إن النصف الثاني من العقد العاشر يتصف بانتعاش رائع في وضع القضايا الثَّوريّة الرُّوسية وحلِّها. فإن ظهور الحزب الثَّوريّ الجديد "نارودنويه برافو"، ونجاحات الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين وتعاظم نفوذهم، والتَّطوُّر الداخلي في "نارودنايا فوليا" – كل هذا أثار نقاشاً نشيطاً للمسائل البرنامجية سواء في حلقات الاشتراكيّين – المثقفين والعمال – أم في المنشورات السرية. وفي هذا الميدان الأخير تنبغي الإشارة إلى "المسألة الملحة" و"البيان" (عام 1894) لحزب "نارودنويه برافو"، و"الورقة الطائرة لفرقة نارودنايا فوليا"، و"رابوتنيك" التي يصدرها في الخارج "اتحاد الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس"، والنَّشاط المتعاظم فيما يخص إصدار الكراريس الثَّوريّة، ولا سيما منها للعمال في روسيا، والعمل التَّحريضي الذي يقوم به في سانت بطرسبورغ "اتحاد النِّضال من أجل تحرير الطبقة العاملة" الاشتراكيّ الدِّيموقراطيّ*، بالارتباط مع الإضرابات المشهورة في بطرسبورغ عام 1986، إلخ..
وفي الوقت الحاضر (أواخر 1897)، نرى أن المسألة الألح إنما هي مسألة نشاط الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين العمليّ. وتشير إلى الجانب العمليّ من الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة، لأن جانبها النظري، قد اجتاز، على ما يبدو، أحد المراحل من حيث العناد في عدم تفهم الأخصام، مرحلة الميول المشتدة لسحق التيار الجديد عند ظهوره بالذات، هذا من جهة، ومرحلة الدفاع العنيد عن أسس الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة، من جهة أخرى. فإن آراء الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين النظرية تبدو اليوم بما يكفي من الوضوح من حيث سماتها الرئيسية والأساسيَّة. ولكنه لا يمكن قول الشيء نفسه عن الجانب العمليّ من الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة، عن برنامجها السِّياسيّ، عن طرائق عملها وتاكتيكها. ويخيل لنا أن في هذا الميدان بالضبط يسود أكثر ما يمكن من سوء الفهم ومن قلة الفهم المتبادل، الأمر الذي يحول دون قيام تقارب تام بين الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة والثَّوريّين الذي تخلوا كلياً، في حقل النظرية، عن مفاهيم "نارودنايا فوليا" والذين، في حقل النَّشاط العمليّ، إما يعمدون بحكم الأمور إلى الدعاية والتَّحريض بين العمال، حتى أنهم يضعون نشاطهم بين العمال على صعيد النِّضال الطَّبقيّ، وإما يعمدون إلى إبراز المهمات الدِّيموقراطيّة لكي يتخذوها أساساً لكل البرنامج ولكل النَّشاط الثَّوريّ. وإذا لم نكن على خطأ، فإن السمة الأخيرة تنطبق على الفرقتين الثَّوريّتين اللتين تعملان الآن في روسيا إلى جانب الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين: فرقة "نارودنايا فوليا" وفرقة "نارودنويه برافو".
ولذا نعتبر من المناسب بخاصة أن نحاول تفسير المهمات العمليّة الموضوعية أمام الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة وعرض الأسباب التي تدفعنا إلى اعتبار برنامجها البرنامج الأكثر عقلانية بين البرامج الثلاثة القائمة، واعتبار الاعتراضات الموجهة إليه قائمة بمعظمها على سوء فهم.
معلوم أن نشاط الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين العمليّ يستهدف قياد نضال البروليتاريا الطَّبقيّ وتنظيم هذا النِّضال بمظهريه: الاشتراكيّ (النِّضال ضد طبقة الرأسماليّين، النِّضال الذي يرمي إلى القضاء على نظام الطبقات وتنظيم المجتمع الاشتراكيّ)، والدِّيموقراطيّ (النِّضال ضد الحكم المطلق، النِّضال الذي يرمي إلى الظفر بالحرية السِّياسيّة في روسيا وإشاعة الدِّيموقراطيّة في نظام هذا البلد، السِّياسيّ، والاجتماعيّ). وقد قلنا: معلوم. وبالفعل، إن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس قد بينوا دائماً بدقة تامة هذا الهدف من نشاطهم، وذلك منذ ظهورهم اتجاهاً اجتماعياً ثورياً مستقلاً؛ وأشاروا دائماً إلى مظهري نضال البروليتاريا الطَّبقيّ، وإلى ازدواج مضمونه، وألحوا دائماً على الصلة الوثقى التي لا تنفصم عراها بين مهماتهم الاشتراكيّة والدِّيموقراطيّة، هذه الصلة التي وجدت تعبيراً جلياً لها في الاسم الذي أطلقوه على أنفسهم. ومع ذلك، فإنكم غالباً ما تلتقون، حتى في هذه الأيام، اشتراكيين يكوّنون عن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين فكرة من أشد الأفكار ضلالاً، ويتهمونهم بتجاهل النِّضال السِّياسيّ، إلخ.. فلنتوقف إذن عند سمة مظهري النَّشاط العمليّ للاشتراكية – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية.
لنبدأ بالنَّشاط الاشتراكيّ. منذ أن بدأ "اتحاد النِّضال من أجل تحرير الطبقة العاملة" الاشتراكيّ – الدِّيموقراطيّ عمله بين عمال سانت بطرسبورغ، أمكن الظن أن طابع النَّشاط الاشتراكيّ – الدِّيموقراطيّ لا بد أن يكون واضحاً تماماً بهذا الصَّدد. إن عمل الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس الاشتراكيّ يتقوم في الدعاية لتعاليم الاشتراكيّة العلمية، في نشر مفهوم صحيح بين العمال عن النظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ الحالي، عن أسس هذا النظام وتطوره، عن مختلف الطبقات في المجتمع الرُّوسي، والعلاقات فيما بينها، ونضال هذه الطبقات فيما بينها، ودور الطبقة العاملة في هذا النِّضال، وموقفها من الطبقات التي تسير بطريق الزوال، والطبقات التي تتطور، وموقفها من ماضي الرأسماليّة ومستقبلها، وعن المهمة التاريخية الموضوعة أمام الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة العالمية والطبقة العاملة الرُّوسية. إن التَّحريض بين العمال لعلى صلة وثيقة مع الدعاية؛ وهو يشغل طبعاً المرتبة الأولى في أوضاع روسيا السِّياسيّة الراهنة، ونظراً لمستوى تطور الجماهير العاملة. إن التَّحريض بين العمال يتقوم فيما يلي: إن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين يشتركون في جميع المظاهر العفوية لنضال الطبقة العاملة، في جميع النزاعات بين العمال والرأسماليّين بسبب يوم العمل، والأجور، وشروط العمل.. إلخ.. إلخ.. ومهمتنا أن ندمج نشاطنا مع قضايا حياة العمال العمليّة، المعيشية، ونساعد العمال على فهم جوهر هذه المسائل، أن نلفت انتباه العمال إلى أهم التجاوزات، ونساعدهم على أن يصوغوا، بمزيد من الدقة والروح العمليّة، المطالب التي يتقدمون بها من أرباب عملهم، ونطور عند العمال وعي تضامنهم، وعي مصالحهم المشتركة والعمل المشترك لجميع العمال الرُّوس، بوصفهم طبقة عاملة موحدة تؤلف قسماً من جيش البروليتاريا العالمي. تنظيم هذه الحلقات بين العمال، إقامة علاقات صحيحة وسرية بين هذه الحلقات وفرقة الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين المركزية، إصدار وتوزيع المنشورات العُمَّاليَّة، تنظيم إرسال المراسلات من جميع مراكز الحركة العُمَّاليَّة، إصدار وتوزيع المناشير التَّحريضية والنداءات، تكوين فريق من المحرضين المحنكين، - تلك هي، بخطواتها العامة، مظاهر النَّشاط الاشتراكيّ للاشتراكية – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية.
إن عملنا موجه، قبل كل شيء، وفوق كل شيء، نحو عمال المصانع، عمال المدن. فعلى الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية أن لا تبعثر قواها، إنما يجب عليها أن تركز جهودها في صفوف البروليتاريا الصناعية، الأكثر تطوراً ثقافياً وسياسياً، الأهم من حيث عددها وتمركزها في مراكز البلاد السِّياسيّة الكبرى. ولذا كان إنشاء منظمة ثورية متينة بين عمال المصانع، بين عمال المدن، المهمة الأولى والألح بين مهام الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة، المهمة التي يكون في أقصى الجنون الانصراف عنها في الوقت الحاضر. ولكننا، مع اعترافنا بضرورة حصر قوانا بين عمال المصانع ومه شجبنا لبعثرة هذه القوى، لا نريد أبداً أن تتجاهل الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية سائر فئات البروليتاريا والطبقة العاملة الرُّوسيتين. كلا. إن العامل الرُّوسي في المصنع ملزم في أغلب الحالات، بحكم شروط حياته بالذات، بإقامة أوثق الروابط مع الحرفيين، مع هذه البروليتاريا الصناعية المنتشرة خارج المصانع في المدن والقرى، والعائشة في أوضاع أسوأ بكثير. إن العامل الرُّوسي في المصنع على صلة مباشرة أيضاً مع سكان الريف (غالباً ما تعيش أسرة العامل في الريف)، فلا يستطيع بالتالي أن لا يقترب أيضاً من البروليتاريا الريفية، من ملايين العمال الزراعيين المحترفين والمياومين، وكذلك من هؤلاء الفلاحين الذين حل بهم الخراب، والذين يتشبثون بقطع حقيرة من الأرض، فينصرفون إلى أعمال السخرة وإلى "مورد للرزق" كيفما اتفق، أي إلى هذا العمل المأجور نفسه. وإن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس ليرون من غير المنسب الآن توجيه قواهم نحو الحرفيين والعمال الزراعيين، ولكنهم لا يريدون إطلاقاً إهمال هذه البيئة، وسيسعون أيضاً إلى إنارة العمال الطليعيين حول المسائل المتعلقة بحياة الحرفيين والأجراء الزراعيين، لكي يستطيع هؤلاء العمال، حين يتصلون بفئات البروليتاريا الأكثر تأخراً منهم، أن يحملوا إليها أفكار النِّضال الطَّبقيّ والاشتراكيّة والمهمات السِّياسيّة للديموقراطية الرُّوسية بوجه عام والبروليتاريا الرُّوسية بوجه خاص. وليس من الصواب أن نرسل المحرضين إلى هؤلاء الحرفيين والأجراء الزراعيين، طالما هناك مثل هذا القدر الكبير من العمل الذي يجب القيام به بين عمال المصانع، عمال المدن؛ ولكن العامل الاشتراكيّ يدخل، في جملة من الحالات، ودون قصد منه، في صلة مع هذه البيئة، ويجب عليه أن يعرف كيف يستفيد من هذه الحالات ويدرك المهمات العامة للاشتراكية – الدِّيموقراطيّة في روسيا. ولذا يخطئون فادح الخطأ أولئك الذين يتهمون اشتراكية – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية بضيق الأفق، وبالرغبة في تجاهل سواد السكان الكادحين، والاهتمام فقط بعمال المصانع وحدهم. فالأمر بالعكس. فإن التَّحريض بين الفئات المتقدمة من البروليتاريا هو آمن وسيلة والوسيلة الوحيدة إيقاظ (بقدر ما تتسع الحركة) البروليتاريا الرُّوسية بأسرها. إن ترويج الاشتراكيّة وفكرة النِّضال الطَّبقيّ بين عمال المدن لا بد له أن يسوق هذه الأفكار بأقنية أضيق، وأكثر تشعباً: ولهذا الغرض، كان من الضروري أن تمد هذه الأفكار جذورها عميقاً في بيئة أحسن استعداداً، وتغذي، بوفرة، هذه الطليعة من الحركة العُمَّاليَّة الرُّوسية والثَّورة الرُّوسية. إن الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية، إذ توجه كل قواها نحو العمل بين عمال المصانع، لمستعدة أيضاً أن تدعم أولئك الثَّوريّين الرُّوس ممن يقودهم النَّشاط العمليّ إلى وضع الاشتراكيّ على صعيد نضال البروليتاريا الطَّبقيّ؛ وهي في هذه الحال، لا تخفي إطلاقاً أي تحالف عملي مع سائر فئات الثَّوريّين لا يمكن له ولا يجب أن يؤول إلى مساومات أو إلى تنازلات في حقل النظرية والبرنامج والراية. إن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس لمقتنعون بأن مذهب الاشتراكيّة العلمية والنِّضال الطَّبقيّ هو وحده الذي يمكن أن يكون في الوقت الحاضر النظرية الثَّوريّة التي تقوم مقام راية للحركة الثَّوريّة، ولذا فإنهم سيروجون له بكل قواهم ويحمونه من التأويلات الخاطئة، ويهبون ضد جميع المحاولات الرامية إلى ربط الحركة العُمَّاليَّة التي لا تزال فتية في روسيا، بمذاهب أقل دقة ووضوحاً. فإن الشروحات النظرية تبرهن، ونشاط الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين العمليّ يبين أنه يجب على جميع الاشتراكيّين في روسيا أن يصبحوا اشتراكيين – ديموقراطيين. لننتقل إلى مهمات الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الدِّيموقراطيّة وإلى عملهم الدِّيموقراطيّ. إننا نعيد القول مرة أخرى أن هذا العمل يرتبط بالعمل الاشتراكيّ ارتباطاً وثيقاً لا تنفصم عراه. فإن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين، غذ يقومون بالدعاية بين العمال، لا يستطيعون التهرب من القضايا السِّياسيّة، بل يعتبرون كل محاولة للتهرب منها أو حتى للتأجيل هفوة كبيرة وانتهاكاً للمبادئ الأساسيَّة للاشتراكية – الدِّيموقراطيّة العالمية. وإلى جانب الدعاية للاشتراكية العلمية، يأخذ الاشتراكيّون الدِّيموقراطيّون الرُّوس على عاتقهم مهمة الدعاية أيضاً للأفكار الدِّيموقراطيّة بين جماهير العمال، ويسعون إلى نشر مفهوم الحكم المطلق بكل ظاهرات نشاطه، مفهوم مضمونه الطَّبقيّ، وضرورة إسقاطه، واستحالة النِّضال بنجاح في سبيل قضية العمال دون الحصول على الحرية السِّياسيّة وإشاعة الدِّيموقراطيّة في النظام السِّياسيّ والاجتماعيّ في روسيا. والاشتراكيّون – الدِّيموقراطيّون، إذ يقومون بين العمال بعمل تحريضي يرتكز على المطالب الاقتصاديّة المباشرة، إنما يربطون به ربطاً وثيقاً التَّحريض المرتكز على الحاجات السِّياسيّة المباشرة للطبقة العاملة، على شقائها ومطالبها؛ التَّحريض ضد النير البوليسي الذي يتجلى في كل إضراب، في كل نزاع بين العمال والرأسماليّين؛ التَّحريض ضد تقييد حقوق العمال بوصفهم مواطنين في روسيا بوجه عام، وبوصفهم الطبقة التي تعاني أشد الاضطهاد وأشد الحرمان من الحقوق بوجه خاص؛ التَّحريض ضد كل ممثل بارز وخادم للحكم المطلق يحتك مباشرة بالعمال ويبين بوضوح للطبقة العاملة عبوديتها السِّياسيّة. وإذا كانت لا توجد مسألة في حياة العمال، في ميدان الاقتصاد، لا يجب استخدامها في أغراض التَّحريض الاقتصاديّ، كذلك لا توجد مسألة في حقل السياسة لا يجب استخدامها في أغراض التَّحريض السِّياسيّ. إن هذين الشكلين من التَّحريض مترابطان ترابطاً وثيقاً لا ينفصم عراه في نشاط الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين كوجهي مدالية واحدة. فإن التَّحريض الاقتصاديّ والتَّحريض السِّياسيّ كلاهما ضروري على حد سواء لتطوير وعي البروليتاريا الطَّبقيّ؛ لأن كل نضال طبقي هو نضال سياسي. إن شكلي التَّحريض كليهما، إذ يوقظان وعي العمال وينظمانهم، ويعودانهم الطاعة، ويربيانهم للقيام بنشاط تضامني وللنضال في سبيل المثل العليا الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة، سيمكنان العمال من امتحان قواهم فيما يتعلق بالقضايا التي تمسهم عن كثب، فيما يتعلق بحاجاتهم المباشرة، إنهما سيمكنانهم من انتزاع تنازلات جزئية من عدوهم فيحسنون وضعهم الاقتصاديّ، ويجبرون الرأسماليّين على حسبان الحساب لقوة العمال المنظمة، ويكرهون الحكومة على توسيع حقوق العمال والإصغاء لمطالبهم، إذ يبقونها في خوف دائم من الجماهير العاملة المعادية لها، السائرة بقيادة منظمة اشتراكية – ديموقراطية متينة.
لقد أشرنا إلى الصلة الوثقى التي تربط بين الدعاية والتَّحريض الاشتراكيّين والدِّيموقراطيّين، وإلى التوازي الكلي للعمل الثَّوريّ في كل من المجالين. ولكنه يوجد أيضاً فرق كبير جداً بين مظهري النَّشاط والنِّضال. وقوام هذا الفرق، أن البروليتاريا تكون وحدها إطلاقاً في النِّضال الاقتصاديّ بينما يكون ضدها أسياد الأراضي النبلاء والبرجوازيّة، ولا تحظى إلا بمساعدة (لا دائماً، طبعاً) عناصر البرجوازيّة الصَّغيرة التي تنجذب نحو البروليتاريا. في حين أن الطبقة العاملة الرُّوسية ليست وحدها في النِّضال الدِّيموقراطيّ السِّياسيّ، فإلى جانبها تنضم جميع عناصر المعارضة السِّياسيّة، جميع فئات السكان وجميع الطبقات التي تعادي الحكم المطلق، وتحاربه بهذه الأشكال أوتلك. وإلى جانب البروليتاريا، تقف أيضاً عناصر المعارضة البرجوازيّة، أو الطبقات المتعلمة، أو من البرجوازيّة الغيرة، أو من القوميات، أو من الأديان، أو من الطوائف..إلخ، ..إلخ، التي يضطهدها الحكم المطلق. وهنا يوضع السؤال بشكل طبيعي تماماً: أولاً، كيف يجب أن تكون علاقات الطبقة العاملة مع هذه العناصر؟ وثانياً، ألا يجب على الطبقة العاملة أن تتحالف مع هذه العناصر من أجل القيام بنضال مشترك ضد الحكم المطلق؟ وبما أن جميع الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين يعترفون بأنه يجب أن تسبق الثَّورة السِّياسيّة في روسيا الثَّورة الاشتراكيّة، أفلا يجدر تأجيل الاشتراكيّة مؤقتاً، بعد التحالف مع جميع عناصر المعارضة السِّياسيّة من أجل النِّضال ضد الحكم المطلق؟ أليس ذلك إلزامياً من أجل تقوية النِّضال ضد الحكم المطلق؟
لنبحث هذين السؤالين.
ففيما يتعلق بعلاقات الطبقة العاملة في كفاحها ضد الحكم المطلق، مع جميع فئات وطبقات المعارضة السِّياسيّة الأخرى في المجتمع، فإن هذه العلاقات إنما تحددها بدقة كاملة المبادئ الأساسيَّة للاشتراكية – الدِّيموقراطيّة، المعروضة في "بيان الحزب الشيوعي" الشهير. إن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين يؤيدون طبقات المجتمع التقدمية ضد الطبقات الرجعية، والبرجوازيّة ضد ممثلي الملكية العقارية المميزة والمغلقة، وضد سلك الموظفين؛ البرجوازيّة الكبيرة ضد الأطماع الرجعية للبرجوازية الصَّغيرة. وهذا التأييد لا يفترض ولا يتطلب أية مساومة مع البرامج والمبادئ غير الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة: فهو تأييد حليف ضد عدو معين؛ وإذا كان الاشتراكيّون – الدِّيموقراطيّون يمحضون هذا التأييد، فلكي يعجلوا سقوط العدو المشترك؛ ولكنهم لا يتوقعون شيئاً لأنفسهم من هؤلاء الحلفاء المؤقتين ولا يتنازلون لهم عن شيء. إن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين يؤيدون كل حركة ثورية ضد النظام الاجتماعيّ الحالي، كل قومية مظلومة، كل دين مضطهد، كل فئة اجتماعية مستذلة، وهكذا دواليك، في نضالها من أجل المساواة في الحقوق.
إن تأييد جميع عناصر المعارضة السِّياسيّة إنما يجب أن ينعكس في دعاية الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين على النحو التالي: إن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين، غذ يبرهنون عداء الحكم المطلق لقضية العمال، سيبينون في الوقت نفسه أن الحكم المطلق يعادي هذه أو تلك من الفئات الاجتماعيّة الأخرى، وسيبينون تضامن الطبقة العاملة مع هذه الفئات في هذه المسائل أو تلك، من أجل هذه المهمات أو تلك، ..إلخ.. أما في حقل التَّحريض، فإن هذا التأييد سيتجسد في أن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين سيستغلون جميع ظاهرات نير الحكم المطلق البوليسي لكي يبينوا للعمال أن هذا النير ينيخ بكلكله على جميع المواطنين بوجه عام، وبوجه خاص على ممثلي الفئات الاجتماعيّة، والقوميات، والأديان والطوائف..إلخ، التي تعاني من الاضطهاد أشده، ولكي يبينوا للعمال كيف أن هذا النير ينيخ بكلكله على الطبقة العاملة بوجه أخص. وأخيراً، يتجسد هذا التأييد عملياً في كون الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس مستعدين للتحالف مع الثَّوريّين على اختلاف اتجاهاتهم، بغية تحقيق هذه الأهداف الجزئية أو تلك، وهذا الاستعداد إنما أعطي عنه البرهان عملياً أكثر من مرة.
وهكذا نصل إلى السؤال الثاني. إن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين، إذ يبينون تضامن هذه الفئات المعارضة أو تلك مع العمال، سيضعون دائماً العمال على حدة، وسيجهدون دائماً لتفسير طابع هذا التضامن، المؤقت والمشروط، وسيشيرون على الدوام إلى أن البروليتاريا طبقة على حدة، قد تتكشف غداً عن خصم لحلفائها اليوم. سيقال لنا: »إن مثل هذه الإشارة ستضعف الحرية السِّياسيّة، في الوقت الحاضر«. وسنجيب: إن هذه الإشارة ستقوي جميع المكافحين من أجل الحرية السِّياسيّة. فالأقوياء هم وحدهم أولئك المكافحون الذين يعتمدون إلى ما لطبقات معينة من مصالح فعلية مفهومة فهماً جيداً؛ وكل تمويه لهذه المصالح الطَّبقيّة، التي تضطلع منذ الآن بدور أولي في المجتمع المعاصر، لن يفعل غير أن يضعف المكافحين. هذا أولاً. ثانياً، في النِّضال ضد الحكم المطلق، يجب على الطبقة العاملة أن تضع نفسها على حدة، لأنها وحدها إلى النهاية العدو المنسجم والمطلق للحكم المطلق، وبينها وحدها والحكم المطلق، تستحيل المساومات؛ وفي الطبقة العاملة وحدها يمكن للديموقراطية أن تجد نصيراً مطلقاً، لن يظهر عليه التردد، ولن يتطلع إلى الوراء. إن العداء للحكم المطلق في جميع الطبقات الأخرى، في جميع الفئات والكتل الأخرى من السكان، ليس مطلقاً، وديموقراطيتها تتطلع دائماً إلى الوراء. وليس في مستطاع البرجوازيّة أن لا تدرك أن الحكم المطلق يعيق التَّطوُّر الصناعي والاجتماعيّ، ولكنها تخشى إشاعة الدِّيموقراطيّة بصورة تامة في النظام السِّياسيّ والاجتماعيّ، وفي إمكانها دائماً أن تتحالف مع الحكم المطلق ضد البروليتاريا. أما البرجوازيّة الصَّغيرة، فطبيعتها مزدوجة: فهي تشعر من جهة بالميل إلى البروليتاريا والدِّيموقراطيّة كما تشعر من جهة أخرى بالميل إلى الطبقات الرجعية؛ فتسعى إلى إعاقة سير التاريخ، وفي وسعها أن تؤخذ وتخدع بتجارب الحكم المطلق وحيله (مثلاً، بشكل "السياسة الشعبية" التي انتهجها ألكسندر الثالث)؛ وفي وسعها أن تتحالف مع الطبقات الحاكمة ضد البروليتاريا، لمجرد أن توطد وضعها بوصفها مالكاً صغيراً. إن الناس المتعلمين، أو "الأنتلليغنتسيا" بوجه عام لا يمكنها أن لا تنتفض ضد الاضطهاد البوليسي الوحشي يسلطه الحكم المطلق الذي يطارد الفكر والمعرفة؛ ولكن مصالح هذه الأنتلليغنتسيا المادية تربطها بالحكم المطلق، بالبرجوازيّة وتجبرها على أن لا تكون منسجمة، على إجراء مساومات، على بيع حميتها الثَّوريّة وحمية معارضتها لقاء الرواتب التي تدفعها لها الدولة، أو لقاء حصة من الأرباح أو القسائم. أما فيما يتعلق بالعناصر الدِّيموقراطيّة التي تنتسب إلى القوميات المظلومة أو التي تعتنق ديناً مضطهداً، فإن كل امرئ يعرف ويرى أن التناحرات الطَّبقيّة في قلب هذه الفئات من السكان أقوى وأعمق بكثير من تضامن جميع طبقات الفئة المعنية ضد الحكم المطلق وفي سبيل المؤسسات الدِّيموقراطيّة. ولكن البروليتاريا وحدها تستطيع أن تكون – وبحكم وضعها الطَّبقيّ لا تستطيع أن لا تكون – ديموقراطية منسجمة إلى النهاية، عدواً حازماً للحكم المطلق، عاجزة عن أي تنازل، عن أي مساومة. إن البروليتاريا وحدها تستطيع أن تكون مكافحاً طليعياً في سبيل الحرية السِّياسيّة والمؤسسات الدِّيموقراطيّة؛ أولاً، لأن على البروليتاريا يمارس الاضطهاد السِّياسيّ بأعنف أشكاله، ولا يجد أي تخفيف له في وضع هذه الطبقة؛ فأبواب السُّلطة العليا موصدة في وجهها، وحتى أبواب سلك الموظفين، وليس في إمكانها التأثير في الرأي العام. ثانياً، إن البروليتاريا وحدها قادرة على أن تدفع إلى النهاية إشاعة الدِّيموقراطيّة في النظام السِّياسيّ والاجتماعيّ، إذ إن مثل هذه الإشاعة من شأنها أن تضع هذا النظام في أيدي العمال. ولهذا السبب، كان دمج نشاط الطبقة العاملة الدِّيموقراطيّ مع ديموقراطية الطبقات والفئات الأخرى، من شأنه أن يضعف من قوة الحركة الدِّيموقراطيّة، أن يضعف النِّضال السِّياسيّ، ويجعله أقل حزماً، وأقل انسجاماً وأوفر قدرة على المساومة. أما وضع الطبقة العاملة على حدة، بوصفها مكافحاً طليعياً في سبيل المؤسسات الدِّيموقراطيّة، فهو، على العكس، يقوي الحركة الدِّيموقراطيّة، يقوي النِّضال في سبيل الحرية السِّياسيّة، لأن الطبقة العاملة ستحفز جميع العناصر الدِّيموقراطيّة وعناصر المعارضة السِّياسيّة الأخرى، وتدفع اللِّيبراليّين نحو الراديكاليّين السِّياسيّين، وتدفع الراديكاليّين إلى القطيعة الحاسمة مع كل النظام السِّياسيّ والاجتماعيّ في المجتمع الحالي. ولقد قلنا أعلاه أنه يجب على جميع الاشتراكيّين في روسيا أن يصبحوا اشتراكيين – ديموقراطيين. ونضيف الآن قائلين: يجب على جميع الدِّيموقراطيّين الحقيقيين والمنسجمين في روسيا أن يصبحوا اشتراكيين – ديموقراطيين.
ونوضح فكرتنا بمثال. لنأخذ هذه المؤسسة التي هي سلك الموظفين أو الدواوينية (البيروقراطية)، بوصفها فئة خاصة من أفراد مختصين في الإدارة وموضوعين في وضع مميز بالنسبة إلى الشعب. فمن روسيا نصف الآسيوية، حيث الحكم المطلق، حتى إنجلترا المثقفة والحرة والمتمدنة، نرى هذه المؤسسة في كل مكان، جهازاً لا غنى عنه للمجتمع البرجوازيّ. فإن تأخر روسيا وحكمها المطلق تقابلهما عبودية الشعب التامة أمام الموظفين، وانعدام الرقابة على الدواوينية المميزة انعداماً كلياً. أما في إنجلترا، فهناك رقابة قوية من الشعب على الإدارة، ولكن هذه الرقابة أبعد من أن تكون كاملة هناك أيضاً؛ فهناك أيضاً تحتفظ الدواينية بكثرة من الامتيازات، وهي في غالب الأحيان سيدة الشعب لا خادمته. وفي إنجلترا أيضاً، نرى الفئات الاجتماعيّة القوية تدعم وضع الدواوينية المميز، وتقيم العراقيل بوجه إشاعة الدِّيموقراطيّة إشاعة كلية في هذه المؤسسة. لماذا؟ لأن للبروليتاريا وحدها مصلحة في هذه الإشاعة الكلية للديموقراطية. فأكثر فئات البرجوازيّة تقدماً تدافع عن بعض امتيازات سلك الموظفين، وتعارض انتخاب جميع الموظفين، وإلغاء تقييد الحق الانتخابي إلغاء تاماً، وجعل الموظفين مسؤولين مباشرة أمام الشعب، إلخ.. إذ أن هذه الفئات تدرك أن البروليتاريا ستستخدم هذه الإشاعة للديموقراطية إلى النهاية ضد البرجوازيّة. كذلك هي الحال في روسيا. فضد سلك الموظفين الرُّوسي الكلي الجبروت، غير المسؤول، المباع، الوحشي، الجهل، الطفيلي، تهب فئات عديدة جداً من الشعب الرُّوسي ومن أكثرها تنوعاً وتبايناً. ولكنه لا توجد، عدا البروليتاريا، فئة واحدة من هذه الفئات تقبل بإشاعة الدِّيموقراطيّة إشاعة كلية في سلك الموظفين، لأن لجميع الفئات الأخرى (البرجوازيّة، والبرجوازيّة الصَّغيرة، و"الانتيللغيغنتسيا" بوجه عام) روابط مع الموظفين، لأن جميع هذه الفئات تنتسب إلى سلك الموظفين الرُّوسي. فهل هناك من يجهلون بأية سهولة يجري في روسيا المقدسة تحويل المثقف الراديكاليّ، المثقف الاشتراكيّ، إلى موظف الحكومة الإمبراطورية، - موظف يتعزى بفكرة أنه "مفيد" في حدود الرتابة الدواوينية – موظف يبرر بهذه "الفائدة" لامبالاته السِّياسيّة، واستخذاءه أمام حكومة السوط والهراوة؟ البروليتاريا وحدها معادية للحكم المطلق والدواوينية الرُّوسية عداء مستحكماً، البروليتاريا وحدها لا رابطة لها مع هذه الأجهزة لمجتمع النبلاء والبرجوازيّة، البروليتاريا وحدها قادرة على الحقد عليها حقداً لا هوادة فيه ومحاربتها بحزم وتصميم.
وحين نبرهن على أن البروليتاريا، التي تخوض نضالها الطَّبقيّ بقيادة الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة، هي المكافح الطليعي في الدِّيموقراطيّة الرُّوسية، فإننا نصطدم برأي في أقصى الانتشار والغرابة، رأي يزعم أن الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية تنبذ المهام السِّياسيّة والنِّضال السِّياسيّ إلى المؤخرة. وواضح أن هذا الرأي ينافي الحقيقة على طل الخط. فكيف نفسر آنذاك هذا الانعدام المدهش لفهم مبادئ الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة، مع أن هذه المبادئ قد عرضت في الماضي مراراً عديدة، وعرضت في المنشورات الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية الأولى، في الكراريس والكتب التي أصدرتها فرقة "تحرير العمل"* في الخارج؟ يخيل لنا أنه ينبغي البحث عن تفسير هذا الواقع المدهش في الظُّروف الثلاثة التالية:
أولاً، في الانعدام العام لفهم مبادئ الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة عند ممثلي النظريات الثَّوريّة القديمة، ممن اعتادوا بناء البرامج وخطط النَّشاط على أفكار مجردة، بدلاً من حسبان الحساب للطبقات الفعلية التي تعمل في البلاد والتي وضعها التاريخ في هذه العلاقات أو تلك. وعن انعدام هذه الدراسة الواقعية للمصالح التي تساند الدِّيموقراطيّة الرُّوسية، عن هذا الواقع وحده بالضبط كان يمكن أن ينشأ الرأي الزاعم أن الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية لا تعنى بمهمات الثَّوريّين الرُّوس الدِّيموقراطيّة.
ثانياً، في عدم فهم أن جمع القضايا الاقتصاديّة والسِّياسيّة، جمع النَّشاط الاشتراكيّ والدِّيموقراطيّ في كل واحد، في نضال طبقي واحد تخوضه البروليتاريا، لا يضعف، بل يعزز الحركة الدِّيموقراطيّة ويقوي النِّضال السِّياسيّ ويقربه من المصالح الفعلية للجماهير الشعبية؛ ومن أعماق "مكاتب الأنتيلليغنتسيا الضيقة"، يخرج القضايا السِّياسيّة إلى الشارع، إلى بيئة العمال والطبقات الكادحة، واضعاً محل الأفكار المجردة عن الاضطهاد السِّياسيّ ظاهرات هذه الاضطهاد الفعلية التي أشد ما تعاني منها البروليتاريا، والتي على أساسها تقوم الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة لعملها التَّحريضي. وغالباً ما يخيل للراديكالي الرُّوسي أن الاشتراكيّ – الدِّيموقراطيّ الذي يشير إلى مهمة تطوير الحركة العُمَّاليَّة وتنظيم نضال البروليتاريا الطَّبقيّ، بدلاً من أن يدعو العمال الطليعيين علناً ومباشرة إلى النِّضال السِّياسيّ، - يخيل له أن الاشتراكيّ – الدِّيموقراطيّ يتراجع، بسلوكه، أمام ديموقراطيته بالذات، وأنه ينبذ النِّضال السِّياسيّ إلى الوراء. ولكن إذا كان من الصحيح أن هناك تراجعاً، فليس هذا التراجع إلا ذاك الذي قصده المثل الفرنسي "il faut reculer pour mieux sauter!" (يجب التراجع للقفز بشكل أفضل).
ثالثاً، إن سوء الفهم ينجم عن أن لمفهوم "النِّضال السِّياسيّ" نفسه معنى يختلف بالنسبة لنصير "نارودنايا فوليا" ونصير "نارودنويه برافو" من جهة، وبالنسبة للاشتراكي – الدِّيموقراطيّ من جهة أخرى. إن الاشتراكيّين الدِّيموقراطيّين يفهمون النِّضال السِّياسيّ على نحو آخر، إنهم يفهمونه على نحو أوسع بكثير مما يفهمه ممثلو النظريات الثَّوريّة القديمة. ولنا مثال أخاذ عن هذه الموضوعة التي قد تبدو متناقضة، في "الورقة الطائرة "لفرقة نارودنايا فوليا""، العدد 4، تاريخ 9 كانون الأول/ ديسمبر 1895. فإننا، مع ترحيبنا من صميم القلب بهذه النشرة، باعتبارها دليلاً على أن الفكر يواصل نشاطه العميق والمثمر في وسط أنصار "نارودنايا فوليا" الحاليين، لا يسعنا أن نمتنع عن الإشارة إلى مقال لافروف "حول مسائل البرنامج" (ص ص 19- 22) الذي يعرض بشكل بارز طريقة أخرى لفهم النِّضال السِّياسيّ عند أنصار "نارودنايا فوليا" من الاتجاه القديم*. وقد كتب لافروف في معرض كلامه عن العلاقة بين برنامج "نارودنايا فوليا" وبرنامج الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين يقول: ».. هنا، مسألة واحدة أساسية، مسألة واحدة لا غير: هل يمكن في ظل الحكم المطلق، تنظيم حزب عمالي قوي خارج تنظيم حزب ثوري موجه ضد الحكم المطلق؟« (ص21، العمود2). كذلك في أعلى قليلاً (العمود 1): ».. تنظيم حزب عمالي روسي في ظل سيطرة الحكم المطلق دون تنظيم حزب ثوري في الوقت نفسه ضد هذا الحكم المطلق«. إننا لا نفهم أبداً هذه الفوارق، التي يعتبرها لافروف أساسية، رئيسية. وكيف هذا؟ "حزب عمالي خارج حزب ثوري موجه ضد الحكم المطلق"؟؟ فهل الحزب العمالي نفسه ليس إذن حزباً ثورياً؟ أليس موجهاً ضد الحكم المطلق؟ إن الفقرة التالية من مقال لافروف تفسر هذه الغرابة: »لا بدَّ من تنظيم حزب عمالي روسي في حين يسود الحكم المطلق مع كل جمالاته. فإذا استطاع الاشتراكيّون – الدِّيموقراطيّون هذا الأمر، دون أن ينظموا في الوقت نفسه التآمر* السِّياسيّ ضد الحكم المطلق، مع كل ما ينطوي عليه مثل هذا لتآمر من شروط، كان من البديهي أن برنامجهم السِّياسيّ سيكون البرنامج الحقيقي للاشتراكيين الرُّوس، إذ إن تحرير العمال سيتم على أيدي العمال أنفسهم. ولكن هذا الأمر مشكوك فيه كثيراً، إن لم يكن مستحيلاً«. (ص 21، العمود1). هذا هو إذن جوهر الأمر! إن مفهوم النِّضال السِّياسيّ ومفهوم التآمر السِّياسيّ هما بالنسبة للنارودوفولي شيء واحد! يجب الإقرار بأن لافروف قد استطاع في هذه الكلمات أن يبين، بوضوح تام، الفرق الأساسي بين تاكتيك أنصار "نارودنايا فوليا" في النِّضال السِّياسيّ وتاكتيك الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين في النِّضال السِّياسيّ. إن تقاليد البلانكية، تقاليد روح التآمر، قوية جداً عن أنصار "نارودنايا فوليا"، قوية إلى حدِّ أنهم لا يستطيعون أن يتصوروا النِّضال السِّياسيّ إلا بشكل تآمر سياسي. والحال لا يمكن اتهام الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين بمثل هذا الضيق في التفكير؛ فهم لا يؤمنون بالمؤامرات، بل يعتقدون أن عهد المؤامرات قد ولى منذ زمن بعيد؛ وإن حصر النِّضال السِّياسيّ في التآمر إنما يعني المغالاة في تقليصه من جهة ومن جهة أخرى، اختيار أقل أساليب النِّضال حظاً بالتوفيق. إن كل امرئ يدرك أن بيان لافروف، الزاعم أن "نشاط الغرب مثال مطلق للاشتراكيين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس" (ص21، العمود1) ليس أكثر من أسلوب في الجدال والمناظرة، وإن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس لم ينسوا قط في الواقع أوضاعنا السِّياسيّة، ولم يحلموا قط بإمكان إنشاء حزب عمالي في روسيا بصورة علنية، مكشوفة؛ ولم يفصلوا قط مهمة النِّضال في سبيل الاشتراكيّة عن مهمة النِّضال في سبيل الحرية السِّياسيّة. وقد اعتقدوا دائماً، ولا يزالون يعتقدون، أن هذا النِّضال إنما ينبغي أن لا يقوم به متآمرون، بل حزب ثوري يعتمد على الحركة العُمَّاليَّة. وهم يعتقدون أنه ينبغي أن لا ينحصر النِّضال ضد الحكم المطلق في تحضير المؤامرات، بل في تثقيف البروليتاريا وتنظيمها وتعويدها الطاعة، في التَّحريض السِّياسيّ بين العمال، بغية التنديد بكل ظاهرة من ظاهرات الحكم المطلق والتشهير بكل فرسان الحكومة البوليسية وإكراه هذه الحكومة على إجراء التنازلات. أليس هذا بالضبط نشاط "اتحاد النِّضال من أجل تحرير الطبقة العاملة في سانت بطرسبورغ؟ أليست هذه المنظمة، بالضبط، جنيناً للحزب الثَّوريّ الذي يعتمد على الحركة العُمَّاليَّة ويقود نضال البروليتاريا الطَّبقيّ، ويقود النِّضال ضد الرأسمال وضد الحكومة المطلقة دون أن ينظم أي مؤامرة من المؤامرات، ويستمد قواه بالضبط من توحيد النِّضال الاشتراكيّ والدِّيموقراطيّ في نضال طبقي واحد لا يتجزأ تخوضه بورليتاريا بطرسبورغ؟ أولم يثبت نشاط "الاتحاد"، رغم قصره، أن البروليتاريا السائرة بقيادة الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة تشكل قوة سياسية كبرى، لا بد للحكومة أن تحسب لها الحساب منذ الآن، وتسرع في إجراء التنازلات لها؟ إن قانون 2 حزيران/ يونيو 1897، يبين بوضوح، سواء بالعجلة التي طبق فيها أو بفحواه، الأهمية التي يرتديها بوصفه تنازلاً انتزعته البروليتاريا، بوصفه موقعاً أخذ عنوة من عدو الشعب الرُّوسي. إن هذا التنازل طفيف جداً، والموقع لا يؤبه له، ذلك أيضاً إن منظمة الطبقة العاملة، التي استطاعت أن تفرض هذا التنازل، لا تمتاز لا بسعتها، ولا بمتانتها، ولا بقدمها، ولا بغنى تجاربها أو مواردها: فإن "اتحاد النِّضال" لم يتأسس، كما هو معروف، إلا في 1895 – 1896، وكانت نداءاته إلى العمال مناشير بسيطة مطبوعة على الرونيو أو على الحجر. فهل يمكن النكران أن منظمة كهذه، تضم على الأقل أكبر مراكز الحركة العُمَّاليَّة في روسيا (مناطق بطرسبورغ، وموسكو – فلاديمير، ومنطقة الجنوب والمدن الرئيسية أمثال أوديسا، وكييف، وساراتوف.زغلخ)؛ وتملك جريدة ثورية وتتمتع بين العمال الرُّوس بنفوذ يوازي النفوذ الذي يتمتع به "اتحاد النِّضال" بين عمال سانت بطرسبورغ-، هل يمكن النكران أن مثل هذه المنظمة ستكون عاملاً سياسياً قوياً جداً في روسيا الحالية، عاملاً لا يمكن للحكومة أن لا تحسب الحساب له، في كل سياساتها الداخلية والخارجية؟ إن مثل هذه المنظمة، إذ تقود نضال البروليتاريا الطَّبقيّ، وتطور روح التنظيم والطاعة بين العمال وتساعدهم في النِّضال من أجل حاجاتهم الاقتصاديّة وفي انتزاع موقع بعد آخر من الرأسمال، وتثقف العمال سياسياً وتلاحق الحكم المطلق بدأب وانتظام، وتطارد جميع الباش بزوقات القيصريين الذين يرهقون البروليتاريا بقبضة الحكومة البوليسية، الثقيلة؛ إن مثل هذه المنظمة ستكون آنذاك في الوقت نفسه منظمة لحزب العمال مكيفة على أوضاعنا، وحزباً ثورياً قوياً موجهاً ضد الحكم المطلق. أما البحث والإسهاب مسبقاً حول الوسيلة التي ستلجأ إليها هذه المنظمة لكي تسدد ضربة حاسمة إلى الحكم المطلق، حول معرفة ما إذا كانت ستفضل، مثلاً، الانتفاضة أو الإضراب السِّياسيّ الجماهيري أو أي أسلوب آخر للهجوم، أما البحث والإسهاب مسبقاً حول هذه النقطة والرغبة في حل هذه المسألة في الوقت الحاضر، فإن ذلك لن يكون سوى نزعة مذهبية جامدة باطلة. فكأن ينظم الجنرالات مجلساً حربياً قبل أن يجمعوا الجنود، قبل أن يجندوهم ويسيروهم ضد العدو. وحين يحارب جيش البروليتاريا بلا وهن وتحت قيادة منظمة اشتراكية – ديموقراطية قوية، في سبيل تحرر البروليتاريا الاقتصاديّ والسِّياسيّ، فإن هذا الجيش سيشير بنفسه على الجنرالات بأساليب العمل ووسائله. وحينذاك، ولكن حينذاك فقط، يمكن حلّ مسألة الضربة الحاسمة الواجب تسديدها إلى الحكم المطلق؛ لأن حل هذه المسألة رهن بحالة الحركة العُمَّاليَّة، بسعتها، بأشكال النِّضال التي تصوغها الحركة، بخصائص المنظمة الثَّوريّة التي تقود الحركة، بموقف العناصر الاجتماعيّة الأخرى من البروليتاريا والحكم المطلق، بأحوال السياسة الخارجية والداخلية، أي بكلمة، بألف شرط لا يمكن ولا ينفع التكهن بها سلفاً.
ولذا فإن الحكم التالي الذي أورده لافروف خاطئ أيضاً خطأ فاضحاً:
»والحال، إذا اضطروا (أي الاشتراكيّون – الدِّيمقراطيّون) لا إلى حشد القوى العُمَّاليَّة، بشكل أو بآخر للنضال ضد الرأسمال، وحسب، بل أيضاً إلى حشد الشخصيات الثَّوريّة والجماعات الثَّوريّة للنضال ضد الحكم المطلق، فإن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس، أياً كان الاسم الذي يتخذونه، سيقبلون فعلاً برنامج خصومهم، أنصار "نارودنايا فوليا". إن الفرق في طريقة النظر إلى المشاعية الريفية، ومصائر الرأسماليّة في روسيا، والمادية الاقتصاديّة، كل هذه نقاط تفصيلية على درجة بسيطة من الأهمية بالنسبة للمهمة الفعلية، تيسر أو تعرقل حل قضايا خاصة وأساليب خاصة تتعلق بتحضير النقاط الجوهرية، لا أكثر« (ص 21، العمود1).
قد يدون من الغريب حقاً أن نحاول دحض هذه الموضوعة الأخيرة الزاعمة أن الفرق في طريقة النظر إلى القضايا الأساسيَّة في الحياة الرُّوسية وفي تطور المجتمع الرُّوسي، القضايا الأساسيَّة في تفهم التاريخ، لا يمكن أن يتعلق إلا "بنقاط تفصيلية"! لقد قيل منذ زمن بعيد: بدون نظرية ثورية، لا حركة ثورية. وليس ثمة حاجة اليوم إلى إثبات هذه الحقيقة. نظرية النِّضال الطَّبقيّ، المفهوم المادي عن التاريخ الرُّوسي والتقدير المادي للوضع الاقتصاديّ والسِّياسيّ الحالي في روسيا، الاعتراف بضرورة ربط النِّضال الثَّوريّ بمصالح معينة لطبقة معينة، بتحليل علاقات هذه الطبقة مع الطبقات الأخرى-، إن اعتبار هذه المسائل الثَّوريّة الهامة "نقاطاً تفصيلية" فادح الخطأ وغير متوقع من جانب نصير قديم للنظرية الثَّوريّة، بحيث أننا مستعدون تماماً لاعتبار هذا المقطع مجرد زلة قلمية. أما فيما يتعلق بالقسم الأول من المقطع المذكور أعلاه، فإن خطأه أشد وأبرز. فإن الإعلان في الصحف أن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس لا يفعلون غير أن يحشدوا القوى العُمَّاليَّة للنضال ضد الراسمال (أي للنضال الاقتصاديّ وحده!)، دون أن يحشدوا الشخصيات الثَّوريّة والجماعات الثَّوريّة للنضال ضد الحكم المطلق-، إن هذا يعني إما عدم معرفة وإما فقدان الرغبة في معرفة الوقائع التي يعرفها الجميع عن نشاط الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس. أو ربما أن لافروف لا يعتبر الذين يناضلون عملياً في صفوف الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين "شخصيات ثورية" و"جماعات ثورية"؟ وإما (ومن المحتمل أن هذه الفرضية الثَّانية أصح) أنه لا يقصد "بالنِّضال" ضد الحكم المطلق إلا المؤامرات ضد الحكم المطلق؟ (قارن ص 21. العمود 2: ».. فالمقصود.. تنظيم مؤامرة ثورية«؛ إشارة التأكيد منا). أو ربما، كما يزعم لافروف، أن الذي لا يحوك المؤامرات السِّياسيّة لا يخوض النِّضال السِّياسيّ أيضاً؟ إننا نعيد القول مرة أخرى: إن هذا الرأي ينطبق كلياً على التقاليد القديمة التي اتبعتها "نارودنايا فوليا" القديمة، ولكنه لا ينطبق إطلاقاً على الفكرة القائمة حالياً عن النِّضال السِّياسيّ، ولا على واقع أيامنا.
يبقى لنا أن نقول بضع كلمات عن أعضاء "نارودنويه برافو". إن لافروف على تمام الحق، حسب رأينا، حين يقول إن الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين »يوصون بأعضاء "نارودنويه برافو" على اعتبار أنهم أناس أكثر صراحة وهم مستعدون لتأييدهم دون أن يندمجوا معهم« (ص19، العمود2)؛ إنما ينبغي أن نضيف فقط: على اعتبار أن أعضاء "نارودنويه برافو" ديموقراطيون أكثر صراحة وبقدر ما يتكشفون عن ديموقراطيين منسجمين. ولكن هذا الشرط، مع الأسف، هو بالأحرى، أمنية المستقبل أكثر منه واقع الحاضر. لقد أعرب أعضاء "نارودنويه برافو" عن الرغبة في تخليص المهمات الدِّيموقراطيّة من الشعبية، وكذلك تخليصها بوجه عام من كل صلة مع الأشكال القديمة "للاشتراكية الرُّوسية"؛ ولكنه تبين أنهم أنفسهم كانوا أبعد من أن يكونوا قد تحرروا من الأوهام القديمة، وأبعد من أن يكونوا منسجمين، حين أسموا حزبهم، حزب التحويلات السِّياسيّ الصرف، - الحزب "الاجتماعيّ (؟؟!) الثَّوريّ" (راجع "بيانـ"هم في 19 شباط/ فبراير 1894) وحين أعلنوا في "بيانـ"هم أن "فكرة تنظيم الإنتاج الشعبي تدخل في مفهوم حق الشعب" (ونحن مكرهون هنا على الاستشهاد عن ظهر قلب)، فمرقوا هكذا خلسة نفس أوهام الشعبية. ولهذا، ربما لم يكن لافروف على تمام الخطأ حين نعتهم بأنهم "ساسة مساخر" (ص20، العمود2). ولكن ربما يكون من الأصح اعتبار النارودوبرافية مذهباً انتقالياً، لا يمكن الامتناع عن الإشادة بمأثرته إذ خجل من أصالة المذاهب الشعبية وخاض علناً وجهاراً غمار الجدال والمناظرة ضد أشد أعضاء الشعبية إغراقاً في الرجعية، أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بالقول، إزاء الحكم المطلق البوليسي والطَّبقيّ، بأن التحويلات الاقتصاديّة لا السِّياسيّة هي المرغوب فيها (راجع "المسألة الملحة"، إصدار حزب "نارودنويه برافو"). فإذا كان حزب "نارودنويه برافو" لا يضم فعلاً غير أناس كانوا سابقاً اشتراكيين ويخفون رايتهم الاشتراكيّة لاعتبارات تاكتيكية، ولا يفعلون غير أن يتقنعوا بقناع يظهرون فيه أنهم سياسيون غير اشتراكيين (كما يفترض لافروف، ص 20، العمود2)، فليس لهذا الحزب إذ ذاك، طبعاً، أي مستقبل. ولكن إذا كان هذا الحزب يضم أيضاً رجالاً سياسيين حقيقيين غير اشتراكيين، ديموقراطيين غير اشتراكيين، لا يتسمون بأية من سمات ساسة المساخر، حينذاك يمكن أن يكون هذا الحزب جزيل الفائدة، إذا ما سعى إلى التقرب من عناصر المعارضة السِّياسيّة في برجوازيتنا، إلى إيقاظ الوعي السِّياسيّ الطَّبقيّ عند برجوازيتنا الصَّغيرة، صغار التجار، صغار الحرفيين، إلخ..، عند هذه الطبقة التي لعبت دورها في الحركة الدِّيموقراطيّة في كل مكان من أوروبا الغربية، وخطت عندنا في روسيا خطوات سريعة جداً إلى الأمام في الميدان الثَّقافيّ وغيره من الميادين في الحقبة التي عقبت الإصلاح، والتي لا يمكنها أن لا تشعر بنير الحكومة البوليسية، مع ما تسديه من تأييد وقح لكبار الصناعيين، وكبار الطواغيت – احتكاريي المال والصناعة. ولهذا الغرض، ينبغي فقط أن يأخذ أعضاء "نارودنويه برافو" على عاتقهم مهمة قوامها بالضبط التقرب من مختلف فئات السكان، بدلاً من الاقتصار دائماً على "الأنتيلليغنتسيا" نفسها التي تعترف "المسألة الملحة" أيضاً بعجزها لانفصالها عن مصالح الجماهير الفعلية. ولهذا الغرض، ينبغي أن يتخلى النارودوبرافيون عن جميع ادعاءاتهم الرامية إلى دمج عناصر المجتمع المتباينة واستبعاد الاشتراكيّة عن ميدان المهمات السِّياسيّة، أن يتخلوا عن الخجل الكاذب الذي يعيق التقارب مع الفئات البرجوازيّة من الأمة، أي أن لا يكتفوا بالحديث عن برنامج الرجال السِّياسيّين غير الاشتراكيّين، بل أن يعملوا أيضاً وفقاً لهذا البرنامج، بإيقاظ وتطوير الوعي الطَّبقيّ عند تلك الفئات والطبقات الاجتماعيّة التي لا تحتاج إطلاقاً إلى الاشتراكيّة، ولكنها تشعر أكثر فأكثر بثقل نير الحكم المطلق وضرورة الحرية السِّياسيّة.
***
إن الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية لا تزال فتية جداً. فقد خرجت للتو من هذه الحالة الجنينية التي كانت فيها القضايا النظرية تحتل مكاناً أولياً. وبدأت للتو في تطوير نشاطها العمليّ. وعلى ثوريي الفئات الأخرى، بحكم الأمور، أن ينتقدوا نشاط الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس العمليّ، بدلاً من أن ينتقدوا النظريات والبرامج الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة. وينبغي الاعتراف بأن انتقاد هذا النَّشاط يمتاز إلى أقصى حد عن انتقاد نظريتهم، إنه يمتاز عن ذلك إلى حد أنه أمكن ترويج هذه الإشاعة المضحكة الزاعمة إن "اتحاد النِّضال" في سانت بطرسبورغ ليس منظمة اشتراكية – ديموقراطية. إن مجرد إمكان إشاعة كهذه يبين بحد نفسه خطأ الاتهامات الرائجة ضد الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين والزاعمة أنهم يتجاهلون النِّضال السِّياسيّ. إن مجرد إمكان هذه الإشاعة يشهد على أن كثيرين من الثَّوريّين ممن لم تقنعهم نظرية الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين، بدأوا يقتنعون بنشاط هؤلاء العمليّ.
إن مجالاً رحباً للعمل، يكاد أن يكون بكراً، ينفتح أمام الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة الرُّوسية. فإن يقظة الطبقة العاملة الرُّوسية، واندفاعها العفوي إلى المعرفة، إلى الاتحاد، إلى الاشتراكيّة، إلى النِّضال ضد مستثمريها ومضطهديها، يتجليان يوماً بعد يوم بمزيد من السطوع والسعة. والخطوات الهائلة التي خطتها الرأسماليّة الرُّوسية إلى الأمام في الآونة الأخيرة، تعطي الضمانة على أن الحركة العُمَّاليَّة ستنمو بلا انقطاع سعة وعمقاً. وفي الظرف الراهن، نجتاز، على ما يبدو، مرحلة من الدَّورة الرأسماليّة "تزدهر" فيها الصناعة، وتنشط فيها التجارة بالغ النَّشاط، وتعمل فيها المصانع بكل طاقتها، وتنبت فيها، كالفطر بعد المطر، كثرة من المصانع الجديدة، والمؤسسات الجديدة، والشركات المساهمة، والسكك الحديدية، إلخ..، إلخ..، ولا حاجة أن يكون المرء نبياً لكي يتنبأ بالإفلاس المحتم (الشديد إلى هذا الحد أو ذاك) الذي لا بدّ أن يعقب هذا "ازدهار" في الصناعة. إن هذا الإفلاس سيشيع الخراب بين سواد أرباب العمل الصغار، ويقذف بجماهير من العمال إلى صفوف العاطلين عن العمل، ويضع، على هذا النحو، أمام جميع الجماهير العُمَّاليَّة، وبشكل حاد، قضايا الاشتراكيّة والدِّيموقراطيّة، التي توضع منذ زمن بعيد أمام كل عامل واع ومفكر. فعلى الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس أن يحرصوا على أن يجد هذا الإفلاس البروليتاريا الرُّوسية أوفر وعياً، وأوفى اتحاداً، متفهمة لمهمات الطبقة العاملة الرُّوسية، قادرة على الرد على طبقة الرأسماليّين الذين يجنون في أيامنا أرباحاً فاحشة ويسعون دائماً إلى تحميل العمال خسائرهم، قادرة على السير في طليعة الدِّيموقراطيّة الرُّوسية وشن نضال حاسم ضد الحكم المطلق البوليسي، الذي يكبل أيادي وأقدام العمال الرُّوس والشعب الرُّوسي بأسره.
وهكذا إذن، إلى العمل، أيها الرفاق! ولا نضيعنّ وقتاً ثميناً! فعلى الاشتراكيّين – الدِّيموقراطيّين الرُّوس أن يبذلوا جهداً هائلاً لتلبية حاجات البروليتاريا التي تستيقظ، لتنظيم الحركة العُمَّاليَّة، لتعزيز الجماعات الثَّوريّة وصلاتها المتبادلة، لتزويد العمال بأدب الدعاية والتَّحريض، لحشد الحلقات العُمَّاليَّة والفرق الاشتراكيّة – الدِّيموقراطيّة، المبعثرة في جميع أنحاء روسيا، في حزب عمالي اشتراكي – ديموقراطي واحد!