المقاطعات الزراعية (الهجرة من المقاطعات الصناعية بالكاد تستحق الذكر) وتحديدا من المقاطعات الوسطى الكثيفة السكان حيث يبلغ العمل – الخدمة ذروة تطوره (هذا العمل-الخدمة الذي يؤخر عملية التمايز). هذه هي النقطةِ الاولى. وأما النقطة الثانية فهي ان الفلاحين المتوسطي الحال هم الذين يغادرون مناطق الهجرة، فيما الفئات الموجودة في قمة الهرم وقاعدته هي التي تتشبث بالبقاء. وهكذا، فان الهجرة تسرّع من وتيرة تمايز الفلاحين في مناطق الهجرة وتحمل بذور التمايز إلى مناطق جديدة (العمل الزراعي المأجور للمستوطنين في سيبيريا في الفترة الأولى من حياتهم الجديدة…) (…)
9)كما هو معلوم، يلعب رأس المال التجاري والربوي دورا بالغ الأهمية في أريافنا. ولسنا نجد أية حاجة للإدلاء بالوقائع العديدة أو الإشارة إلى المصادر المتعلقة بهذه الظاهرة. فالوقائع معروفة وهي لا تمس موضوعنا مسا مباشرا. على أن السؤال الوحيد الذي يهمنا هو: ما علاقة رأس المال التجاري والربوي يتمايز الفلاحين؟ وهل من رابط يربط العلاقات القائمة بين مختلف الفئات الفلاحة المذكورة أعلاه بالعلاقات القائمة بين الفلاحين الدائنين والفلاحين المدينين؟ وهل ان الربا يحفز التمايز ام يعرقله؟
فلتؤكد أول الأمر كيف تطرح هذه المسألة على صعيد النظرية. كما هو معلوم، فان صاحب رأس المال، في تحليله للإنتاج الرأسمالي، اولى أهمية بالغة لرأس المال التجاري والربوي. وأما النقاط الرئيسية التي يثبتها ماركس فهي التالية:
1-ان رأس المال التجاري والربوي من جهة، ورأس المال الصناعي (أي رأس المال الموظف في الإنتاج، أكان الإنتاج زراعيا أم صناعيا)، من حهة ثانية، يمثلان نمطا واحدا من الظواهر الاقتصادية ويندرجان تحت الصيغة العامة التالية: شراء السلع في سبيل بيعها لقاء ربح. (رأس المال، المجلد 1، الجزء 2، الفصل الرابع، ص 148-149 خاصة من الطبعة الألمانية الثانية).
2-ان رأس المال التجاري والربوي سابقان تاريخيا دوما على نشوء رأس المال الصناعي. وهما، من الناحية المنطقية، الشرط الضروري لنشوء رأس المال الصناعي هذا. (رأس المال، المجلد 3، الجزء 1، ص 312-316). غير ان رأس المال التجاري أو الربوي لا يمثل الشرط الكافي لنشوء رأس المال الصناعي (أي لنشوء الانتاج الرأسمالي). لأن أيا منهما لا ينجح دوما في تحطيم نمط الانتاج السابق واستبداله بنمط الانتاج الرأسمالي؛ ذلك ان تكوّن هذا الأخير «يتوقف كليا على مستوى التطور التاريخي وعلى الظروف المحيطة» (المصدر ذاته، الجزء 2، ص 133).
(«ان مدى نجاحها [أي رأس المال التجاري والربوي] في القضاء على نمط الانتاج القديم يتوقف على صلابتها وعلى البنية الداخلية لكل منهما. أما مصير هذه العملية –أو بعبارة أخرى، الجواب على السؤال حول أي نمط انتاج جديد سيحل محل النمط القديم- فانه لا يتوقف على التجارة، وإنما على طبيعة نمط الانتاج السابق نفسه» (المصدر ذاته، المجلد 3، الجزء 1، ص 316).
3-ان التطور المستقل لرأس المال التجاري يتناسب عكسيا مع درجة تطور الانتاج الرأسمالي (المصدر ذاته، ص 312)؛ أي بقدر ما يتعاظم نمو رأس المال التجاري والربوي، بقدر ما تنخفض درجة نمو رأس المال الصناعي (وبالتالي، الإنتاج الصناعي) والعكس بالعكس.
من هنا، فحيث يتعلق الأمر بروسيا، يصبح السؤال المطلوب الاجابة عليه: هل ان رأس المال التجاري والربوي آخذ بالارتباط برأس المال الصناعي؟ هل ان التجارة والربا، في قضائهما على نمط الانتاج القديم، يؤديان إلى استبداله بنمط الانتاج الرأسمالي ام بنظام آخر؟ تلك هي أسئلة تتعلق بالواقع، أسئلة تنبغي الاجابة عليها فيما يتعلق بكافة أوجه الاقتصاد القومي لروسيا. أما بالنسبة إلى الزراعة الفلاحية فإن المعطيات التي راجعنا اعلاه تتضمن الجواب وهو جواب ايجابي على هذا السؤال. ان النظرة الشعبوية العادية التي تعتبر ان «الكولاك» [22] و«الموجيك المقدام» ليسا شكلين من ظاهرة اقتصادية واحدة، وإنما هما ظاهرتان منفصلتان متعارضتان، هي نظرة لا ترتكز إلى اي أساس. بل ان هذه النظرة هي واحدة من تلك الافكار الشعبوية المسبقة التي لم يحاول أحد أن يثبتها بتحليل للمعطيات الاقتصادية الدقيقة. ذلك ان هذه المعطيات تشير إلى العكس. فالفلاح عندما يستأجر العمال لتوسيع انتاجه او عندما يتاجر بالأرض (ولنتذكر الاحصائيات المثبتة أعلاه حول تأجير الأرض الواسع النطاق بين الأغنياء) أو يبيع في الحوانيت، وعندما يتاجر بالخيش والتبن والماشية، الخ.، أو بالمال (أي عندما يكون مرابيا) –ان الفلاح في كل هذه الحالات يمثل نمطا اقتصاديا واحدا، وعملياته تتلخص، في نهاية المطاف، بعلاقة اقتصادية واحدة. وبالإضافة إِلى ذلك، لا يقتصر دور راس المال في القرية المشاعية الروسية على الاسترقاق والربا. ان رأس المال يجري توظيفه في الإنتاج، وهذا ما يظهر في كون الفلاح الميسور يستثمر الاموال في تحسين مزرعته، وفي شراء أو استئجار الأرض، وفي الحصول على تجهيزات متطورة، وفي استئجار العمال، الخ.، ولا يستثمرها في المنشآت والمشاريع التجارية فقط. ولو ان رأس المال في أريافنا كان عاجزا عن خلق اي شيء غير الاسترقاق والربا، لما كنا استطعنا الاعتماد على المعطيات حول الانتاج لإثبات تمايز الفلاحين، وتكوين برجوازية ريفية وبروليتاريا زراعية، ولكان مجموع الفلاحين يمثلون نمطا متساويا من المزراعين المنكوبين بالفقر، لا يبرز بينهم إلا المرِابون، وذلك بقدر حيازتهم للمال وليس بقدر اتساع ومدى تنظيم الانتاج الزراعي. أخيرا، نستخلص من المعطيات المدروسِة أعلاه هذه الأطروحة الهامة التي تقول ان التطور المستقل لرأس المال التجاري والربوي في أريافنا يؤخر تمايز الفلاحين. وبقدر ما يتقدم تطور التجارة، رابطا الارياف بالمدن، قاضيا على الاسواق القروية البدائية وناسِفا لاحتكار الحانوتي القروي، بقدر ما يتسارع نمو اشكال من التسليف متطابقة مع المقاييس الأوروبية، وذلك على حساب مرابي القرية، بقدر ما يتسارع ويتعمق تقدم التمايز بين الفلاحين. وإذا برأس مال الفلاحين الميسورين يغادر التجارة الصغيرة والربا ويتدفق بغزارة إلى الانتاج، إلى حيث قد بدأ يتدفق أصلا.
10)هناك ظاهرة هامة في اقتصادنا الريفي تساهم بدورها في تأخير تمايز الفلاحين، وهي ترسبات اقتصاد السخرة، أي العمل-الخدمة. يرتكز العمل-الخدمة على دفع العمل عينيا، اي انه يرتكز إلى نمو ضعيف للاقتصاد البضاعي. كما يفترض العمل-الخدمة ويتطلب وجود الفلاح المتوسط، المحدود الدخل (وإلا فإنه يرفض استرقاق العمل-الخدمة) لكنه لم يصبح بروليتاريا (لان الاضطلاع بالعمل-الخدمة يفترض ان يملك الفلاح ادواته الزراعية، اي انه يفترض به ان يكون فلاحا «صحيحا»).
عندما قلنا أعلاه ان البرجوازية الزراعية هم أسياد الريف المعاصر، فقد استثنينا العوامل التي تؤخر التمايز: الاسترقاق، الربا، العمل-الخدمة، الخ. والواقع ان الاسياد الحقيقيين للريف المعاصر ليسوا غالبا ممثلي البرجوازية الرزاعية وإنما هم مرابو القرية وملاك الأراضي المجاورون. على انه يحق لنا كل الحق ان نستثني هؤلاء، وإلا تعذرت دراسة البنية الداخلية للعلاقات الاقتصادية بين الفلاحين. والملفت ان الشعبوي يستخدم هذا المنهج أيضا، إلا انه يتوقف في منتصف الطريق ولا ينتهي بتحليله إلى نهايته المنطقية. ففي معرض حديثه عن عبء الضرائب وسواها، في كتاب «مصير الرأسمالية»، يلاحظ السيد فورونتسوف انه نظرا لهذه الأسباب «تنعدم شروط الحياة الطبيعية (كذا!)» (ص 287) بالنسبة إِلى القرية المشاعية، «المير». ممتاز! لكن المسألة كلها تدور حول السؤال التالي: ما هي هذه «الظروف الطبيعية» التي لم تتوفر بعد في أريافنا؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب دراسة نظام العلاقات الاقتصادية داخل القرية المشاعية، بعد ان «ننفض عنها» -اذا جاز التعبير- ترسبات فترة ما قبل الاصلاح التي تفرض التعتيم على «الظروف الطبيعية للحياة» في أريافنا. ولو أن السيد فورونتسوف اضطلع بهذه المهمة لاكتشف ان هذا النظام من العلاقات القروية يثبت التمايز المطلق بين الفلاحين، مثلما يثبت انه بقدر ما يجري تكنيس الاسترقاق والربا والعمل-الخدمة تكنيسا كليا، بقدر ما تتعمق مسيرة تمايز الفلاحين. ولقد شاهدنا أعلاه، في ضوء احصائيات «الزييمستوفات» ان هذا التمايز بات حقيقة قائمة، وان الفلاحين قد انقموا نهائيا إلى فئات متناقضة.
[1].
يدرس لينين في هذا الفصل عملية «تمايز» الفلاحين في جوانبها المختلفة اعتمادا على المسوح الاحصائية
للزييمستوفات (أجهزة الحكم المحلية في الريف) للمزارع الفلاحية. وقد أجريت، لأغراض ضريبية أساسا، في الثمانينات من
القرن الماضي، ووفرت ثروة من المعطيات الاحصائية نشرت في جداول احصائية تشمل كافة المقاطعات والاقضية والنواحي. على
ان علماء الاحصاء في الزييمستوفات كانوا من الشعبويين. وهنا مصدر الانحياز، بل التزوير، في استخلاص النتائج. ولقد
درس لينين احصائيات الزييمستوفات دراسة شاملة ودقيقة ونقدية خلال اعماله التحضيرية لـ«تطور الرأسمالية في
روسيا»، مع كل ما يتطلبه ذلك من حسابات خاصة، وإعادة تجميع علمية للمعلومات، وتصحيحات من أجل دحض النظريات
الشعبوية التي ترتكز، بالدرجة الأولى، إلى احتساب «المعدلات الوسطية» حول أحوال الفلاحين. ويعكف لينين
على تبيان كيف ان هذا النهج في التحليل الاحصائي يحجب عملية «التمايز» الواسعة في أوساط الفلاحين،
الآخذة في توزيعهم إلى ثلاثة فئات طبقية: البروليتاريا، الفلاحون المتوسِطون (البرجوازية الصغيرة) والبرجوازية
الريفية، على رغم اصرار الاحصائيين الشعبويين على خلطهم جميعا في مقولة واحدة هي «الفلاحون».
يحلل لينين، في الاقسام الثمانية الأولى من هذا الفصل، احصائيات الزييمستوفات حول عدد من المقاطعات الروسية المنفردة.
لكنه، ابتداء، من القسم التاسع، يبدأ بتحليل اجمالي. ففي القسم التاسِع، نجده قد رسم جدولا احصائيا مركبا بناء على
احصائيات 21 قضاء في 7 مقاطعات، تضم 558570 مزرعة فلاحية و3523418 نسمة. وهو الجدول الذي يستخلص منه الخلاصات حول
تمايز فئات الفلاحين من حيث ملكية الأراضي وحيازتها واستئجارها وتأجيرها. أما القسمان 10 و11، فيعالجان توزع
الفلاحين إلى خمس فئات أساسية بناء على ملكيتهم لحيوانات الجر (الأحصنة) في هذه الحالة). ثم يعالج لينين في القسم 12
موازنات الأسر الفلاحية ويستخلص منها المؤشرات حول تمايز الفلاحين بناء على مقاييس استثمار رؤوس الأموال في الزراعة،
وملكية المنشآت التجارية والصناعية، ونمو الاستخدامات غير الزراعية في أوساط الفلاحين، والارتفاع المتزايد للحصة
النقدية من مدخول ومصروف الأسر الفلاحية مما يؤكد التكون المتسارع لسوق داخلية للرأسمالية في الريف الروسي. وإذا
كانت الخلاصات موزعة على هذه الأقسام، فان القسم 13 يتولى اعادة تجميعها وتقييمها.
قد لا توفر الاقسام 9-12 قراءة سهلة. لكنها ضرورية لإعطاء فكرة عن ضخامة ودقة الجهد التحليلي والدراسي الذي بذله
لينين في سجاله ضد تعميمات وتهويمات الشعبويين –المترجم-.
[2].
أراضي المحاصصة allotment land. الحصة هي قطعة الارض التي يزرعها الفلاح داخل المشاعة القروية (وتسمى في المشاعات
المشرقية «السهم» أيضا) والتي يعاد توزيعها دوريا، مع حرمان الفلاح حق رفض الحصة المخصصة له أو التصرف
بها (بيعها أو شراء أو تأجيرا، الخ). وبموجب اصلاح 1861، اعطي الفلاحون الحق النظري بملكية الأرض، لكن بشرط دفع
أموال الاعتاق للسلطة القيصرية (ومنها للملاك العقاريين). وفي ظل هذا الاصلاح تمكن هؤلاء الأخيرون من السِيطرة على
أفضل أراضي المحاصصة. ورغم أن اصلاح 1861 أعلن تحرير الأقنان، إلا أن الفلاحين ظلوا تابعين فعليا إلى حين الانتهاء
من تسديد اقساط الاعتاق (الممتدة على 49 سنة وبعائدات 6 بالمئة). وهكذا، فلم يخسر الفلاحون أفضل أراضيهم وحسب، بل
انهم اضطروا إلى دفع مئات ملايين الروبلات لشراء أراض هي لهم أصلا، وباعتراف القانون نفسه. وقد أدى ذلك إلى خراب
وافقار أكثرية الجماهير الفلاحية، فاتحا بذلك الطريق أمام عملية تطور الرأسمالية في الريف الروسِي.
وقد دُفعت هذه العملية اشواطا إلى أمام مع تشريعات سوتوليبين العام 1906 (ثم العام 1911) التي منحت الفلاح الحق في
الانسحاب من المشاعة القروية وتحويل حصته إلى ملكية فردية مع كل ما يتبع ذلك من حق التصرف بها. وقد استغل الفلاحون
الميسورين هذا التشريع لشراء (أو استئجار) أراضي الفلاحين المستضعفين اقتصاديا بأسعار زهيدة. وهكذا انتقلت
الرأسمالية، والتمايز بين الفلاحين، إلى صلب المشاعة القروية المتماسكة والمنسجمة سابقا، بحيث تحولت إلى ركيزة من
ركائز الرأسمالية في الريف، على حد تعبير لينين -المترجم-.
[3].
ان التمايزات في ملكية الاراضي تشكل، بالطبع، عاملا اساسيا في عملية تمايز الفلاحين. ولكن لم تكن الاحصائيات
حولها مكتملة عند صياغة «تطور الرأسمالية في روسيا». ففي العام 1907 أصدرت اللجنة الاحصائية المركزية
الروية الاحصائيات عن الملكية العقارية للعام 1905 التي استخدمها لينين في مؤلفه الصادر في نهاية 1907 البرنامج
الزراعي للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الروسية الاولى 1905-1907 (المؤلفات الكاملة، الطبعة الانكليزية، المجلد
13). ويتبين منها ان الاراضي موزعة على النحو التالي: أ)الاراضي المملوكة فرديا = 89.5 مليون دسياتين (الدسياتين
يعادل الهكتار تقريبا)، ب) أراضي المحاصصة 136.9، ج)أراضي الدولة والمؤسسات المختلفة 5.1 مليون. وتتوزع أراضي
المحاصصة كما يلي:
-أكثر من نصف الأسر الفلاحية (6200000 من أصل 12300000 تحوز على 5-8 دسياتين للأسرة (وهي مساحة من الارض لا تكفي
لإعالتها). وتصل هذه الفئة إلى 5/4 الأسر الفلاحية وإذا اضفنا اليها حائزي 15 دسياتين للأسرة. وهذه هي فئة الفلاحين
الفقراء على حافة المجاعة.
-فئة الفلاحين المتوسطين والميسورين يبلغ تعدادها 2200000 أسرة من أصل 12300000 وتملك فيما بينها 136900000 دسياتين.
-فئة الفلاحين الاغنياء تشمل الحائزين على 30 دسياتين فما فوق. ويبلغ تعدادها 600 ألف أسرة –أي أن 20/1 من
مجموع الأسر الفلاحية تحوز على 4/1 اجمالي الاراضي (32700000 من اصل 136900000).
أما تحليل الملكية الفردية للأرض (في روسيا الأوروبية)، فإنه يكشف الغلبة الكاسحة للملكيات الكبيرة:
ان عشرة ملايين اسرة فلاحية تملك 73000000 دسياتين من الأرض، في حين ان 28000 اسرة من النبلاء والملاك العقاريين تملك
وحدها 62000000 دسياتين –المترجم-
[4]. يشير لينين هنا ساخرا، إلى مقاله فورنتسوف المنشور عام 1892 -المترجم-.
[5]. تعداد الأحصنة للجيش احصاء بعدد الأحصنة المؤهلة للخدمة العسكرية في حال التعبئة العامة كان يجري في روسيا القيصرية كل ست سنوات، ابتداء بالعام 1876، ويشمل كافة المزارع –المترجم-.
[6]. الموجيك هو الفلاح الفقير.
[7]. الاستخدامات الخارجية هي الاعمال غير الزراعية (أي التجارية والصناعية) التي يتعاطاها الفلاحون، والتي تعبر عن تمايزهم وعن مدى تغلغل الرأسمالية في الريف –المترجم-.
[8]. الفئات هي نفسها المحددة أعلاه بناء على ملكية الأحصنة: (أ) بدون أحصنة، (ب) حصان واحد، (ج) حصانان، (د) 3 أصحنة، (هـ) 4 احصنة، (و) 5 احصنة وأكثر. –المترجم-.
[9]. الرسوم البدَلية qui rents وهي الرسوم التي كان يدفعها الفلاحون لقاء الاعفاء من خدمات أو واجبات معينة –المترجم-.
[10]. للتذكير: يساوي الدسياتين هكتارا واحدا تقريبا.
[11]. أو مفهوم «الاعناق»، وفق المصطلح العثماني –المترجم-.
[12]. بمقتضى هذا النظام كان فلاحو المشاعة يتحملون جماعيا مسؤولية دفع كل الاستحقاقات وتقديم كل الخدمات للدولة والمالكين العقاريين (كدفع الضرائب وأقساط استرداد الأرض، وتقديم المتطوعين للجيش، الخ.) وقد استمر هذا الشكل الاسترقاقي بعد الغاء القنانة في روسيا. ولم يحرم نهائيا إلا بعد تشريعات ستوليبين العام 1906 –المترجم-.
[13]. وبديهي القول أن الضرر الأكبر بحق الفلاحين الفقراء هو الذي ينجم عن مشروع ستولبين (تشرين الثاني 1906) لتدمير المشاعة الريفية. تلك هي الصيغة الروسية لشعار «راكِموا الثروات!: يا أيها المئات السود –يا أيها الفلاحون الاغنياء! انهبوا ما طالت أيديكم، طالما انكم تدعمون ركائز الحكم الاستبدادي المتهاوي!» (ملاحظة لينين للطبعة الثانية).
[14]. يستعرض لينين هنا عددا من الجداول التي تبين أن التمايز بين الفلاحين فيما يتعلق باستئجار وتأجير الأرض وملكية الأدوات والتجهيزات الزراعية يتم وفق نسب التفاوت ذاتها بين البروليتاريا الزراعية والبرجوازية الزراعية –المترجم-.
[15]. ذلك أن «أرباب العمل» في الحالة الأولى (حالة استخدام عامل يستعمل أدوات سواه) هو الفلاح الميسور (البرجوازي)، بينما «رب العمل» في الحالة الثانية هو الفلاح الفقير الذي يستعين بجاره الفلاح (الذي يملك الأداوت الزراعية الخاصة به) –المترجم-.
[16]. جداول انفاق الفئات الفلاحية المختلفة على المنتوجات الزراعية (الحبوب) واللحوم –المترجم-.
[17]. انها المجاعة التي اصابت المقاطعات الشرقية والجنوبية-الشرقية من روسيا الأوروبية بنوع خاص، وتجاوزت أضرارها كل ما سبقها من كوارث حلت بالبلد، فأدت إلى خراب مصادر رزق جماهير غفيرة من الفلاحين، وسارعت بالتالي من عملية تكوين سوق داخلية ومن تطور الرأسمالية في روسيا. وقد عالج انغلز هذا الموضوع في مقالة له بعنوان «الاشتراكية في ألمانيا» في العام نفسه وفي عدد من رسائله –المترجم-.
[18]. انظر رأس المال، الكتاب الأول، الجزء الثاني، ص527 (ملاحظة لينين).
[19]. يجب التمييز بصرامة بين الريع النقدي والريع العقاري الرأسمالي. فهذا الأخير يفترض وجود الرأسماليين والعمال المأجورين في الزراعة. أما الأول، فإنه يفترض وجود فلاحين تابعين. والريع العقاري هو ذلك الجزء من رأس المال المتبقي بعد حسم ربح المستخدِم، في حين أن الريع النقدي هو ثمن فائض الانتاج كله الذي يدفعه الفلاح لمالك الأرض… (ملاحظة لينين).
[20]. ان هذا الواقع وحده –أي كون تمايز الفلاحين ينشئ سوقا داخلية- هو الذي يفِّسر، مثلا، النمو الهائل في السوق الداخلية للمنتجات القطنية، الذي نما انتاجها بوتيرة متسارعة جدا في فترة «ما بعد الاصلاح» جنبا إلى جنب مع خراب الفلاحين بأعداد كبيرة. أما السيد دانيالسون، الذي يتشهد لنظرياته عن السوق الداخلية بهذا المثال نفسه عن صناعة النسيج عندنا، فإنه يعجز كليا عن تقديم تفسير لوجود مثل هذه الظاهرة المتناقضة (ملاحظة لينين).
[21]. أدى تقييد الهجرة إلى تأخير كبير لعملية تمايز الفلاحين (ملاحظة لينين).
[22]. المزارع الغني -المترجم-.